هذا الخميس؛ يوم صعود عمل الأسبوع إلى الله، وهذه ساعة بركة أقوات أوقاته.
أيها الناس؛ من كان منكم غافل القلب الآن؛ فليجتنب مجلس ضراعتنا الحُسنى هذا.
دعائي -هذ الوقتَ الشريفَ- لنوعٍ مخصوصٍ من عصاة الموحِّدين، لعبدٍ يعصي الله -علا وتعالى- بأنواعٍ من المعاصي عظيمةٍ، قد تعلَّق بها قلبه ومخُّه تعلُّقًا شديدًا، لا يعلم ما بلغتْ من نفسه وحِسِّه إلا الله، يائسٌ من نفسه أن ينزع عنها ويتوب منها؛ حتى صارت ذنوبه له عادةً لا يدرك كيف اقترفها ولا كَم، ينظر الناظر إليه -وهو متقلِّبٌ بينها مغموسٌ فيها- فيحسبه جريئًا فاجرًا لا يبالي بسخط الله شيئًا.
لكن من وراء هذا كله وما لا يحصيه إلا الله من أنواع السيئات ودركات الآثام وطُول الأوزار؛ من وراء ذلك جميعًا قلبٌ يحب الله، إي والله يحبه حبًّا، يحلف قلبه لو استُحلف باللطيف الخبير أنه يحب مولاه.
من وراء ذلك جميعًا -مهما كبت من ضياءٍ وكتم- نفسٌ ترجو هدى الله رجاءً، وتحذَر هجوم الموت عليها على حينٍ غفلةٍ منها، خطٌّ موازٍ فيه لا يخبره إلا الله علَّام غيوب القلوب خبير أطواء النفوس، خطٌّ يسير في نفسه مسرى خطوط خطاياه، لا يبصره -دقيقًا باهتًا خفيًّا- مَلَكٌ مقرَّبٌ، ولا شيطانٌ رجيمٌ.
من وراء ذلك جميعًا عقلٌ لو سُئل عن الله ورسوله والإسلام؛ لأعجب جوابُه الزُّرَّاع وأغاظ الكفار.
من وراء ذلك جميعًا روحٌ كَالَّةٌ مكدودةٌ، قد هدَّها طول تجويعها وإظمائها من أقوات طعام الوحي وشرابه، قريبةٌ من أعالي السماء بقدر ما هي نائيةٌ في سِجِّين الأرض، بينها وبين طوفانها حول العرش هَبَّةُ ريحٍ من رجاءٍ كريمٍ في ربٍّ هو باريها، ما خلقها يخنقها ويشقيها، بل خلقها يطلقها ويرضيها؛ هنالك تصعد إلى الله كافرةً بالسوافل مؤمنةً بالعوالي، تناطح الجَوزاء، وتزاحم الشمس في الجَلاء.
من وراء ذلك جميعًا فؤادٌ يمقت المعاصي بقدر ما يغرق فيها، ويشتهي الأوبة بقدر ما يقارب القنوط منها، قد سئم البِعاد المُضْنِي وأوحشته الغربة البئيسة، هو عبدٌ مظلومٌ من الجاهلية وإن كان لنفسه ظالمًا، قد أعانه على جناياته ما كبَّرت الجاهلية من الفتن حوله وكثَّرت، وكم سمع الله فؤاده يقول: لو أن الجاهلية رجلًا لقتلته؛ سُحقًا سُحقًا! أنَّى لا يبغض من باعده عن ربه، وحرَمه روضات الرضا؟!
من وراء ذلك جميعًا ظنٌّ بالرحمن جميلٌ يقول: عما قليلٍ يتجاوز العفوُّ الغفور عني؛ حتى لكأن شيئًا لم يكن قطُّ مني، برحمةٍ منه ليس كمثلها رحمةٌ، ظنٌّ بالحيِّ حسنٌ يقول: لا يدَعُني ربي فوق سوالف العمر الكئيب وسوابق الحياة المُعْتِمة مزيدًا؛ حتى يُحيي بحياته ما مات بين جنبيَّ من هوامد الخير وخوامده، ظنٌّ بالقيوم كريمٌ يقول: لا يترك ربي في قلبي فاسدًا إلا أصلحه بقَيُّوميته ومحا من نفسي آثاره، ولا صالحًا إلا باركه بقُدُّوسيته وأربَى أثاره؛ ذلكم العبد الذي جمعتكم عليه، وذلكم الله.
أيها الناس؛ من كان منكم قريبًا من هذ العبد؛ فليَشركني رجاء الله له، يبلغ ظنُّنا في إنقاذك اللهم له درجةً نرضى بلوغ قربك منها؛ ألستَ القائلَ البرَّ الرحيمَ: “أنا عند ظن عبدي بي”؟ اللهم إن ظننا في توبتك على حبيبنا يقينٌ لا ريب فيه، لا نشهد فيما نبتهل إليك به إلا جوابَك “قد صالحتُ عبدي”.
اللهم أنت من خلق في صاحبنا الفطرة التي أبقيت منها فيه ما أبقيت، وأنت من لم يسلبه بركاتها على ما قارف من بوائقَ ودواهيَ وأصرَّ إصرارًا، لا إله إلا أنت؛ بحقِّ رحمتك التي تسَعُه كما وسعتْ كل شيءٍ، وبغناك عن مؤاخذته وعن كل شيءٍ، وبقدرتك عليه وعلى كل شيءٍ؛ تب على أخينا قريبًا توبةً تدهشنا فيه، وحبِّب إليه ما أحببت وكرِّه إليه ما كرهت، واغفر له ما سلف كلَّه كلَّه مغفرةً أنت وليُّها ومولاها، وبصِّره بأسباب ثباته على سبيلك، وأعنه على ما عجز دونه منها، وحُل بينه وبين النُّكوص على عقبيه كما حُلت بين المشرق والمغرب، وابعثه في رحابك الرحمانية المحيطة بعثًا جديدًا.
إلهنا التواب؛ عبدُك يحبك ولا يستطيع، ويريدك ولا يقدر؛ عَبيدُك سواه كثيرٌ، وليس له سيدٌ إلا أنت.