عتب عليَّ بعض أحبةٍ بررةٍ

عتب عليَّ بعض أحبةٍ بررةٍ أني أكتب في بعض معاني المحبة كل حينٍ؛ فمن قائلٍ: لا يليق! ومن قائلٍ: لئلا يظن أحدٌ بك ظنًّا، ومن قائلٍ: لئلا يُستعان به على محذورٍ، ومن قائلٍ غير هذا.

حمد الله نصح كل باذلٍ ابتغاء مرضاته، وجعلني وإياكم ممن يتقيه حق تقاته.

أما تعليل الأعزة الأول فعليلٌ؛ فإن المحبة أرقى وأنقى وأوقى وأبقى ما برأ الرحمن، وليت ربَّنا الوليَّ الودودَ يفتح لقلوبنا -على نعمائه- أبوابها، وييسر لنفوسنا -في رضائه- أسبابها.

ولقد كتب سيدنا ابن القيم -قدَّس الله روحه- كتابه الفذَّ “روضة المحبين”، فأدهش الحب والمحبين، وكتب غيرُه قبله وبعده، مما لا يحصى نوعًا وقدرًا، إفرادًا وغير إفرادٍ.

وإنما يُلام المرء إذا اقتصر على الكتابة في هذا، أو أساء في معانيه بوجهٍ من الوجوه.

ولم يزل هذا الباب مهجورًا من عامة الإسلاميين! حتى اقتحمه بجاهليةٍ غير أهليه؛ ممن إذا استقام لهم فيه حرفٌ اعوجَّت منهم حروفٌ، وإذا شُفى بدواءٍ لهم قلبٌ أهلكتْ غيرَه حُتوفٌ.

وأما التعليل الثاني فجوابه من وجوهٍ أربعةٍ؛ أولها: إني -ولربي الحمد وبه المنة- في عافيةٍ مما قد يظن ظانٌّ، وإنما قلت: “في عافيةٍ” لأن للحب ضرَّاء كما به سرَّاء، وفيه من أنواع الشقاء مثل ما به من صنوف النعيم. الثاني: إن بعض الظن خيرٌ، وفي ظن أولي الرحمة والألباب بنا ما هو أوسع من ظنٍّ سواه وأجمل. الثالث: حصر المحبة فيما بين الرجال والنساء إملاقٌ وضَنٌّ، والذين لم يَطعموا الحب في أهليهم -آباءَ وإخوةً وأرحامًا- قلوبُهم ذاتُ مسغبةٍ، من دفع عنها جوعَها بسبيلٍ فرضيه الله، أما الذين لم يذوقوه في أصحابهم فأرواحُهم ذاتُ متربةٍ، وهم أولى الناس أن يقولوا: نحن محرومون. الرابع: أني صاحب مقولة “أيها المسيئون بنا الظن؛ نحن أسوأ مما تظنون” فلا ضير.

وأما التعليل الثالث فشكر الله قصد أهله لكن فيه ما فيه؛ فلو تُرك كل كلامٍ صحيحٍ في نفسه نافعٍ في غيره لمثل هذا؛ ما بقي شيءٌ صالحًا لشيءٍ، ولقد قال الله في وحيه الهُدى: “يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا” وإنه لَلحقُّ المحضُ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كيف بكلام عبادٍ محاويجَ يُسدِّدون فيه ما يقدرون! وإن عامة الأدوية التي خلق الله -يُستشفى بها- لضارَّةٌ في نفسها أو في تناولها بوجهٍ من الوجوه، وإنما العبرة برُجحان الكلام في نفسه وغلبة الظن على الانتفاع به.

كيف وأنا امرؤٌ بسط الله لقلبي من المحبة حظًّا عجبًا! حتى أني من فرط حب الحب أقول حينًا: ما حيلتي وأنا امرؤٌ أهوى الهوى؟! وحينًا مثلَه أقول: لعن الله الحب! ولا غَرْوَ؛ فما اجتمعت الأضداد في شيءٍ إلا فيه، ولا اتفقت ممكناتٌ ومستحيلاتٌ إلا به.

وإنه لتختلط روحي وقلبي وعقلي بمن أحب اختلاطًا عظيمًا، ثم أقوم عنهم جائعَهم وظامئَهم، أعلم أنه لا رواء لغُلتي ولا شفاء لعلتي؛ إلا خلودًا في روضاتهم برحمة الله في جنات النعيم.

ثم بسط العليم الحكيم لي -وهو من إذا أنعم كلَّف، وإذا كلَّف ابتلى- في نفوس كثيرٍ من الناس ممن أعرف ولا أعرف؛ فيرجعون إليَّ في كثيرٍ من أوجاعهم في هذا الباب وما اتصل به، وإني لأستفيد بهم علمًا وخبرةً فوق ما يستفيدون هم بي، لو كانوا يستفيدون.

اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك، وحب كل عملٍ يقربنا إلى حبك؛ أنت الولي الودود.

أضف تعليق