يقال: إن داء الزمان “الاكتئاب”،

يقال: إن داء الزمان “الاكتئاب”، والحق أن داء الزمان “الهشاشة النفسية”، وكثيرًا ما يكون الاكتئاب ونحوه من العلل النفسية آثارًا لهذه العلَّة الفاتكة؛ فما سبَّبه في أكثر الناس حتى باتوا به هَزْلَى؟

سبَّبه غرَق إنسان الزمان في لُجَجِ الجاهلية الحديثة بفلسفاتها المادية الحَافَّة وقيمها العددية الجَافَّة، وضعف العلم بالله والتفقه بدينه والدراية بسُننه، وعُظْمُ البعد عن الغاية التي خلقه الله لأجلها تأمُّلًا من نظره وتأتِّيًا في عمله، والجهل المركَّب بطبيعة هذه الدار وما جُبلت عليه لتحقيق معنى الابتلاء بها والامتحان فيها، وانخساف بوصلة الحركة الإنسانية العامة انخسافًا شديدًا من المعاني العارجة إلى السماء إلى المادة الجاذبة إلى الأرض؛ حتى طغت خصائص المادة الفيزيائية على جمهرة الناس نفوسًا وأفكارًا وأخلاقًا، في تكالبٍ موَّارٍ وتنافسٍ دوَّارٍ أوله الإرهاق وآخره الإزهاق؛ في التحسينيَّات كأنها حاجِيَّاتٌ وفي الحاجِيَّات كأنها ضروريَّاتٌ، وقلة التزود من الطاعات الربانية اللازمة والمتعدية التي تقوِّي ظهور الناس في تحمُّل شدائد الحياة والتصبُّر لتكاليف الرسالة، والاعتناء في العبادات بالظاهر مزيدًا على الباطن، والإملاق الشديد من الوحي وما يُكسب أصحابه من القوة العقدية والنفسية، وانحسار عقيدة الزهد في الدنيا وما تخلُق في النفس من تجريد توحيد الرَّبِّ والتجرد في معاملة الناس، ودوران عامة الخلق في أفلاكهم الضيقة الخاصة بما عمَّقته قيم الحداثة العاتية في نفوسهم من “الأنا”، وما تفسَّخ بذلك من العلاقات الإنسانية الضرورية للقلوب وللعقول وللمنافع الجَمَّة، وشيوع الأنماط التربوية المُتلفة تدليلًا أو عنفًا لا فرق؛ في المحاضن الخاصة والعامة وما الله بأهوالها عليمٌ، والانفتاح الطاغي على وسائل التواصل حتى الإيناس بها والاستيحاش من الخلق، ووراثة طرائق الآباء السائدة بغير حقٍّ والتقيد بأعرافهم وإن كانت مدمرةً، والحكم على النفس -في التدين والدراسة والزواج والوظيفة والأخلاق- بموازين الناس الشائعة مهما زغتْ أو طغتْ، ومقارنتها بالأقربين في البيئة الخاصة والبيئة العامة والقنوات الواصلة بينهما، والانهزام النفسي أمام الغرب ومصنوعاته الجِدِّية والهزلية، مع جملة ما يكابده الناس بسياسات الطواغيت المهيمنة الفاجرة في دينهم ومعاشهم، وتغييب نماذج التأسِّي والاقتداء الواعية الصادقة بأنواع العزل، وجملة ما تحدِّده جاهلية الرأسمال الحديثة للناس في الحياة من مقاييسَ للَّذة، وما تعيِّنه لهم من طرائقَ محمومةٍ لإشباعها وتحدِّثها مسعورةً كل ساعةٍ، وما فتحت على الناس من نوافذَ وأبوابٍ لا يُحصَى عديدُها ولا يُستقصَى كيفُها في سبيل ذلك؛ حتى صار غالب رَكْضِ الناس في متابعة جديدها واللهَث في أسواقها، يُفني أحدُهم سحابة عمُره في الحصول على ما أرادته هذه الجاهلية له؛ لا ما يريده هو لنفسه ولا ما يريده له الله، فيتضاءل -بين هذا كله- ما يُثبت به ذاته ويحقق به وجوده من منجزات المعرفة والعمل والإحسان؛ هذه التي تقيم صلب الإنسان في نفسه وبين الناس إقامةً حقيقيةً لا زائفةً، وهو في اصطخاب هذه الأمواج العالية بين دواماتٍ معلوماتيةٍ كثيفةٍ غير محدودةٍ؛ متاحةٍ لكل أحدٍ في كل معنىٍ وفي كل شيءٍ، إلَّا تسبقْ له المعافاة من الله تَصْدَعْه صَدْعًا؛ فتَشوَّه من فطرته ما تشوَّه، وتحَيْوَن من آدميته ما تحَيْوَن، وغلبت على إنسان الزمان -بقيمه المضطربة الرقمية، ومعاييره المتناقضة النسبية- “السيولة”؛ سيولةٌ عقليةٌ فلا رواسخ دينيةً أو قيميةً تثقِّله وتثبِّته، وسيولةٌ عاطفيةٌ أحالت التعلق البشري الطبيعي بالأشخاص والأشياء والمعاني؛ إلى صورٍ غريبةٍ من الشَّرَه والشَّطط مُغرقةٍ مُحرقةٍ، وسيولةٌ نفسيةٌ تجعل صاحبها مبعثَرًا مفكَّكا إلا قليلًا منه برحمة الله، وسيولةٌ اجتماعيةٌ تُشتت الإنسان في علاقاتٍ واقعيةٍ وافتراضيةٍ صوريةٍ لا تتناهى؛ حظُّها من الحب لونُه ومن التراحم طعمُه ومن التدافع رائحتُه، وسيولةٌ جسديةٌ بصنوف منتوجاتٍ غذائية وجنسيةٍ وملابسَ ومراكبَ رهيبةٍ؛ حتى جرَّفت تربة الفطرة وحرَّفت ربانيتها؛ فإذا نفسُ إنسان الزمان أحاديثُ ممزَّقةٌ كلَّ ممزَّقٍ، وإذا هي عاجزةٌ عن إطاقة أيسر التكاليف واحتمال أهون البلايا، مَسُّ الحرير يجرحها وقطرات النسيم تخدشها، وافرة الأنين مسرفة الشكوى، يهدُّها أذى الناس هدًّا، عظيمة الشعور بالهوان، لا تكاد تشهد خيرًا أولاها الله إياه، شديدة التعلق بمن تحب تلوذ بهم وتتوارى فيهم، سريعة التقلب بين الانقباض والانبساط والمراوحة بين الإقبال والإدبار، تتسول التعاطف من كل أحدٍ على كل حالٍ، تغالي في المحاكاة والتقليد، ترفعها كلمةٌ وتخفضها أخرى؛ إلا من عصم الله وقليلٌ ما هم.

تلكم “الهشاشة النفسية”، وهذه جمهرة أسبابها؛ المحفوظ من بصَّره الرحمن بها، والمحظوظ من أعانه على اجتنابها، لا مستعان فيها إلا الله الخبير القدير وحده، ومن عجيب ما يُروى في ذلك عن الفاروق المُلهَم عمر -رضي الله عنه- دعاؤه: “اللهم إني لا أسألك خفة الحمل؛ لكني أسألك قوة الظهر”.

هذا منشورٌ لا يحصر أسباب “الاكتئاب”؛ بل له أسبابٌ باطنةٌ وظاهرةٌ أخرى يعلمها المشتغلون بالدرس النفسي، كما لا يعرض معالجته؛ بل يشير بالوعي إلى طرفٍ منها، وربُّنا الرحمن مولى العافية.

أضف تعليق