المحمودُ اللهُ عزَّ جلالُه، والمُصَلَّى

المحمودُ اللهُ عزَّ جلالُه، والمُصَلَّى عليه محمدٌ وآلُه، أما بعد:

هذا بحثٌ في فساد صوت الضاد المصرية، أخَّرت نشره كثيرًا تجاوز الله عني؛ لكني أنشره الآن مخافة الموت، وهو ما أدين الله به منذ أكثر من عشرين سنةً.

*فساد صوت الضاد المصرية الشائع:

1- مخرج الضاد الصحيح بالإجماع: إحدى حافَّتي اللسان -أو كليهما- مع ما يُحاذيها -أو إياهما- من الأضراس العليا.

2- الضاد المصرية: دالٌ مفخمةٌ أو قريبةٌ منها؛ ما الفرق بينها وبين الدال إلا كالفرق بين (الصاد والسين، والظاء والذال، والطاء والتاء)، فهي دالٌ لكن باستعلاءٍ وإطباقٍ، ومخرج الدال: طرف اللسان مع أصول الثنايا العليا، وكذلك مخرج الضاد المصرية.

3- بعضهم يحاول التلفيق بين الصحيحة وبين الخاطئة، فيُخرجها من شَجَر الفم بين مخرج اللام ومخرج الدال حرفًا محدَثًا أجنبيًّا عن الصحيحة، يفعل ذلك لئلا يُخرجها من مخرج الدال؛ لكنه لا يَبعد عن مشابهة الدال المفخمة صوتًا وصفاتٍ، يحسب أنه يُحسن بذلك التلفيق صنعًا.

4- صفة الضاد الصحيحة: الرخاوة، وهذا مجمعٌ عليه، فلا بد من جريان الصوت بها.

5- صفة الضاد المصرية: الشدة، لا يجري الصوت فيها، سواءٌ منهم من أخرجها من مخرج الدال خالصةً، ومن أخرجها قريبًا منه مشابهةً له، ومن قَسَطَ فلم يُكابِر شهد بشدتها، وإن تمحَّل في تفسير ذلك.

6- تُعرَّف الرخاوة بأنها جريان الصوت عند النطق بحرفٍ من حروف الرخاوة لضعف الاعتماد عليه في المخرج؛ فهل بالله يَضعف الاعتماد على مخرج الضاد المصرية عند النطق بها! بل يقوى الاعتماد عليه لنطقها شديدةً منحبسةً إذ تخرج من مخرج الدال أو قريبًا منه.

7- يتكلف بعض القارئين بالضاد المصرية تحقيق رخاوتها، فيتنطعون في مطِّ الصوت بها -من مخرج الضاد، أو قريبًا منه- قدْرًا ضئيلًا، وما هي برخاوةٍ ولا يستطيعون، إنْ يَزيدون إلا توكيد شدتها وهم لا يشعرون.

8- الاستطالة صفةٌ خاصةٌ بالضاد، ومعناها: امتداد مخرج الضاد إلى ما يقارب مخرج اللام، فالأصل في مخرج الضاد حافَّة اللسان مع مُحاذيها من الأضراس العليا، ثم يستطيل المخرج إلى الأمام، أما في المصرية -إذا أراد ناطقُها مقاربة مخرج اللام ليحقق الاستطالة!!- فسيمرُّ بمخرج اللام، ثم يتجاوزه حتى ينتهي إلى مخرجها خاطئةً بعده، وذلك عكس الاستطالة اصطلاحًا وواقعًا؛ فإنه لا موضع بعد مخرج الضاد المصرية في الفم يُستطال إليه أصلًا. فيالَلَّه العجب!!

9- لو كانت الاستطالة تَنقص من رخاوة الضاد -كما يزعم المكابرون- لكانت في جملة حروف التوسط التي بين الرخاوة والشدة “لِنْ عُمَرْ”؛ بل إن حروف التوسط ليجري الصوت فيها جميعًا ما لا يجري في الضاد المصرية.

10- لولا احتمال التشابه بين الضاد الصحيحة وبين الظاء (في السمع)؛ ما تتابع الأئمة على الحض على التمييز بينهما، وإلا فإن المصرية لا يمكن التباسها بالظاء في الصوت ولو بالقصد.

من هؤلاء القائلين بالشبه بين الضاد وبين الظاء -في السمع- من أئمة اللغة والقرآن؛ ابن الأعرابي، والصاحب بن عبادٍ، ومكِّي بن أبي طالبٍ القيسي، وأبو عمرٍو الدَّاني، وأبو القاسم الزنجاني، وأبو محمدٍ القاسم بن علي بن محمدٍ الحريري، والرازي، والسخاوي، والبيضاوي، وابن تيمية، وأبو حيَّان النحوي، وابن كثيرٍ، وابن النجار، والسيوطي. وانظر -غيرَ مأمورٍ- كتاب شيخنا محمود عبد الرحمن اليحيى “الحجة الوضَّاء في إثبات الشبه بين الضاد والظاء”.

قال الإمام ابن الجزري رحمه الله:

والضادَ باستطالةٍ ومَخرجِ ** ميِّزْ منَ الظاءِ وكلُّها تَجِي

11- كيف تكون الضاد الصحيحة من مخرج الدال (وإن كانت باستعلاءٍ وإطباقٍ)، أو قريبةً منها؛ ولا يُحذِّر الأئمة المتقدمون من نطقها كالدال مثل تحذيرهم من نطقها ظاءً!

12- جمهرة الفقهاء يغتفرون نطق الضاد ظاءً؛ (لمن اجتهد في إخراجها من مخرجها فعجز)، كما ذكر الإمام ابن كثيرٍ المفسر الفقيه الشافعي -رحمه الله- في آخر تفسير سورة الفاتحة؛ لا أنهم -عياذًا بالله- يُجوِّزون نطق الضاد ظاءً طَوعًا واختيارًا؛ فإن تعمد تبديل حرفٍ قرآنيٍّ مكان حرفٍ سواه كفرٌ بالله، فلولا أن الحرفين متقاربان (في السمع) شيئًا؛ ما اغتُفر ذلك. وانظر -نظر الله إليك يوم تلقاه- كتاب شيخنا عطاء بن عبد اللطيف الشافعي -حفظه الله ومتَّع به- في المسألة.

من هؤلاء المفتين بهذا ولا يُحصَون عدًّا؛ ابن اللباد، وأبو بكر الصِّقلي، وابن الحاجب، وابن نُجيمٍ، وابن القابس، وابن رشدٍ، والنووي، والقرطبي، وابن تيمية، والرَّملي، والبُهوتي، وابن حجرٍ الهيثمي.

13- يقال للمحتج بالأسانيد في الضاد المصرية: على العينين والرأس؛ لكن ما يُفعل بالإجماع على مخرج الضاد الصحيحة، وعلى رخاوتها واستطالتها!

14- اللغة العربية لغة الضاد؛ فإن كان صوتها الصحيح هو صوت المصرية؛ فإنها -وقتئذٍ- غير مختصةٍ بالعربية؛ بل هي شائعةٌ في عامة اللغات المشهورة وفي غيرها.

15- لو كانت الضاد الصحيحة من مخرج الدال؛ لكان إدغامها في الدال في نحو قوله تعالى: “فَقَد ضَّلَّ” -كما في بعض القراءات- من باب إدغام المتجانسَين (اللذين اتفقا في المخرج، واختلفا في الصفات)؛ لكنها تُدغم في الدال من باب إدغام المتقاربَين.

16- على القول بالتفشِّي في الضاد -وهو انتشار الريح في الفم عند النطق بالحرف- وهذا مذهب بعض أهل الإقراء فيها، كما قال ابن برِّي رحمه الله:

والمُتَفَشِّي الشينُ والفاءُ وقيلْ ** يكونُ في الضادِ ويُدْعَى المُسْتَطِيلْ

على هذا القول؛ يمتنع وقوع التفشِّي مع نطق الضاد شديدةً ينحبس الصوت فيها.

17- الصلاة خلف من يقرأ بالضاد المصرية جائزةٌ لعموم البلوى بذلك، ولأن أئمة القراءة -الذين هم أئمتها بحقٍّ عندنا وعند المسلمين كافةً؛ كالحصري والمنشاوي وأمثالهما رحمهم الله وعفا عنهم أجمعين- يقرؤون بها، ولِمَا ذكر ابن الجزري -رحمه الله- وغيره أن عامة المصريين لا يحسنون إلا نطقها كذلك، فيُغتفر لقارئها كما يُغتفر لمن ينطقها ظاءً خالصةً عاجزًا عن نطقها عربيةً صحيحةً مميَّزةً عنها، والله أعلم.

18- المحتجون على الحق بالرجال؛ يقال لهم ما علَّمَناه علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: “لا تَعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله”، فإن أبَوا إلا عدَّ الشيوخ القارئين بالضاد المصرية الخاطئة؛ عدَدنا لهم -تنزلًا- من الشيوخ من لا يزال -بحفظ الله وحمده- قائلًا بالضاد العربية الصحيحة، كالمشايخ؛ محمد السباعي، وعامر السيد عثمان، والسَّمنُّودي، وعبد الله الجَوهري، ورزق خليل حبة، وبرانق، وعبد الحليم بدر، وأحمد عبد الرحيم، وعُبيد الله الأفغاني، وغيرهم. ومن الدكاترة؛ أستاذي رمضان عبد التواب، وكمال بشر، ومحمد حسن جبل، وتمَّام حسَّان، وسواهم. رحمهم الله أجمعين، بَلْهَ إجماع المتقدمين على مخرج الضاد الصحيحة وعلى صفاتها.

19- الغالب على من سمَّينا من الشيوخ الذين يقولون بالضاد الصحيحة مخرجًا وصفاتٍ؛ أنهم لم يُجازُوا بها ويُسنَدوا، وذلك أن عامة من تلقَّوا عنهم القرآن عمَّت فيهم بلوى قراءتها خاطئةً كما عمَّت في جمهرة أهل مصر؛ بَيْدَ أن حفظ الإجماع النظري على مخرج الضاد الصحيحة وصفاتها سدَّدهم إلى الحق في نطقها، هذا وإنَّ تصور الانحراف وتطوُّره في نطق الضاد -بين المتقدمين وبين المتأخرين- سهلٌ لمن تبصَّر ودقَّق.

20- من علَّمه الله الضاد العربية الصحيحة فاعتقد صوابها؛ لم يَجُز له أن ينكُص على عقِبيه فيقرأ بالمصرية في الصلاة أو خارجها، بَلْهَ إقراء الناس بها، والله أعلم وأحكم.

* بأول تعليقٍ رابطٌ لمن شاء منكم أن يستزيد؛ غفر الله لي ولكم وعلَّمنا أجمعين.

أضف تعليق