قال صديقٌ: قد كرهت الحياة الدنيا كُره العمى.
لو غير صديقي هذا قالها؛ لعلي كنت له من المصدِّقين.
لم تزل جديرةً هي من وجوهٍ لا تُحصى بهذه الكراهية وأشدَّ منها، لعلك يا صديقي لم تعقل هذا إلا الآن لضعفٍ ما؛ ضعفٍ في بصرك أو في بصيرتك أو فيما سواهما، ثَمَّ ضعفٌ فيك حال بينك وبين شهود هذه الحقيقة بهذه القوة حتى الساعة، بكل حالٍ خيرٌ؛ أن تعقل متأخرًا خيرٌ لك من ألا تعقل. فكان ماذا!
كل الذين حُبسوا ليلةً واحدةً لا شريك لها في قعور أبنية “أمن الدولة”، فعاينوا في أنفسهم وفي غيرهم شيئًا يسيرًا من أهوال الجحيم هناك؛ كرهوا هذا الجهاز اللعين؛ كرهوا ضُباطه وعساكره وما بينهما من ضباعٍ، كرهوا شارعه وحَيَّه ومحافظته وبلده وقارَّته. وإني مُذْ عرفت هذا الكُره لم أتصور ما دونه كُرهًا.
هل هذا الذي وجدت في نفسك -الآن- من الدنيا بُغضٌ لها حقًّا يا صديقي! أخشى بعد الذي رأيته من تلهفك اليوم على أحقر مما فقدت منها بالأمس؛ أن يكون الذي بك عشقًا خفيًّا لها، فلم يعد لائقًا بك بين الناس وقد شَجَّتْ وجهك بحضرتهم إلا أن تُظهر لهم لعنك إياها، على أن تظل مُخادِنًا لها في السر.