ما حكم الترحم على الفنانين

ما حكم الترحم على الفنانين يا هذا؟ يسألني -كلَّ نُفُوقِ وغدٍ منهم- سائلون.

أيها السادة وبوركتم أجمعون؛ أضرع إلى ربي قبل جوابي أن تنبسط لي نفوسكم فتحتملوني؛ كما تنبسط لمن تسألون عنهم فتحتملون منهم، وأذكِّركم أني لم أبلغ بعدُ في الشِّرِّيريَّة ما بلغ الإخوة الفنانون.

أيها الهَتَّافون بالمجد آناءَ الليل وأطرافَ النهار، المالؤون بأحاديث النصر أجواء العالَم صخبًا؛ قبل أن تبحثوا حكم الترحم على الفنانين وهم الفئة القائمة بأنواع الفسق كلها قيامًا جماعيًّا، يتقلَّبون فيه ويجاهرون به ويحضُّون عليه؛ ابحثوا حكمه عقديًّا وهم الفئة المتحيِّزة للسلطة الطاغوتية المحاربة الإسلامَ تحيُّزًا عمليًّا جليًّا، لا يجحده إلا من طمس الله بصره وبصيرته جميعًا، وقبل هذا وذاك؛ ابحثوا حكمه حضاريًّا وهم الفئة المسؤولة -في ميزان الله وأُولي النُّهى- عن خَسْف الأمة دينيًّا وأخلاقيًّا، جيلًا بعد جيلٍ، وقبل هذا وذاك وذلك؛ ابحثوا حكمه نفسيًّا وهم فئةٌ لا تبالي بكم -إذا غرقتم أو أُحرقتم- في قليلٍ ولا كثيرٍ، ولا قَبيلٍ ولا دَبيرٍ، وهم -من قبلُ ومن بعدُ- طائفةٌ من طوائف الاستبداد بالمال وطيبات البلاد دونكم، وعامَّتنا تحتَ تحتِ خط الفقر الباهت، لا يُحسِّون منا أحدًا ولا نسمع لهم رِكْزًا.

قال قائلٌ: فمن تاب منهم؟ قلت: من أظهر توبته كما أظهر فجوره؛ فمغفرتَك اللهم له ورحمتَك.

لقد يظن كثيرٌ منكم بكثيرٍ من إخواننا المترحمين على الفنانين -إذا غاروا في داهية- خيرًا، وأنهم رُؤَفاءُ رُحَماءُ في هذا، قد بُسِط لهم -في مقام الموت- من السماحة ما لم يُبسط للمتوحِّشين أمثالي! لقد رأيت من هؤلاء من تضيق نفسه بمخالفٍ له في بعض رأيه فيرزعه “البلوك” لا يبالي؛ بل يتبجح أنه لا يشفيه في أخيه إلا هذا، ثم هو هو الذي يتسمَّح مع الفسَّاق فيتقبل منهم ويتجاوز عنهم؛ مع ما للمرزوع بلوكًّا من حظٍّ وافٍ من شُعَب الإسلام، وما للمَحظيِّين بترحمه عليهم من جُمَل نواقض الإسلام!

لا عجب لدي في هذا؛ فمن عصى الله في ولائه عاقبه في برائه، وجزاء الدَّيَّان من جنس العمل.

لا أُحصي كم وقعت عيني -في هذا الكوكب- على مترحمٍ على أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب! على ثلاثتهم في أجداثهم من الحق ما يستحقون، يحسب المترحم عليهم نفسه إكس إكس إكس لارج، ويرى ذاته رَحْبَ القلب واسعَ العقل؛ بينما نحن قومٌ بؤساء مرضى جديرون بالشفقة والمعالجة.

أوليست أم كلثوم المغنية -أَمَةً عجوزًا رخيصةً لسيدها جمال- بعد الهزيمة الساحقة سنة سبعةٍ وستين: “ابقَ فأنت السد الواقي لمُنى الشعب ** ابقَ فأنت الأمل الباقي لغَد الشعب ** أنت الخير وأنت النور ** أنت الصبر على المقدور ** أنت الناصر والمنصور”؛ إلى غير ذلك من نجَس رَجِيعها ونحْسه!

“قول ما بدا لك ** احنا رجالك”؛ أليس العندليب المتقيء بها! أوليس هو -بِغَضِّ البصر هنا عن آثاره التاريخية الجغرافية- الذي عاش عمره يغني لمولاه جمال، ثم لمولاه السادات، وبينهما بعد النكسة -حين فقد بوصلته لما أَفَلَ إلهُه الذي أَلِفَ فؤادُه تألُّهَه- كان من مشهور حيرته في “لبنان” ما كان!

“والله وعرفنا الحب ** والحب .. في بلدنا اتعلمناه ** من يوم ما صادفنا القلب ** والقلب .. أطهر قلب عرفناه ** كان هو حبيب الشعب ** والشعب .. شاف ليلة قدرُه معاه ** بأرواحنا عاهدناه ** وبحياتنا ناصرناه ** أكبر من ده حب مفيش غير حب الله .. وحبيب الله”؛ بالَها في آذان جماهيره عبد الوهاب بعد هزائم ربِّه المتتالية، وبعد مذبحَتي أربعةٍ وخمسين وستةٍ وستين؛ في دواهيَ مُرَّةٍ لا تُنسى!

أغرى فاسقٌ ولدك -عصمه الله- بالفسق، فشَرَد عما خُلق له وهو مَجْزيٌّ به حتى مات منقطعًا عن السبيل، وصَال صائلٌ على والدتك -كرَّمها الرحمن- فرماها بالزنا، وأصرَّ البغيضان على ما اقترفاه، فلم يَؤُوبا ولم يتحلَّلا؛ أفكنت إذا ماتا تجهر عبيطًا بالدعاء لهما! ويحك ياض! فُوق يا مْدَهْوِلْ.

على الرأس والعين ولدك ووالدتك وأنت والذين جاؤوا بك والذين تجيء بهم؛ أَيْشْ تساوون أجمعون -رفع الله درجاتكم- في جنب أمةٍ تَمسخ طائفة الفنانين -بطرائقَ لا يُحصى قديمُها، ووسائلَ لا يُستقصى جديدُها- عقائدَها، وتزلزل ثوابتها، ثم تستقبل جهنم -إلا ما شاء الله- بسببهم -وأمثالِهم- من الناس زُمَرًا! متى تساوي بين دينك ونفسك في الحَميَّة! متى تقيم الميزان -منكِّسًا هواك- كما ألزمك الله!

“تشعرون بالنقاوة، تتوهَّمون العصمة، تدَّعون الطهر، كأنما خُلقتْ لكم الجنة حَصْرًا”؛ كذلك يقول المدلسون المفتونون إذا قرؤوا حرفًا كهذا أملاه علينا ودُّ الإسلام، وجاتهم نيلة على كل حال.

“تسلم الأيادي ** تسلم يا جيش بلادي”؛ لم لا يُدْعى غدًا لأولئك الخنازير الذين غنوها لخنثى الطواغيت بعد محرقَتي رابعة والنهضة، يرقصون بكلماتها -سِبَاعًا جائعةً- على جثثنا المتفحِّمة! ومقام الموت -إذا هلكوا- هو المقام لا فرقَ؛ لم لا! الحقَّ أقول لكم: إن الفرق الأوحد الكامن في نفوس إخواننا -وإن لم يشعروا به- بين حكيم وإيهاب وعجَّاج وسائر الحُمُر التي نهقتها، وبين أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب؛ إنما هو لغة الغناء وحُسن الصوت وجودة الأداء، يا أيها المخمورون؛ أفيقوا أو موتوا.

لئن نسي قلبي فلم ينس مخي طالب علمٍ -لم أزل أحبه في الله- ألغى إضافتي يومًا، وقال لي -في خصومةٍ بينه وبين أخٍ، لم أكن له فيها بما يحب اجتهادًا مني-: لأخاصمنك بين يدي الله! تذكَّر عزيزي القارئ؛ لم تكن الخصومة بيني وبين هذا الكريم أصلًا؛ هو هو حبيبي -أصلح الله باله وحاله ومآله- يترحم على أم كلثوم ويذكُرها بسَعَة الحفظ! لست أدري؛ ربما لو كان لي صوت “الست” العجب وأداؤها الأعجب؛ لكان أخي أوفى بي رفقًا، أو لعله يجود علي إذا متُّ بما ضنَّ به علي حيًّا.

“أُصيب فاروق الفيشاوي بالسرطان؛ دعاءَكم له”؛ أحلف لك بين الركن والمقام -يا صديقي- بكل أسماء الله الحسنى؛ لو بقي موضعٌ في جسد هذه الأمة لم يَدْهَمْه سرطانٌ فاتكٌ؛ فلأدعون الله للسيد “الفيشاوي” بشفاءٍ ليس كمثله شفاءٌ ، وللسِّت “سمية الألفى” التي طلقها قبل ربع قرنٍ من الزمان ببركةٍ ليس وراءها بركةٌ، وللابن الغالي “أحمد الفيشاوي” أن يلهمه الله تغيير صورة وَشْمِه في عنقه وذراعه؛ تجنبًا لسآمة محبيه منها، ورجاءً أن يعدل بين أعضائه الأخرى فيَشِمَها كذلك. قال صديقي: أتتخذني هزوًا! قلت: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين؛ إنما أدعو لهم معه إمعانًا في برِّه ومبالغةً في الوفاء له، ثم قد ذكَّرتني -من حيث لا تحتسبُ- مئةً وأربعين فيلمًا وسبعين مسلسلًا وأربع عشرة مسرحيةً؛ كَدَح الرجل في تمثيلها في خمسةٍ وأربعين عامًا كَدْحًا؛ تقبلها الله بأحسن القبول، ونفعنا بخيرها ومن بلَغَتْ.

يا من لم يخلق الله مثلهم رُفقاءَ بالناس وإن شطُّوا في السوء ما شطُّوا؛ لم تخرسون عن الدعاء لجهاديِّين تخالفونهم في المناهج والوسائل إذا قُتلوا؛ وإن طريقهم -مهما جمَّت خطايهم- لهي الطريق!

أمَا والله خيرِ الفاصلين؛ لا أرى من يترحم على الأبعدين إلا مرذولًا مخذولًا؛ نعوذ برحمتك اللهم من الضَّعَة والهُون، ومن الخَسْف والدُّون، ونسألك الرِّفعة والسَّناء، والعزَّة والإباء؛ لا مولى لنا إلا أنت.

أضف تعليق