“المُلك عقيمٌ”؛ كذلك قال الناس

“المُلك عقيمٌ”؛ كذلك قال الناس قبلنا فكأن لم يقولوا.

لو كان تحذير الإسلاميين المُقَلَّمَة عقائدُهم من انقلاب عدوهم عليهم -بعد تبليغهم صورة الحكم اضطرارًا- في آيةٍ من كتاب ربهم تتلى عليهم قبل الانقلاب؛ ما قرءوها، ولو قرءوها ما نفعتهم شيئًا؛ لأن آيات الله -جلَّ ثناؤه- وأحاديث رسوله -صلى الله عليه وسلم- كالمسامير قوتها شتَّى؛ لكنها لا تُدَقُّ إلا في جُدُرٍ حديديةٍ صُلبةٍ، فإذا دُقَّت فيها ثبَتت بإذن ربها، هنالك يعلِّق أصحابها عليها ما يشاءون.

سمعت مرةً شيخنا الوليَّ الحكيم رفاعي سرور -رفعه الله درجاتٍ، وسرَّه يوم الحسرات- يقول: “سُلَّم التنازلات كالسُّلَّم الكهربائي؛ ما على النازل عليه إلا أن يضع قدمه على أول درجةٍ منه”. نعوذ بالله من مبادي الخزي والخذلان جميعًا.

أيكم يصدق أن هذا الغنوشي المخسوف بدينه ونفسه وعقله جميعًا؛ كان يومًا من الأيام -فيما رأيناه- أحد الصادعين بالحق لا يخافون في الله لومة لائمٍ! فانظروا ما صار إليه في أعداء الله والحق والعدل والحرية شيئًا فشيئًا، ثم انظروا هل رضوا عنه بعد ذلك! ثم سبِّحوا الله ربكم أحكمَ الحاكمين وخيرَ الفاصلين.

لم تكن الآية من سورة البقرة لتقول: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تكفر بدينك؛ بل ما كانت لتكون إلا كما قالها الله: “وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”؛ فإن المنهزم من المسلمين قد يخرج من دينه جملةً ويدخل في دين عدوه جملةً؛ لكنَّ عدوه لا يرضى عنه حتى يكون متبعًا له في ملته كلها، لا يدَع شيئًا فيها إلا آمن به باطنًا واتبعه ظاهرًا، فإن فعل ذلك رضي عنه، ثم إذا نازع بعضهم بعضًا في الحُكم جرَت عليهم سُننه بما شاء الله.

“فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ”؛ سبحان منزِلِها وتعالى! لم يزل هذان السببان هما الحائلَين بين المفرِّطين في الحكم بما أنزل الله وبينه تاريخًا وجغرافيا، مِن الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تخالط بشاشتُه قلوبَهم، “وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا”.

خشية الناس من دون الله؛ وبها يكون لَبْسُ الحق بالباطل أولَ مراحل الفتنة، ثم كتمان الحق في مرحلةٍ ثانيةٍ، ثم إيثار الباطل على الحق في مرحلةٍ ثالثةٍ، ثم محاربة الحق وأهله بكل وسيلةٍ آخرَ مراحل الطريق. هذا السبب الأول، والسبب الثاني: بيع الدين بالثمن القليل من الدنيا؛ كطلب رضا المستكبرين في الأرض، والتقرب إليهم بترك ما يحبون وفعل ما يحبون، وابتغاء الإذن منهم بصورة التمكين الهشَّة الرخيصة، والطمع في فارغ الحُكم وحقير المال وسافل الجاه.

الآن حسب أكثركم أن السياسة الحقة في الإسلام الحق ضيقةٌ مغلقةٌ لا تعرف إلا شدَّ وأخواتها؛ فإنها -والله- ليست كذلك؛ بل علَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -إذ يسوسهم ويسوس بهم- الإعلان والإسرار، والتقديم والتأخير، والصلح والحرب، والمفاوضة والإباء، يرعى أطباق القوة والضعف التي يُرْكِب الله فيها عباده طبقًا عن طبقٍ حق رعايتها، يشهد الله لحكمته والعالَمون.

قال قائلٌ منكم: فما سياسات الإسلاميين إلا كذلك؛ إعلانٌ وإسرارٌ، وتقديمٌ وتأخيرٌ، وصلحٌ وحربٌ، ومفاوضةٌ وإباءٌ. فأي فرقٍ بين الأمس واليوم! وفيم الطعن عليهم وهم يحاولون! قلت: الفرق واحدٌ لا شريك له؛ رسوخ الغاية من السياسة كلها: تعبيد الناس لله، والتمييز العملي على أساسه بين المحتمِل وغير المحتمِل من تصرفاتها؛ وفي ذلك يقول الله محْكِمًا أمره: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”؛ جعل الله التمكين غايةً لما قبله من السياسة ووسيلةً لما بعده من العبادة.

مَن فقِه هذا لم يُصرف قلبه بشيءٍ من زخرف الحُكم وبريقه، مشغولًا كيف توحيدُه كلَّ خطوةٍ من طريقه. ألا قاتل الله أمراض الزمان البئيسة؛ السيولة والتفكيك والبعثرة في العقائد والشرائع والأخلاق، وتصدَّق اللهم علينا بالهدى والاستمساك في تُروكنا وأفعالنا، تُرينا ما بقينا الحق حقًّا وترزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وترزقنا اجتنابه، والطف بمساكينك الموحدين في تونس المُسْتَرَقَّة؛ عصمةً لهم من موارد الفتن، وتسديدًا بالحق وتأييدًا، وبصِّرهم بمكر عدوك ما ظهر منه وما بطن، وأمكِنهم منهم غافرًا لهم تائبًا عليهم؛ لا إله إلا أنت العزيز الرحيم.

بأول تعليقٍ منشورٌ قديمٌ مطوَّلٌ لمن شاء منكم زيادةً؛ تجاوز الله عني وهداني.

أضف تعليق