“وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا”.
إن تكن رحمة الله الرحمة؛ فإن عذابه العذاب، توهَّموا مشهد الآية الرهيب.
لو جُمعت لذَّات شهوات الأولين والآخرين لعبدٍ واحدٍ، وتقلب بين أنواعها وكيفها وكمِّها حياتَه كلَّها، وكان عمره أطول أعمار العالمين؛ لم تهوِّن عن قلبه -ناكسًا بين يدي ربه- حسرةً واحدةً من حسرات موقفه العصيب، يوم يختم الله على فيه الذي كان يملأ الأسماع كلامًا فلا ينطق شيئًا، ويقهر سائر الجوارح أن تتكلم بما اقترف بها -مكرَهةً على مطاوعته- في الحياة الدنيا فلا تكتم شيئًا، حتى إذا خلَّى الله بينه وبين القول بعد حديثها؛ قال لها: “بُعدًا لكنَّ وسُحقًا؛ فعنكن كنت أناضل”؛ كأن جوارحه يومئذٍ عُمَّال مؤسسةٍ استخلف صاحبُها رجلًا عليهم فيها، وألزمهم طاعته فيما يشاء، وهم لصاحب العمل قومٌ مخلصون، فبغى عليهم المستخلَف وطغى، فلما انقضت مدة الاستخلاف، وجاء صاحب العمل ينظر ما عمل خليفته في المؤسسة وعُمَّالها؛ ألزمه السكوت وأذن لهم بالكلام، فتتابعوا يقصُّون عليه ما جنى به عليهم وهم له مقهورون؛ فيا لَله الهَوْلُ الهائل، والخَطْب الذي لا تسَعُه لَهَاةُ القائل! اللهم سلِّم سلِّم.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله”؛ حتى اللحم والعظم يَبُثَّان يومئذٍ شكواهما إلى الله ما أُكرها عليه من مكارهه.