لا يُدْمِنُ السخرية من عباد

لا يُدْمِنُ السخرية من عباد الله إلا قاسي القلب، ثم تزيد السخرية قلبه قسوةً حتى يكون أشد من الحجارة فيها. والذي لا يحلف حمزة إلا به؛ لقد أشهدني الله من آثار قسوة هؤلاء في نفسي وفي غيري ما به اعتقدت هذا لا أمتري فيه طرفة عينٍ، ثم يجيئونك بعد ذلك يشْكُون غِلَظَ قلوبهم، وبُعْدَ ما بينهم وبين القرآن والذكر الكثير، ولو فقهوا ما سألوا فيما لم يُصِبْهم إلا بقصدٍ منهم وإصرارٍ.

كل السخرية من كل الخلق حرامٌ، وما استُثني حُكمه من هذا فمقدورٌ بقدْره، وأصله أن يكون في أعداء الله من كافرٍ وزنديقٍ وظالمٍ وفاسقٍ كلٌّ بحُسْبانٍ، وهو محدودٌ بحدود الشريعة المُحْكَمة المُحْكِمة أينما كان، ولا يجوز أن يضحى الاستثناء أصلًا مهما نظُفت المقاصد، ليس المسلمون في عقائدهم وشرائعهم وأخلاقهم ميكافلِّيِّين تبرِّر غاياتُهم وسائلَهم، وقد يُباح الشيء في نفسه ثم يَحْرم في غيره دورانًا على المصالح وجودًا وعَدمًا، ومن أشهده الله سياط قوارع القرآن والسنة كيف تصيب؛ لم يَكَد يُحْوَج إلى ذلك، وفي قول الخليل عليه الصلاة: “بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ” منهاجٌ تامٌّ في حد الاستهزاء المباح لمن اضطر إليه غير باغٍ ولا عادٍ، وفي تعوُّذ الكليم -عليه السلام- بالله حين ظُنَّ به الاستهزاء موعظةٌ بليغةٌ لمن عقل: “قَالُوآ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ”، ومن نسب إلى المِلَّة الغرَّاء همزه ولمزه -بغير حقٍّ- فقد سابق أعداءها في الإزراء بها، وكم مفسدٍ يزهو بنفسه في المصلحين!

إن من المزاح لظلمًا، وإن في الهزل لبغيًا، وكم جُرحت بالمزاح قلوبٌ وخَربت بالهزل بيوتٌ! وإني لأعرف إنسانًا لم يزل بعض أراذل الرعاع يبالغ في السَّفِّ على خِلقته صغيرًا؛ حتى تشوَّهت نفسُه العُمُرَ كلَّه في ذلك، وضعُف منه على الأيام ما ضعُف؛ حتى كان يُنحِّي وجهه عن الناس إلا قليلًا يعتقد أنه دميمٌ لا يُنظَر إليه. والسَّفُّ في عامِّية المصريين: التفنُّن في السخرية. ونحوه قول السُّوقة منهم يهدِّد بعضهم بعضًا: هطلَّعك عالمسرح. وما أشبه ذلك مما لا يُضحك إلا خِفاف الدِّيانة والمروءة والعقول جميعًا، وهم شرٌّ من السافِّين فلولاهم ما استمرؤوا ولا استمروا، وأغبنُ الناس في الدنيا والآخرة من يبيع دينه لدنيا غيره، ومن ذَكَر حديث القنطرة في المظالم يوم القيامة؛ ذُعِرَ أن يُحبَس فيها.

كنت إذا سقطت على الأرض صغيرًا فضحك الأطفال في فصول الدراسة مني -وكثيرًا جرى هذا وأمثالُه لي بضعف بصري وضعف جسدي- عجبت ما يُضحكهم مما آلمني إيلامًا شديدًا! ثم عرفت بعد ذلك تسبُّب المسرحيات ونحوها في تشويه فطرة الجمال والعدل فيهم، ولم يكن في بيتنا تلفازٌ منذ وُلدت حتى خرجت من البيت (2015)؛ لكن ليس في الوجود كله شرٌّ محضٌ بحمد الله عزَّ ثناؤه، وإن ربك ليقدُر بالشر خيرًا لا يقدُره إلا به؛ بغَّض الاستهزاءُ بي صغيرًا الاستهزاءَ بالناس كبيرًا؛ حتى كان يتغيَّظ عليَّ معلِّم الجغرافيا في الإعدادية لا يواري ذلك؛ كلما اعتزلت الطلاب في ضحكهم إذا استهزأ بطالبٍ أو معلِّمٍ، وكان يُثَوِّر على التهكم مني فلانًا وفلانًا في الفصل ليزيداني معه، هما اليوم من ضباط الشرطة الحُقراء، وكل ضابط شرطةٍ كذلك؛ كيف يُقيِّض الله إنسانًا لإنفاذ حُكم الجاهلية في الأرض -كثُر ظلمُه أو قلَّ- وهو يرى في قلبه خيرًا!

رب اغفر لنا، وتب علينا، وجمِّلنا بآداب الإسلام فنكون خير دالِّين عليه دعاةٍ إليه.

أضف تعليق