عن العَنْشَمِيِّ تتساءلون! هلُمُّوا إلى

عن العَنْشَمِيِّ تتساءلون! هلُمُّوا إلى سرِّه المكنون.

كُلَيْمَاتٌ ظاهرةٌ في فطرته للباصرين، ومقدَّراتٌ في مدينته للفاطنين.

على الأحبة القاطنين حيَّ عين شمس بالقاهرة أهلَها في مصر المخطوفة؛ أن يحترزوا لأنفسهم من البُعداء البُغضاء كل الاحتراز هذه المدة؛ فإن بطل الإسلام محمد صلاح -تقبَّله الله شهيدًا- من هناك كما عرفت، وأول ما يفعل الكفرة الفجرة في مثل هذه الواقعة النظرُ في أهل الفاعل وأرحامه وأصحابه وجيرانه ومعارفه؛ أيُّهم أعانه على ما صنع بعلمٍ أو عملٍ! فإنهم يعيشون ويموتون لا يفقهون أن الفطرة وحدها كافيةٌ في حمل صاحبها على ذلك.

يا طواغيت أم الدنيا؛ ما كان وراء العَنْشَمِيِّ من أحدٍ من الناس، ولكن بينةً كان القرآن كلمكم عنها أصدق حديثٍ، فلم تأذِنوا (تُصْغوا) له حُمُرًا مستنفِرةً.

تدبر أنت المسلم هذه الآية من القرآن فإنها لك، ثم تأمل تفسير ابن كثيرٍ لها؛ “أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ”، قال الإمام رضي الله عنه: يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله -تعالى- التي فطر عليها عباده، ..، حتى قال الإمام: وقوله تعالى: “وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ” أي: وجاءه شاهدٌ من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهَّرة.

انظر كيف جعل الإمامُ البينة الفطرة، والتالي لها الوحي! سبحان المُلْهِم!

الفطرة هي أُذُن الإنسان الباطنة التي عملُ جهازها الأوحدُ سماع وحي الله -كلما نادى صاحبَها- سمْعَ الاستجابة والقبول، لا كأُذُنه الحِسِّية الظاهرة التي إذا شاء سمع بها وإذا شاء أعرض، ولا تزال هذه الأُذُن الشريفة تعمل في الإنسان عملها العظيم -أمَّارةً له بالخير، نهَّاءةً له عن الشر- كما رَكَز الله في جهازها، حتى إذا قَبَرَتها خطاياه الموصولة بطبقاتٍ من الرَّيْن (الصدأ)، فصارت في غطاءٍ كثيفٍ؛ لم تكد تسمع من نداء ربها حرفًا، فهي تحت أكوامٍ من حجارةٍ صَمَّاء لا تكاد تُنْفِذ إليها شيئًا، وإذا العُهر في قلب إنسانها طُهرٌ، والرذائل في عينه فضائل، “كالكُوز مُجَخِّيًا؛ لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا؛ إلا ما أُشرِب من هواه”، كما نعته عظيم أطباء النفوس صلى الله عليه وسلم.

ثم إذا شاء الله برحمته هدايته؛ أنفذ إلى فطرته بقاهرِيَّته من وحيه ما أنفذ؛ فسمع من بعد صممٍ، وأبصر من بعد عمًى، وصار من بعد: “واللهِ لا يسلم حتى يسلم حمارُ الخطاب” تقولها امرأةٌ مسلمةٌ؛ إلى: “والذي نفسي بيده؛ ما لقِيَك الشيطان سالكًا فجًّا قطُّ؛ إلا سلك فجًّا غير فجِّك” يقولها سيد العالمين صلى الله عليه وسلم؛ لا يقدر على شيءٍ من ذلك إلا المليك المقتدر.

الله وحده لا شريك له -لا ملَكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسَلٌ- هو القدير على هُدى ذاك المخسوف بفطرته، آياته في هذا مدهِشاتٌ لا تُحصى ولا تُستقصى.

يا دعاة الإسلام وكلُّ مسلمٍ إليه داعٍ؛ عليكم نداء الفِطَر وعلى الله البلاغ.

تعالوا أتل عليكم نداء أفقه الدعاة -صلى الله عليه- فطرةَ إنسانٍ:

– يا حُصَين؛ كم إلهًا تعبد؟

سبعةً؛ ستةً في الأرض، وواحدًا في السماء.

– فأيُّهم تُعِدُّ لرغبتك ورهبتك؟

الذي في السماء.

– فاعبد الذي في السماء.

هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- داعيًا رجلًا من المشركين إلى التوحيد، متوجهًا إلى معنًى عظيمٍ راسخٍ في فطرته التي فطره الله عليها؛ حاجةِ نفسه إلى ربه وحده في مُدْلَهِمَّات الأمور، فأسلم من فوره رضي الله عنه.

كذلك فعل الرُّسل قبله فبهم تأسى؛ “أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ”.

الخليل صلى الله عليه وسلم؛ أسَّس بنيان دعوته كلِّها على قواعد الفطرة.

انظر كيف دعا عبدة الكواكب إلى عبادة مُكَوْكِبِها سبحانه وتبارك!

قال لهم في ربوبية الكوكب -على وجه المُحاجَّة، لا على وجه الاعتقاد-: “هَٰذَا رَبِّي”؛ لِمَا فيه من عُلُوٍّ وحُسنٍ وكِبَرٍ ونفعٍ، والمركوز في فِطَر الناس عُلُوُّ الرب وحُسنه وكِبَره ونفعه، ثم قال لهم في إبطال ربوبيته: “لَآ أُحِبُّ الْآفِلِينَ”؛ لأن المركوز في فِطَرهم أن الرب لا يغيب ولا ينبغي له أن يغيب، ثم قال لهم في تقرير ربوبية القمر: “هَٰذَا رَبِّي”؛ وذلك أنه رآه “بَازِغًا”: زائدًا حُسنه عن حُسن الكوكب، ثم قال لهم في إبطال ربوبيته: “لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ”؛ وذلك بعد أُفُوله أيضًا، وقرن بين معنى أُفُوله وبين معنى الضلال؛ لأن أعظم آثار وجود الرب في حياة الخلق هدايته لهم، فإذا غاب عنهم ضلوا وبطلت ربوبيته، ثم قال لهم في تقرير ربوبية الشمس مثل ما قال في القمر، فلما أفلت -وهي أعظم- بطلت ربوبيتها، وبطلت ربوبية ما دونها بطريق الأولى، فحينئذٍ نادى فيهم: “يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ”.

لم تَبق إلا ربوبيةٌ حقَّةٌ واحدةٌ؛ ربوبية من هو أعظم كِبَرًا وأعلى حقيقةً وأتم حُسنًا وأكمل نفعًا، فتوجه الخليل -عليه السلام- إلى ربه بها، وبالألوهية معها: “إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ”، الألوهية الحقَّة للرب الحقِّ: “حَنِيفًا وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ”، مخلصًا دينه لرب العالمين.

الفطرة أثرٌ ومؤثرٌ؛ هي أثر الميثاق الذي أخذه الله علينا في ظهر أبينا آدم عليه السلام، ثم هي المؤثر الأول الأعظم في قبول الناس هدايات الله.

زيت الفطرة يكاد يضيء ولو لم تمسسه نارٌ.

الفطرة -على التحقيق- ليست معرفةً قَبْلِيَّةً بشيءٍ.

أوفى الناس من الفطرة نفعًا؛ أوفاهم براءةً من خوادشها.

إلهامات الفطرة صحيحة الأسانيد، متونها مبدئاتٌ والوحي مُعيدٌ.

الفطرة حظُّنا الأضخم في أعماق الناس؛ مهما عملت الجاهلية والخنَّاس.

المرتكزون في دعوة الناس على حقائق فِطَرهم المكينة؛ هم أقصر الناس سُبلًا إلى نفوسهم وعقولهم، أولئك الخبراء بدقائق خطاب الوحي الإلهي، وأولئك أشبه الدعاة بطرائق المرسلين؛ فأما بصرهم فنافذٌ بالغٌ، وأما برهانهم فظاهرٌ دامغٌ، وأما لسانهم فطَلْقٌ ذَلْقٌ مبينٌ؛ كتبنا الله فيهم بمِنَّته.

هذه الفطرة المَجْلُوَّة في صنيع الفتى العَنْشَمِيِّ كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها؛ هي التي أولجته -بإذن ربه- في قول سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم: “مَثل أمتي مَثل المطر؛ لا يُدرى أوَّله خيرٌ أم آخره”، وفي قول سيدنا: “لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا، يستعملهم في طاعته”.

اللهم كما صنعت بدَمِ محمدٍ في يهود؛ فاصنع بدمائنا في وكلائهم وزيادةً.

أضف تعليق