يا فاطر الحُب؛ لا تُذِق أعداء الحب فيك شيئًا من حبك أبدًا.
يا أللهُ الحقُّ؛ زد الطواغيت عذابًا فوق عذابهم بما فرَّقوا بيننا.
صباحُ موتى المسلمين في أجداثهم غفرانٌ ونورٌ، ورحمةٌ وحُبورٌ.
لا إله إلا الحي لا يموت؛ فجَعَني البارحةَ موتُ جارٍ قديمٍ، فواغوثاه!
كان والدًا وأخًا وصاحبًا وحبيبًا؛ خَبَرَ ربي ما أصاب قلبي من أليم الوجع بقضاء نَحْبه، ولولا إيمان القلوب باجتماعٍ ثانٍ لتفطَّرت لفراق المحبين المرائرُ كما يقول سيدنا أبو الوفاء بن عقيلٍ يرحمه الله، وإن من أشد جرائم الطغاة التي لا يبالون بها -إذ عَدِموا كل كِفْلٍ من أسرارها- التفريقُ بين المحبين؛ فالعنهم يا ديَّان.
تالله ما كان أحدٌ أولى بشريف مواساتك قبل موتك، وكريم تغسيلك وتكفينك ودفنك -بعد أهلك- مني حبيبي؛ فغضبُ الجبار على من حال بيني وبينك.
لست وحدك الذي فقدتُ من الناس أحياءً وأمواتًا؛ تجمعنا الجنة برحمة الله.
موجود يا حمزة؟ (قبل شيخنا وأخواتها.. أنساها الله الناس أن ينادوني بها).
– موجود يا أستاذنا.
هعدِّي عليك نشرب شاي مع بعض، وعايز اتكلم معاك شوية كده.
في يومٍ ثانٍ: فينك كده؟
– في مشوار يا أستاذنا.
طيب خلَّص وتعالى، وشوية هزار لطيف وتريقة جميلة على مشاويري الكتيرة.
في أيامٍ كثيرةٍ: اعمل حسابك؛ (فلان مريض.. واحد في مشكلة.. فيه جنازة).
كان في نفسه رجلًا وما أقل الرجال في الذُّكران! وكان مع الله -أحسبه اللهم لا أزكيه عليك- حَسن التوحيد (لا قٌصوريٌّ يعبد الطواغيت، ولا قُبوريٌّ يعبد الموتى)، محافظًا على الصلوات، كثير تلاوة القرآن، واسع النظر في كثيرٍ من أبواب العلم وإن لم يكن من طلابه، وكان مع الناس ودودًا وصولًا، لطيف المعشر، ليِّن الكبد، خفيف الظل، واسع الإيناس، سَمْح الصدر، لا أحفظَ منه للقَصص في كل شيءٍ ولا أقدرَ على روايتها -فيمن رأيت- إلا الدكتور عمر عبد الكافي هداه الله وأصلحه، وكان بأنماط الخبثاء من الناس خبيرًا، لا ينطلي عليه دَجَلٌ ولا ينبغي.
كان ككثيرٍ من محبي الله والرسول والإسلام؛ يفوته الشيء من الخير أو يقارف شيئًا من الشر؛ لكنه كان ممن إذا ذُكِّر تذكر، لا يستنكف ولا يُصِر، وذلك المؤمن.
كان يحبني ويحب أخي الأكبر المريض حذيفة حبًّا شديدًا، وكان كثير السؤال عنه وأقلُّ الأحبة يفعلون ذا؛ فإن حذيفة لطُول مرضه نسيه الناس، فكان سؤاله عن حذيفة واعتناؤه بشأنه ومزاحه بحكاياته التي كنت أحكي عنه؛ يزيد محبتي له.
رآني بعد خروجي من بيتي مرةً واحدةً على غير ترتيبٍ، فعانقني عناق من أسكنني الله بين مودَّاتهم ومروءاتهم منذ برأني، فصار عناقه عهدًا جديدًا أحفظه فيما أستحفظ بالله من آثار رحمته في الأرض؛ جعلني الله لحُسن العهد أهلًا.
عرفته في خير الزمان وخير المكان على خير الطاعات، في معتكَفٍ بمسجدٍ في شهر رمضان المعظَّم، كان يسقي الناس بين ركعات التراويح ماءً ويسارع في خدمتهم ليس في وجهه الصَّبيح شيءٌ من سواد الرِّئاء، فأكبرت هذا منه وأجللته؛ ذلك بأنه لا عبادة أحب إليَّ من بر الخلق ومواساتهم، ثم عرفت بعد ذلك أن خدمة المسلمين والسعي في قضاء حوائجهم عاداته التي لا يتكلف لها؛ في المساجد وفي عمله وحيث يسكن، ومن قبل ومن بعد في أهله المطيَّبين.
كان شديد المَقت للطغاة، حَسن الموالاة للمستضعفين، شهد مشاهد نصرةٍ للإسلام والمسلمين وفيرةً، وكم جادل عن الحق والعدل كثيرًا من حلاليف الطواغيت الذين كنا نبتلى بوجوههم كثيرًا؛ أيام الحوادث العِظام فأحسن!
يقولون: فاقد الشيء لا يعطيه، وأقول: إلا النبلاء؛ كلما ذاقوا مرارات الفقد تفنَّنوا في حلاوات العطاء، ولقد كان الرجل من أصرح الشواهد الإنسانية الكاملة دلالةً على هذا المعنى، من دنا منه عرف شدة فاقته إلى الجبر والمواساة، وهو على ذلك أنشط الناس للجبر والمواساة، بالقول والفعل، ليس أسعدَ بلطفه وعطفه من القريب إلا البعيد، لا يفرِّق بين أحدٍ منهم، أشهد له بهذا في الشاهدين.
مات حبيبي ليلة الجمعة مصابًا بفيروس كورونا، فنرجو الله الحنَّان المنَّان أن يصيبه مما وعد -ورسولُه- على هذا وذاك أوفى الحظِّ وأكرم النصيب؛ اللهم أنت الرحمن الرحيم ذو الرحمة الواسعة خير الراحمين وأرحمهم؛ ارحم عبدك ما بقي مقبورًا ثم يوم يلقاك وإلى أن تزحزحه عن النار وتدخله دار الرحمة الكبرى، واغفر له بأنك أنت الغافر الغفور الغفار خير الغافرين؛ ما تقدم من ذنبه وما تأخر، واعف عنه بأنك أنت العفو الذي تحب العفو، ونوِّر قبره بأنك أنت نور السماوات والأرض، واربط اللهم على قلوب البررة الكرام أهله ليكونوا من المؤمنين، وارزقهم من برِّه ميتًا أضعاف ما رزقتهم منه حيًّا أنت البر الرحيم، واشغلهم في مصيبتهم عن الحزن والأسى بما ينفعه وإياهم عندك أنت اللطيف الحكيم.
لقد أدخلني الرحمن جنات إخواني صغيرًا، وقلَّبني في روضاتهم كبيرًا، شملوني بجمالهم وتَحنانهم عنايةً ورعايةً، وأفسحتْ لي قلوبهم موضعًا كريمًا، وبجَّحوني حتى بجِحَت إليَّ نفسي، فأنا بأنوالهم أوفى الناس بختًا وأرضاهم حظًّا؛ ربِّ بما أدخلتني جناتهم في الدنيا أمدًا؛ فخلِّدني بينهم في فردوسك أبدًا، وبما سَقوا روحي من سلسبيل هواهم حُبورًا؛ فاسْقهم من مِزاج الكافور والتسنيم طَهورًا.
إني -وخبيرِ ذاتِ القلوب- لأجوع إلى أحبتي وأظمأ، ويضيق صدري بفراقهم ضيقَ من لا يَبلغ من الهواء بلاغه، وما نزل بي بلاءٌ أفتكُ من عجزي عن وصالهم كما أشتهي، وإني لا أَعْدِل بالأنس بهم -من الدنيا وما فيها- شيئًا، ربنا من فرَّق بيننا في الحياة الدنيا من أعدائك؛ فلا تنظر إليه -يوم القيامة- ولا تكلمه ولا تؤنسه؛ حتى تُغرقه في الوحشة -بإبعاده عنك وحرمانه منك- إغراقًا لا يفنى.
تشهد اللهم حنين قلبي إلى كل من صحبته في عِيشتي حنينًا شديدًا؛ بل إلى من عرفته في سبيلك بُرْهَةً من نهارٍ، ولقد نظرت ربي إلى شفاء علة قلبي هذه في الدنيا فلم أجده؛ إن ذَكَر القلبُ شُغلت الجوارح، وإن فرغت الجوارح ضاقت الحال، وإن وَسِع مكانٌ لم يسع زمانٌ، ثم إن من هؤلاء من فارق الحياة، ومنهم مهاجرون، ومنهم أسرى، ومنهم من لا أعرف اليوم عنه شيئًا؛ فاللهم بصرًا وصبرًا يُعزِّياني.
تعرفون أحبتي ما شفاء ذلك! جنات الخلد الشفاء والبلسم والترياق، وحدَها لا شريك لها دواء هذا الوجع؛ الجنة شفاء الأرواح العليلة بتباريح الفراق، الجنة رواء الأفئدة الظامئة لهوًى لا مقطوعٍ ولا ممنوعٍ، الجنة غوث نفوسٍ ولهانةٍ لهفانةٍ تتعشق ظلالًا سرمديةً بمن تهوى، الجنة المشتهى والمنتهى. اللهم اللهم.