اللهم انفع بهذا المنشور خلقًا كثيرًا.
يا كلَّ ذوي الآمال والآلام في العالمين؛ حدِّثوا اللهَ أخبارَكم.
تدبروا من هذه الآيات معنًى واحدًا.
هذا الذي تقرؤون ليس دعاءً كالذي ندعو الله به إذا دعونا.
هؤلاء لا يكلمون الله بالذي نتكلم به.
هذه أحاديث تامةٌ مع الله، هؤلاء قومٌ يكلمون الله بكل شيءٍ، يناجونه بحاجاتهم كافةً، يشكون إليه فاقاتهم جميعَها، يبثُّونه آمالهم وآلامهم وما بينهما، يَفُوهُون في حضرته بما لا يُفاهُ به بين يدَي أحدٍ.
“رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ”؛ هذا سؤال محبٍّ بلغ الغاية في حبه، فقيهٍ بصفات محبوبه ربِّه. هل سألت الله يومًا ما يَطمئن قلبك به في شبهةٍ، أو تَسكن نفسك به في شهوةٍ، أو سألته في معنًى ربانيٍّ أو بشريٍّ أو ماديٍّ، أو في قدَرٍ لا تظهر لك حكمته، أو في داءٍ بنفسك أو جسدك لا تعرف له كُنهًا ولا دواءً!
“رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا”؛ إنها لا تقول: نذرت لك ولدي؛ بل “مَا فِي بَطْنِي”؛ بطني الذي أنت بما فيه عليمٌ، نوعِه وحالِه ومآلِه، بطني الذي به أملي وألمي؛ نذرته عتيقًا لك من كل ما سواك.
“رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ”؛ وضعتها أنثى يا رب، وأنت بحال الإناث خبيرٌ، وعلى نذري شهيدٌ؛ فسدِّدني وأعنِّي. أيُّنا يحدِّث الله قبل كل أحدٍ بما حصل له من الخير؛ مع يقينه بأن الله الذي تصدق عليه بما يحدِّثه به!
“وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ”؛ هذه -والله- حروف المحبين التي أذاقنا الله حلاوتها منا لمن نحب وممن نحب لنا؛ كما يحدِّث أحدنا أحبَّ من يحبُّ بأحبِّ ما يحبُّ، نعشق سرد التفاصيل إصدارًا وإيرادًا. هل تنعَّمت روحك بهذه اللذة مع الله يومًا! أن تقول: رب إني قائلٌ كذا.. فاعلٌ كذا.. تاركٌ كذا.. حائرٌ في كذا.. مترددٌ في كذا.
“قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ”؛ يخبرها الله بشيءٍ يحصل لها، فتقول لله -بما لا يناقض عبوديتها، ولا يتجاوز بشريتها-: كيف هذا يا رب! أولئك العارفون بربهم، وأولئك هم المقرَّبون.
“قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ”؛ لقد وصلْتني بالكلام يا رب؛ فهل تضاعف الغوث وتبسط في الرضا فأراك! أنا أسألك رؤيتك يا رب. عبدٌ يغتنم ساعة فيضٍ ما له من نفادٍ وعطاءٍ بغير حسابٍ، فيرجو الله ما لا يكون في هذه الدنيا؛ ونحن لا نكلم الله -حتى في ساعات إنعامه وإكرامه- برجاء ما يكون.
“وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي”؛ أوَلا يعلم الله أن ابنه من أهله! أوَلا يعلم نوحٌ أن أهله هم المؤمنون! وما في ذاك! غلبته أُبُوَّته فوجد شيئًا في نفسه فكلم الله به، ومن أولى من الله بأحاديث النفوس!
“قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ”؛ هذه ضراعةٌ عجبٌ! إنها -لِمَن تدبر- صورة تفويضٍ تامٍّ من عبدٍ إلى سيده، يا رب هأنذا أضع بين يديك -في فتنتي- كل ما أحس في نفسي من ربانياتٍ وبشرياتٍ؛ فما أنت صانعٌ بي!
“قَالَ رَبِّ إِنِّي لَآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي”؛ كثيرًا ما نكون كذلك في شدائد الحياة، لا يبقى لك في محنةٍ إلا نفسُك وسببٌ يتيمٌ من الأسباب، الفرق بيننا وبين نبي الله موسى -عليه السلام- أنَّا -وقتئذٍ- نشكو الله إلى الناس (الذين فقدناهم والذين خذلونا)! أما هو فشكى حاله والناس إلى الله؛ أن افعل كذا لي يا رب.
“قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا”؛ هذه شكوى عبدٍ إلى ربه فيما ضعُف من جسده؛ كيف تقول أنت فيما ضعُف من نفسك! ونفسُك ألطف من جسدك، لا تطيق لطيفةً ما يطيق جسدك كثيفًا. كأني بك -الآن- وقد فقهت كيف تكلَّم الله تقول: رب وهن قلبي.. وهن عقلي.. وهن علمي.. وهن إيماني.. وهنت عزيمتي.. وهنت أسبابي؛ فأسندني إلى قوتك.
“قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى”؛ إن الله لم يسألك عن ذلك كله يا موسى؛ بل سألك: “وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ”، فجوابك الأوحد “هِيَ عَصَايَ”؛ لكن ما حيلة حبيبي والله -تبارك- يكلمه بذاته! إنه لا يملك إلا أن يقول كل ذلك، وأكثرَ من ذلك، ثم يقول المحب: “وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى”؛ لعل الله أن يقول له: وما مآربك ذي! فيأخذ موسى في الكلام حتى تنتهي روحه إلى الله. إنها ساعة وصال ذي الجلال -كثُر خيرُه- فلا يليق بها غير ذلك.
“وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا”؛ هذا نبيٌّ موصولٌ بالسماء رأسًا يشكو إلى الله وحدته! كم كنتَ فردًا -يا مسكين- فلَمْ تُناج الله بغربتك! كأني بالمجاهد الآن يقول: رب لا تذرني في ثغري فردًا فيمدُّه الله، وبالأسير يقول: رب لا تذرني في سجني فردًا فيحرِّره الله، وبالمريض في فراشه يقول: رب لا تذرني في وجعي فردًا فيشفيه الله، وبالعَزَب يقول: رب لا تذرني في نفسي فردًا فيزوِّجه الله، وبالعقيم يقول: رب لا تذرني في أهلي فردًا فيَهَبُه الله، وبذي الحاجة الخاصة في قلبه لا يجد لها في الناس قضاءً -بل لا يقدر على البوح بها- يقول: رب لا تذرني في علةٍ -تشهدها وحدك- فردًا فيغيثه الله، فإذا لم يقض المقدم المؤخر عليمًا حكيمًا لهم شيئًا من حاجاتهم هذه ادِّخارًا لأضعافها من لدنه يوم القيامة؛ فقد شرَّفهم بسؤاله، وأغنَمَهم التضرع إليه، وكفى بالشكوى له شرفًا.
“قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ”؛ هذا كلام من يعرف الرب والحب أعظم المعرفة؛ فإنه لا يُشكر محبوبٌ بأعظم من ذلك، لقد أحدثت لي يا رب ما أحب؛ فلا أكون ظهيرًا لغيرك على ما تكره.
“فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ”؛ تعرفون الشيء الذي نسميه بعاميتنا المصرية “التمحيك”؟ هذا الذي يفعل هنا نبي الله -صلى الله عليه- مع ربه وله المثل الأعلى، إنه فعل -الساعة- شيئًا يحبه الله؛ فما عليه أن يتعرض لله بسؤاله شيئًا يحبه هو! وكان له ما سأل.
“قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ”؛ لقد فعلت كذا وكذا وإني خائفٌ يا رب. أيها الخائفون؛ حدِّثوا الله بخوفكم، لا يؤْمِنُكم مثل الله أحدٍ، ولا يُسَلِّمكم مثله أحدٌ، قل: أخاف الفقر يا رب.. أخاف عدوي يا رب.. أخاف الوحشة يا رب.. أخاف الفشل يا رب.. أخاف أن أبقى بلا ذريةٍ يا رب.. أخاف أن يُهتك ستري يا رب.. أخاف أن أظل مطارَدًا يا رب.. أخاف من مجهولٍ يا رب.. خائفٌ يا رب.
“قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي”؛ أنا يا رب أريد شيئًا من الدنيا لا يناله أحدٌ بعدي. يا الله! نبيٌّ يوحى إليه -وما أدراك ما يوحى إليه!- يسأل الله شيئًا من الدنيا ويكون له وحده! إنها البشرية في أجلى صراحتها ومكاشفتها مهما وُهب صاحبها النبوة وخُلعت عليه الرسالة. وما يضره ذلك! وهل تُكتم عن الله سريرةٌ هو باريها!
“رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ”؛ هذا دعاءٌ نسائيٌّ بامتيازٍ؛ فإن سؤال النجاة من فرعون يجب أن يتقدم على سؤال بيتٍ في الجنة؛ باعتبار تقدم الإزاحة على الإحلال وباعتبار الزمان وبغير ذلك؛ لكنَّ المرأة هي المرأة، وإن كانت وَلِيةً مَهديةً مَرضيةً كامرأة فرعون فإنها لا تنفك عن أنوثتها بحالٍ، إنها تفقد “البيت” معنًى وإن كانت تعيش في القصر مبنًى، “البيت” السكن والأمان والستر والمِلك، فاللهم “البيت” قبل النجاة من فرعون، ثم إنها تفقد من قبلُ “الزوج” حقيقةً وإن كانت تعيش مع فرعون صورةً، “الزوج” الدفء واللطف والعطف والسكن، فقالت: “عِندَكَ” قبل أن تقول: “بَيْتًا”، إنها الحاجة إلى الرفيق قبل الطريق، وإلى الجار قبل الدار. طوبى لمن فقه النساء.
“قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ”؛ من أنتم وما أنتم! أنا لا أشكو إليكم.. بل أشكوكم، أبثُّ ربي كل شيءٍ مني، لا يعلم أحدٌ منكم ما يعلم ربي عني، وإني بالله عليمٌ ما لا تعلمون؛ فذروني وربي.
الآن وحسْبُ أفقه عن أعلم العالمين بالله -صلى الله عليه وسلم- قولَه: “ليسأل أحدُكم ربَّه حاجته؛ حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شِسْع نعله إذا انقطع”؛ الملح الذي هو الملح، والنعل الذي هو النعل.
اللهم إني أشهد في هذا المقام لوالدتي بما فتحتَ لها في دعائك فتحًا عجبًا؛ كما أشهدتنيها كثيرًا تسألك كل شيءٍ، على كل حالٍ لها وحينٍ، قد كنت أسمعها مُذ أكثر من عشرين سنةً تسأل الله -في قيام الليل- أن يتعود أخي الصغير -يومئذٍ- قضاء حاجته بنفسه. تقبل الله عن أمي دعاءها، وعنا.
ربُّكم الذي لا يُعَيِّر، ربُّكم الذي يستر الستر الجميل، ربَّكم ربَّكم.. حدِّثوه أخبارَكم.