عن صادق الوعد إسماعيل؛ صلَّى الإله عليه وعلى آله.
“وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا”.
لِعقلك أن يبلغ عنان السماء تفكُّرًا؛ بمَ استحق إسماعيل امتداحَ الله السرمديَّ بهذا!
“إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ”؛ بهذه الشَّميلة بدأ الله قبل ذكر الرسالة والنبوة؛ فإن كمالات الأنبياء البشرية سابقةٌ كمالاتِهم الرسالية، ولو كانت النبوة كَسْبًا لا وَهْبًا لبلغ الأنبياء رُتبتها مطمئنين، ولو لم يَصِرِ الأنبياء أنبياء لكانوا أكمل الناس نفوسًا وأخلاقًا، ولَمَا استحق الرِّيادة قبلهم أحدٌ في العالمين.
“إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ”؛ قيل: وعد رجلًا أن يلقاه بموضعٍ فلم يجئ، فانتظره يومًا وليلةً، وقيل: ثلاثة أيامٍ، وقيل: بنى مسكنًا له بالموضع وانتظره سنةً! تلك الدرجة من تمكِّن المكارم في الأعماق هي التي تعجب الله فيزكِّي بها أصحابها؛ فأما الغُثاء المُطبِّلون فيتقارضون المديح بَيْعَ الرِّمَم للذِّمَم.
ذهبَ الرجالُ المُقتدَى بفعالهمْ ** والمنكرونَ لكلِّ أمرٍ منكَرِ
وبقيتُ في خَلَفٍ يُزيِّنُ بعضُهمْ ** بعضًا ليدفعَ مُعْوِرٌ عنْ مُعْوِرِ
“إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ”؛ كل مدحٍ زائفٍ إلى زوالٍ مهما طال، واعتبر بابن عبد الناصر الخاسر في الدهر “جمال”، وانظر كيف تهاوت أمجادُه المُخلَّقة بالدَّجل والإكراه نصفَ قرنٍ بئيسٍ في أيامٍ معدوداتٍ؛ بأَلْشٍ عابرٍ! “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً”، وإنْ أبقاه الله حتى يُفتن بالقسط المفتونون.
لا يدركُ المجدَ إلا سيِّدٌ فَطِنٌ ** لِمَا يَشُقُّ على السَّاداتِ فعَّالُ
لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُّهمُ ** الجُودُ يُفقرُ والإقدامُ قتَّالُ
“إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ”؛ بصيرةٌ من الله إلى طالبي الأمجاد بالمجَّان، وهي عامةٌ في المؤمنين والكافرين، من أعطى لمَحْمَدةٍ من الأخلاق نفسَه كلَّها، وأنفق عليها من حُرِّ وقته وأصل قوته وخالص كدْحِه ورأس ماله؛ أعطاه الله في الدنيا ما شاء من عوائدها، ويبقى ثواب الآخرة لمن آمن بها.
أمَا والذي لا يَعلمُ الغيبَ غيرُهُ ** ويُحيي العظامَ البِيضَ وهيَ رميمُ
لقدْ كنتُ أطوي البطنَ والزادُ يُشتهى ** مخافةَ يومًا أنْ يُقالَ لئيمُ
بهذه العجائب وأشباهها جعل الله الخُلْد لذكر حاتمٍ الطائي في العالمين، وترك عليه الثناء بالسخاء في الآخِرين؛ حتى نُسِب إليه الكرم وعُرِّف به الكرماء، وقد كان بالله كافرًا لا يجُود ابتغاء مرضاته، ونحوُه ابنُ جدعان؛ سنةَ الله فيمن فَنِيَ فيما أحبَّ إلى أن تقوم الساعة، والله خير الشاكرين خَرْجًا.
توفيق عكاشة والخليل كوميدي، وأشباههما من المبيدات البشرية القاضية على ما بقي من ضَآضِئنا؛ بذلوا لأنفسهم -بأبوال الأقوال وأغواط الأفعال- ما لو قُسِم على أمةٍ من جَعْجَاعي الحق لوَسِعَهم، قال قائلٌ: أَبِعَتَهِ مخسوفي الخلق تضرب المثل! قلت: فأروني مَثَلَكم أنتم أيها السادة الحُكماء.