أيها المحبون مولاهم وإن عصوه كثيرًا، المبتغون رضاه وإن تقلبوا طويلًا؛ تعالوا.
من بديع كلام الإمام الجُنيد -رحمه الله- قولُه:
الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرةً، والمرائي يثبت على حالةٍ واحدةٍ أربعين سنةً.
قلت: تحقيق هذا -آمنَكم الله- من وجوهٍ ثلاثةٍ:
الأول: أن الصادق هو المستقبل وجه الله -سبحانه- في عمله، وهو -مع جدِّه واجتهاده في عمله- لا يرى ربه، فإذا زاد إيمانه في قلبه -بأسباب زيادته- عظُم إقباله على الله حتى لكأنه يراه، وإذا نقص إيمانه في قلبه -بأسباب نقصه- ضعُف إقباله على الله حتى لكأن الله لا يراه، تعالى الله خبيرًا بصيرًا. أما المرائي فهو المستقبل -في عمله- وجوه الناس، ولا يزال الناس شهودًا شاهدين، لا يغيبون عنه ولا يغيب عنهم، بل يجتمع بهم في عامة حياته، فهو على حالةٍ واحدةٍ -بينهم- من استقامة ظاهره.
الثاني: أن تسلط النفس والشيطان على الصادق أشد من تسلطهما على المرائي؛ فإن الصادق لا يزال يحمل نفسه -مجاهدًا شيطانه- على معالي الأمور وينأى بها عن سفسافها، وذلك سَجنٌ لها في التكاليف فوق سَجنها في الجسد، فهي تتفلت منه -بعون الشيطان- آناء الليل وأطراف النهار. أما المرائي فحَسْبُ نفسه وشيطانه منه ما هو فيه من فساد الحال، لذلك لما قالت اليهود لعبد الله بن عباسٍ -رضي الله عنهما-: إن الشيطان لا يوسوس لنا في صلاتنا. قال: “وماذا يفعل اللص في البيت الخَرِب؟”.
الثالث: أن تقلب القلوب بعامةٍ سريعٌ شديدٌ؛ كيف بقلوب الصادقين؟ وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إنما القلب من تقلبه؛ إنما مثل القلب كمثل ريشةٍ معلقةٍ في أصل شجرةٍ؛ يقلبها الريح ظهرًا لبطنٍ”، وقال -صلى الله عليه-: “لَقلبُ ابن آدم أسرع تقلبًا من القِدْر إذا استجمعت غليانًا”، وكان جُلُّ قسمه -عليه السلام-: “لا ومقلبِ القلوب”، وكان دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا: “يا مقلب القلوب؛ ثبت قلبي على دينك”. أما المرائي فإن قلبه -باستقبال وجوه الناس وآثار ذلك- في شغلٍ عن التحول.
بقيت إشارةٌ في كلام الشيخ إلى قيدٍ وبشرى:
فأما القيد؛ فإن قوله في المرائي: “يثبت على حالةٍ واحدةٍ أربعين سنةً”؛ دالٌّ على أنه لم يعن الرياء العامَّ الذي لا يزال يعرض للصادقين -من نفوسهم- فيدفعونه، بل هو -عِياذًا برحمة الله ولِياذًا بعافيته- رياءٌ خاصٌّ بأهله، يغدون به في الناس -مقيمين عليه- ويروحون.
وأما البشرى؛ فهي للشاكِين -من المحبين ربهم- تقلب قلوبهم كثيرًا، الظانين أنهم -بكثرة عثراتهم- على شفا هلكةٍ وأنهم منافقون؛ فنقول لهم -إرغامًا لأنوف الشياطين-: بل كذلك الصادقون؛ الذين يستقبلون وجه الله وحده -لا وجوه الناس- فيذكرونه حينًا وينسونه حينًا، وتتسلط نفوسهم والشياطين عليهم ما لا تتسلط على غيرهم، وتعرض الفتن لقلوبهم ما لا تعرض لسواهم.
أيها المؤمنون؛ ما بقيتم تقومون كلما عثرتم فأنتم محسنون، وما لقيتم ربكم تسيرون إليه فإنكم ناجون.