“أهواكْ .. واتمنَّى لو أنساكْ .. وانسَى روحي ويَّاكْ .. وانْ ضاعتْ تبقى فداكْ”.
بعد حديثٍ ذي شُجونٍ عن الصلاة والنفس والحياة -وصوتُ عبد الحليم حافظ يملأ بها التاكسي- قلت لسائقه المسكين في الغناء والمعازف ما أفاض به الرحمن، فكان مما قال لي: أنا نفسي أفهم ازاي مبتحبُّوش عبد الحليم! فصدمه الجواب؛ سِيبك من بحبُّه أو مبحبُّوش؛ انت بقى لو بتكرهه مش هتعمل فيه أكتر من كده! قال لي: وانا بعمل له إيه! قلت له: عبد الحليم مات سنة 1977، انت بقى بعد 40 سنة -ولمجرد استمتاعك- بتجدِّد عليه العذاب في قبره من معاصي لم يتب منها! انت لو بتحبه بجد -وهو مينفعش يتحب وأمثاله لأمور كتيرة- فارحم ضعفه وقلِّة حِيلته وكفاية عليه أوي كده.
إن حقيقة المحبة الصُّورية لكثيرٍ من الفجار هي الكراهية العظيمة لهم، وحقيقة الإشفاق الشَّكلي على كثيرٍ من الزنادقة هي القسوة الشديدة عليهم؛ وهو ما لا يَنْطَلي بحالٍ على السادة النابهين.
ما فضح دَعَاوَى الحب ولا هَتَكَ مزاعمَ المحبين خُلقٌ؛ كالأَثَرة (الأنانية)؛ إن هؤلاء الذين يُكَثِّرون خطاياكم عند ربكم الحسيبِ -تعالى- لا يحبونكم؛ إنما يحبون أنفسهم فيكم محبةً كريهةً، إني إذا جاهرت بشهوةٍ أو شبهةٍ -أجارني الله وإياك من فتنتَيهما- فسَرَّك ذلك؛ فما أنت بمحبٍّ لي وإنْ أَرْغَيْتَ وأَزْبَدْتَ، إنْ أنت إلا متعشقٌ حرامًا مما تعجز عن إظهاره بعلةٍ من العلل، أو أن ظهورَه في الواقع دون ما هو في نفسك، فلما كفيتك مؤنتَه -فأبديتُه وأعلنتُه- ابتهجتَ بهذا، وقديمًا قال العارفون بالله والنفوس: “ما من نفسٍ إلا وفيها ما في نفس فرعون؛ غيرَ أن فرعون قدَر فأظهر، وغيرُه عجز فأضمَر”.
امرأة ٌتنزع حجابها وتحُضُّ -في ردَّةٍ وتعهُّرٍ- بنات الإسلام على ذلك، ولم تكن لتركب هذا الناقضَ من نواقض التوحيد -جريئةً على الله- إلا بعد انحلال عُقَدٍ من الإسلام في ظاهرها ونَقْضِ عُرًى من الإيمان في باطنها كما هو قانون النكوص على الأعقاب؛ لا ظُلم لها من أدعياء محبتها والإشفاق عليها كإقرارها على سخط الله ولو بلايك من بنانٍ في أصبعٍ ذاتَ ساعة غضبٍ لله، فأما أبناء الآخرة الذين يقومون بحق الله فيها حافظين حدودَه؛ فأولئك المشفقون عليها من عذاب الله حقًّا وأولئك هم الصادقون.
أيُّ رأفةٍ في قلب من يُعِين إنسانًا على اقتحام جهنم؛ بموافقته على كبيرةٍ من الكبائر العقدية أو العملية أو الأخلاقية في حياته أو بعد مماته! إنْ هو إلا سَبْعٌ ضَارٍ من سباع هذه الغابة البئيسة.
يومَ ماتت فتاةٌ على الإلحاد فيما شهدتْ به على نفسها، وانقسم أهل الزمان فيها قسمتَهم في كل جليلٍ وحقيرٍ؛ قلَّةٌ صَدَعَت بالحق الأوحد في شأنها فقالت فيها بقول الله والرسول والإسلام والمسلمين أجمعين، وكثرةٌ باعت دينها -أعني الذين كان لهم دينٌ يومئذٍ لم يبيعوه من قبلُ- فادَّعوا لها -بكل تناحةٍ ووقاحةٍ- ما برئتْ هي منه، ومخنثون بينهم لا التوحيدَ نصروا ولا الإشراكَ كسروا، وأولئك أشنع من البائعين دينَهم في صورة كلامهم الخنثى، وإن كانوا أقرب للشاهدين بالحق في حقيقة اعتقادهم.
وقتَئذٍ قلت في نفسي ولبعض أحبتي: هؤلاء الذين يملؤون الفضاء (هَبْدًا وهَرْيًا وهَرْتَلَةً) عن الرحمة بها والرِّثاء لها -وبقطع النظر عن حُكم الإسلام فيهم- هؤلاء قساة القلوب غِلاظ الأكباد دجالون، ولو كانوا رُحماء صدقًا؛ لرفقوا بأولياء الله الذين ما قالوا فيها إلا بقول ربهم وَجِلين منه أن يُفتنوا فتنتَها، ولخافوا على ضعاف الإيمان أن تزيغ قلوبهم بتهوين الرِّدَّة عن الإسلام برحمةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ، ومن قبلُ ومن بعدُ لو كانوا مؤمنين لجعلوا لله والرسول والإسلام نصيبًا مما جعلوه للردة وأهلها؛ واغوثاه رباه!
إن حق حبِّ من تزعم حبَّه أن تحجزه عن غضب الربِّ عليه في الدنيا، ويوم يغضب غضبًا لم يغضب قبلَه مثلَه ولا يغضب بعدَه مثلَه؛ لا أن تكون له على مغاضب ذي الانتقام عَضُدًا وظهيرًا.
“إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ”؛ ما كان الله ليجعل الشجرة الملعونة طعامًا لآحاد العصاة؛ بل هي للأثيم منهم، والأثيم كثير الآثام، ولا تكثر آثام إنسانٍ إلا بين قومٍ لا يزجرونه عنها بكل وسيلةٍ زجرًا، فكان الجزاء من جنس العمل؛ من ظل يسقي بذور الخبائث في أصل قلبه حتى صارت أشجار فتنٍ في الواقع تُطعم الناس معه؛ جعل الله طعامه وإياهم من شجرةٍ تنبت في أصل الجحيم جزاءً وِفاقًا.
إنك لن تتصور شجرة الزقوم في النار وكيف طعامُ أهلها منها هناك؛ حتى تتصور سيئات أهلها الأثيمين هنا وكيف اقترافُهم لها وتواصيهم بها؛ “إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ”؛ إنها صورة أشجار الخطايا في الدنيا قبل أن تكون صورة شجرة الزقوم في الآخرة، وصورة أهلها اليوم -إذ يتداعَون إليها، يُكَثِّر بعضُهم بعضًا؛ ابتغاءَ الامتلاء بها- قبل أن تكون صورتَهم غدًا، ولو أن أهل طُهْر سماءِ الله اجتثوا أشجار أقذارِ الشيطان في الأرض؛ ما كان لها قرارٌ.
“مَا لِيَ لَآ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ”؛ هذه عَزْمَة نبيٍّ لا يَهزل، خرج طائرٌ عن طاعته مرةً واحدةً فتوعَّده هذا الوعيدَ المُريعَ، وما كان سليمان الحكيم -لو فعل- طائشًا قاسيًا؛ اليوم ألوف الناس يخرجون عن دين الله أجمع، ولا سليمان لهم!