تَرى يا صديقي هؤلاء الذين ينقضون السلفية -اليوم- حجرًا حجرًا؟ هم سلفيون، يعلم الله وأولو النهى أنهم سلفيون، كلما صاحوا “لسنا سلفيين” رجع إليهم الصدى “أنتم سلفيون”، غارقون في السلفية إلى آذانهم وهم لا يشعرون، لا يزيدون كلما لجُّوا في عداوتها سوى تقرير أنهم سلفيون.
ليست السلفية بأصلها عارًا نصِمُهم به، وإن كثيرًا من قواعدها لَمعاقدُ الإسلام، بل من حيث محادَّتُها سبيلَ الحق فيما كشفته للخلق مقاديرُ الله الحسان، لكننا لا نراوَغ بضجيج اللهو واللعب وعجيج الزهو والشغب عن حقائق الأمور، ونُلصقهم بها بقدر ما يُقصون هم أنفسهم، ننظر إليهم -فرحين بالنكوص عنها مغتبطين بالفرار منها- فنظل نعجب! إن يندفعون إلا في دائرةٍ وهم لا يبصرون.
قال صديقي: لكنَّ الفرق بين أُولاء الثائرين عليها وبين من عرفنا من السلفيين؛ واسعٌ عظيمٌ.
قلت: ميزاننا في القضية واحدٌ؛ “لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ”، ذلك فرقان خير الفاصلين الحقُّ، جعله ميزانًا مطلقًا في الحكم على عباده، جماعاتٍ ووحدانًا، ويوم يلقونه يفصل بينهم بمبناه كما قضى فيهم هنا بمعناه؛ أنه لا يكون أحدٌ على شيءٍ حتى يأخذ الكتاب كلَّه، ويعمل به كلِّه، ويجاهد في سبيله كلِّه، إلا ما عجز دونه؛ ذلك حقُّ إقامة الدين.
كلهم -يا صديقي- على صراط المقتسمين، “الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ”؛ فقالوا: “نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍٍ”، وهؤلاء -اليوم- يؤمنون بالكتاب كله؛ لكنهم فرَّقوا -جهلًا- بين جوانبه في النظر، وعارضوا -ظلمًا- بين نواحيه في العمل، جعلوا لله مما أنزل من الشرائع والأحكام نصيبًا؛ فقالوا: “الصراع السلطوي” للجاهلين الحماسيين الفارغين بزعمهم، والعلوم والفلسفة والآداب لأنفسنا، فما كان لغيرهم شنَّعوه بتصريحاتٍ وتلميحاتٍ وبشَّعوه، وما كان لهم فحِمَىً عزيزٌ حَرِيزٌ مصونٌ؛ لأشباههم وما ملكت شمائلهم كهنوتٌ مكنونٌ، وعن من خالفهم محظورٌ مجذوذٌ ممنونٌ، ساء ما يحكمون.
يا صديقي إن يكن من فرقٍ حقٍّ بين هؤلاء وأولئك؛ فجَهْدُ المحدَثين أن يتوسعوا في علومٍ قصُر عنها الأقدمون عَرْضًا، وأن يتعمقوا في النظر في أبوابها طُولًا، ولولا عزلُهم هذا عن جهاد الطواغيت -الذين يُساق الناس بويلاتهم كل ساعةٍ إلى الجحيم زُمَرًا- لشكرناهم به وشكرناه بهم.
يا صديقي؛ السلفيُّ بالسلفية فيه صار سلفيًّا، والإخوانيُّ بالإخوانية فيه صار إخوانيًّا، والجهاديُّ بالجهادية فيه صار جهاديًّا؛ أنماطٌ نفسيةٌ، وأنساقٌ عقليةٌ، وجيتوهاتٌ اجتماعيةٌ، ثم أفكارٌ.
أرجو أن تزيد المنشورات بالتعليقات في المقصود بيانًا، والله مولانا، يسلِّمُنا ويسدِّدُنا أجمعين.