أفكلما غشيت بعيبٍ ذنبًا أو غشيك بذنبٍ كربٌ؛ قلت: ليت الله ما خلقني!
ها قد خلقك الله، وعليمًا خبيرًا لم يستشرك في هذا ولم يكن عليه أن يفعل، وعليك أنت ما دمت تعتقد وجودك مصيبةً أن تسترجع، وسواءٌ فيك أسْترجعت أم لم تكن من المسترجعين؛ لن تكون معدومًا لم يُخلق، فقد خُلقت كما ترى.
الآن وقد خُلقت لحكمةٍ، لم تُوجَد عبثًا ولن تُترك سُدًى؛ تعلَّم ما خُلقت لأجله، واسْعَ له سعيه، واستعن بالله. سيصيب تعلُّمَك مِثلُ الذي سيصيب سعيَك مِثلُ الذي سيصيب استعانتَك من الجراحات ما دمت حيًّا؛ لكن عليك المجاهدة في الثلاثة؛ في العلم وفي العمل وفي الاستعانة عليهما. هذا وحده هو العقل.
لم يكن بدؤك اختياريًّا؛ قدَّر الله وما شاء فعل، وكما لم يكن بدؤك اختياريًّا؛ لن يكون موتك اختياريًّا، ولن يكون بعثك بعد موتك اختياريًّا، ولن يكون حسابك بعد بعثك اختياريًّا، ستموت قهرًا وتُبعث جبرًا وتُحاسب كَرهًا، لا قيمة لتحسرك.
إذا كان ذلك كذلك؛ فلا بد من المجاهدة، هذه هي العبادة التي خُلقت أنت لأجلها، عبادة النوع الإنساني المجاهدة. قد كان عند الله خلقٌ قبلك اختار ألا يختار؛ السماوات والأرض “قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ”، وكان عند الله ملائكةٌ لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فأراد الله أن يخلق خلقًا بعد هذا وذاك يعبده بنوعٍ جديدٍ من العبادة، ولم يكن إلا عبادة المجاهدة؛ أن تكون لك إرادةٌ في الكفر ثم لا تكفر، وإرادةٌ في الابتداع ثم لا تبتدع، وإرادةٌ في الظلم ثم لا تظلم، وإرادةٌ في الفسق ثم لا تفسق، وإرادةٌ في العصيان ثم لا تعصي، فإذا فعلت شيئًا من هذا كله بقيتْ لك إرادةٌ ألا تتوب فتتوب؛ فذاك نوع عبادتك التي خُلقت لأجلها.
هذا الوجود الذي تكرهه -بسبب ذنوبٍ أو عيوبٍ أو كروبٍ- هو فرصة السحب على الجنة، على السعادة الروحية الأبدية، واللذات الجسدية السرمدية، ومخالطة الملائكة والنبيين والصديقين متى تشاء كيف تشاء، ورضوانٍ من الله أكبر!
هذه الثلاثة نفسُها ليست شرًّا محضًا يدعوك لمَقْت وجودك هنا؛ الذنوب والعيوب والكروب تضيء لك في نفسك مثلما تُظلم منها إن أنت فقهتها، تُشهدك من طبيعتك الإنسانية العامة ومن طبيعتك الخاصة ما لولاها لعلك لم تشهده، وتُشهدك من آثار صفات جمال ربك وجلاله ما لولاها لعلك لم تشهده، وتُشهدك من معارف الدنيا والآخرة القريبة والبعيدة ما لولاها لعلك لم تشهده. لقد كادت الثلاثة -لمن فقه- أن تكون سببًا من أسباب تعشُّق هذا الوجود.