أين فلانٌ؟
– بعُد عن الله كثيرًا.
لا أسألك: كيف هو؟ أسألك: أين؟
– بعُد، فبعُدت عنه.
ويحك! من علَّمك هذا! أخوك أحوج إليك بعيدًا.. كيف أخوك نبِّئني؟
– رجع إلى صحبة السوء القديمة.
وما الجديد! لا بد للإنسان من عادته، ولا بد للشيطان من سُنته.
– وما عادة الإنسان؟ وما سُنة الشيطان؟
عادة الإنسان بحثه -واعيًا وغيرَ واعٍ- عن مجالٍ لإشباع حاجاته الباطنة والظاهرة؛ فلما فقد أخوك مجالكم -بتفريطٍ منه أو منكم- هرول إليه الشيطان بسُنته.
“بلَغني أن صاحبك قد جفاك، ولستَ بدار مَضْيعةٍ ولا هوانٍ؛ فالحَقْ بنا نُواسِك”؛ هل طرق سمعَك هذا القول يومًا! فإنها رسالةٌ بعث بها ملك غسَّان إلى سيدنا كعب بن مالكٍ -رضي الله عنه- لما هجره المسلمون بأمرٍ من الله ورسوله بعد تخلفه عن غزوة تبوك؛ فتنةً لا يحيط بهَوْلها خُبرًا إلا الله.
كذلك يمكر الشيطان دُبُرَ كل جفوةٍ بين المؤمنين؛ يَبعُد أحدنا عن الأبرار فيُقرِّب الشيطان منه الفجار، يُذكِّره بهم ويُذكِّرهم به، يُجمِّل الأخبثين إذ يُقبِّح الأطيبين.
– لستُ على حمل نفسي قادرًا؛ فأنَّى لي أن أحمل أخي!
أو لم تعلم أنك إن حملت أخاك؛ حملك الله؟
– قد جربتُ ذلك كثيرًا؛ فإذا أنا أَضيع مزيدًا.
“هَلْ جَزَآءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ”! لستَ على أخيك بأكرمَ من الله عليك، أفتسارع أنت إلى إنقاذ أخيك من أسباب غضب الله؛ ولا يسارع الله في إنقاذك بأسباب رضوانه وهو الأحمد الأشكر! لقد أتانا عن الله أن شَطْر معاملته عبادَه في الدنيا والآخرة؛ معقودٌ بنوع ما بينهم من المعاملة، إنا إذا صدَّقناك يا هذا كذَّبنا الله.
– فبيِّن لي ما وراء عجزي عن عون أخي.
لعلك ضعيف التزود من الطيبات التي هي مراكب الأحمال في السَّير إلى الله، أو أنك لم تخلص لوجه الله قصدك على الكمال والتمام، أو أنه فاتك من دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة نصيبٌ، أو أنك لم تكن بنفس أخيك خبيرًا.
– أليس صرفُ الله أخي عن سبيله لا يكون إلا بما كسبت يداه!
عملُه السبب الأول، وعليه أصالةً المُعَوَّل؛ لكن لعلي وإياك في بعض هذا أسبابٌ، وليس المقصود التثريبَ عليك ولا وضْعَ اللائمة عنه؛ لكني وَجِلٌ على نفسي وإياك غدًا في صورة صاحبنا اليوم، وإنما سُمِّي القلب قلبًا من تقلبه، فالصورة ردُّه إلى الله والحقيقة تثبيت أقدامنا نحن، ومن يأمن!
– فهل كلامٌ آخر يقال في المقام قبل السلام؟
قد لا يَقدُرُك الله في هداه سببًا ويَقدُر سواك، وإذا عرفت آيات الله في هداه عرفت منتهاك، وهاكَ موعظةً في تقلب القلوب أحْرَزَني الله وإياك.
“يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي الرجل مؤمنًا ويصبح كافرًا”.
“يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في مساجدهم يصلُّون؛ ليس فيهم مؤمنٌ”.
“إن الضلالة حقَّ الضلالة؛ أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف”.
لم يكن زمانٌ قطُّ عظُمت به الفتن، وكثُرت، وتتابعت، وتشابكت؛ كهذا الزمان.
هذا بعض ما علَّمنا الله ورسوله من سؤال الثبات؛ نرجو الله ربنا دوام اللهج بهن.
“اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتد”.
“اللهم إني أسألك الثبات في الأمر”.
“اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا”.
“رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا”.
“رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا”.
“يا مقلِّب القلوب؛ ثبت قلبي على دينك”.
“اللهم إني أعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر”.
“اللهم إني أعوذ بعزتك -لا إله إلا أنت- أن تضلني”.
“يا وليَّ الإسلام وأهله؛ مسِّكني بالإسلام حتى ألقاك عليه”.
“يا مصرِّف القلوب والأبصار؛ صرِّف قلبي على طاعتك”.
“اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني به قاعدًا، واحفظني به راقدًا”.
“اللهم لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا؛ فأنزلنْ سكينةً علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا”.
يا عباد الله؛ تدبروهن، واحفظوهن، وحفِّظوهن أهليكم، والهجوا بهن صادقين.
ذلك؛ وإنه لا أعظَم سببًا للثبات من أمرين؛ اتقاء الفتن “إن السعيد لَمَنْ جُنِّب الفتن”، وأن يفعل العبد ما أُمر به ويترك ما نُهي عنه “وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا”؛ نسأل الله صَوْنًا عن الفتن، وعَوْنًا على الطاعة، وتوبةً من قريبٍ إذا فرَّطنا في هذا أو ذاك، وتوفَّنا ربنا مسلمين.