اللهم هذه ساعة الإجابة من

اللهم هذه ساعة الإجابة من يوم الجمعة الأزهر في يوم عاشوراء الأبهر؛ أستغفرك رباه فيها ثم طلابي استغفارًا كثيرًا شديدًا؛ فأَنِلْنِي قبولَك وإياهم.

هذا حرفٌ أعتذر به إلى كل طالبٍ وطالبةٍ أسأت إليهم وجنيت عليهم -جهولًا ظلومًا- بتعنيفٍ نفسيٍّ أو حِسِّيٍّ، ممن شرَّفني الله طويلًا بتحفيظهم كتابَه.

أما تأخيرهم عن المنصرَف شغلًا عنهم بما ليس أولى منهم؛ فمظلمةٌ أخرى.

قد اجتاح ذنبي نفسي، وحقُّكم فوق رأسي؛ فاغفروا لي سادتي غيرَ مأمورين.

اللهم من وصَّل اعتذاري هذا إلى واحدٍ منهم؛ فصِله بحُسن عبادتك في دنياه، وبرحمتك في برزخه، وبجوارك في الفردوس الأعلى يوم لقائه إياك.

هل حسبي طلابي أن أقول لكم معترفًا بخطيئتي ذليلًا بها عليكم: والله ما قصدت سوءًا يوم ركبت هذه الأُحْمُوقات! بل كنت -وواخجلي- أظن أني فاقِهٌ حكيمٌ، وأني ما دمت أعاقبكم -وقتئذٍ- بأهونَ مما كان يعاقبني به شيخي -رضي الله عنه- كثيرًا؛ فلا بأس علي ولا جُناح! وإني لمخذولٌ مخذولٌ.

إني مُذ حِيل بيني وبينكم، كلما وصلني فاضلٌ منكم برسالةٍ ذكرٌ أو أنثى؛ اعتذرت إليه اعتذارًا بليغًا، وأوصيته مستحلفًا بإبلاغ اعتذاري إلى كل من يلقاه منكم، ومع أني ما اعتذرت إلى جميلٍ نبيلٍ منكم بشيءٍ؛ إلا جعل -بلُطفه وعطفه- ظلمي عدلًا وإساءتي إحسانًا؛ إلا أني لا أغفر لنفسي هذا ما دمت حيًّا؛ وكيف أغفر لها ما لعله بقيتْ آثارُه السُّوأى في واحدٍ منكم!

لعل بعضكم أن يقول لي الآن: لئن أسأت يا شيخ فلقد أحسنت؛ فأما قبلُ فلا يقولن أحدكم ولا غيركم: “يا شيخٌ”؛ فإني أمقتها شهد الله، وأما بعدُ فإني امرؤٌ يتعاظمني قليلُ إساءتي إلى غيري حتى لا أرى لي إحسانًا إليه، كما يتعاظمني يسيرُ إحسان غيري إلي حتى لا أرى له إساءةً إلي؛ كيف إذا كانت الإساءة كلها مني وإلى من مُلئوا إحسانًا، أيها السَّفرة البررة طلاب كتاب الله!

ثمانية عشر عامًا نَعِمَ قلبي؛ بتعليم الأطفال كلامَ ربي.

كانوا في نواحيها أحاديثَ النفس، ورياضَ العقل، ونشاطَ الجسم، وربيعَ الحياة.

كانوا سلامَ الله في داري، ورحمتَه بأهلي، وبركاتِه على جَهدي؛ فعليهم سلام الله ورحمته وبركاته في دورهم الثلاثة، وعلى من أحبُّوا كرامًا أجمعين.

كانوا رشادي كلما غوَيْتُ بِظَلْمائي، وغَنائي كلما أمْلَقْتُ بجَدْبائي.

كان لي منهم بعضُ ما لهم من القرآن؛ موعظةٌ، وشفاءٌ، وهدًى، ورحمةٌ.

يا نِعمتِ الأصواتُ عاليةً مختلطةً بتَرْداد القرآن؛ في جَنَبَات نفسي وداري!

يا طوبى ذكراهم؛ حضورًا ومنصرَفًا، حفظًا وتفريطًا وتلعثمًا بينهما، ثوابًا وعقابًا، وكلَّ شيءٍ كان في كل عهدهم النضير من كل طالبٍ وطالبةٍ!

يا حُبور روحي بجميع ما كان بهم؛ راغبين راهبين، ضاحكين باكين، جادِّين لاعبين!

قد فصَّل الله لي مناقبهم ومثالبهم تفصيلًا عجبًا، وبان لي من طبائعهم وخلائقهم بعضُ ما لا يَبين لهم من أنفسهم ولا لآبائهم وأمهاتهم، فأنا أَذكر جمهرتهم وجمهرة هذا فيهم، وأتعشَّق لهم كمال كل تمامٍ وتمام كل كمالٍ.

كيف وسِعهم مئةً أو يزيدون مكانٌ! كم طاب بهم من الفجر إلى العشاء زمانٌ!

قد كنت أبهج الناس أتقلَّب في نعمائهم؛ حتى حال الطغاة -لعنهم الله- بيني وبينهم، فاستحال بياضُها سوادًا، إلا فضلًا من ربي بقي علي كبيرًا.

الشأن قديمٌ، يومَ حسد إبليسُ آدم؛ فحنقت الرذيلة على الفضيلة، وتغيَّظ العُهر من الطُّهر، لا جديد في المعركة بين الإسلام والجاهلية إلى يوم الدين.

ربِّ بما حالوا بيني وبينهم؛ فحُل بينهم وبين العافية، يدَك فوق أيدينا إعدادًا وإمدادًا؛ حتى يَشقوا بنا أحياءً وأمواتًا ومبعوثين، حسبنا أنت ونعم الوكيل.

أُولو البلاء غيري، وإني بحمد الله في سلامةٍ وسعةٍ، أعوذ بالله أن أتشبَّع بما لم أُعْطَ، وأن أُحب الحمد بما لم أفعل؛ لكني مِن فقد طلابي صِحابي منذ أُخرجت من بيتي في كبدٍ، ولولا طمعٌ وفيرٌ في جنة الله الجامعة لمُتُّ كمدًا.

لقد أصبت فيهم وأخطأت، وأحسنت إليهم وأسأت؛ أما هم فعصمهم الله.

أحاطوني بنقاوتهم، وغمروني بصفاوتهم، فحظِّي منهم أطيب من نصيبهم مني وأوفى، لو كان لهم مني نصيبٌ؛ أستعفيك اللهم من أملٍ بلا عملٍ.

تالله لقد وَهَتْ روحي من بَعدهم وكانت بينهم صبيةً، وشاخ قلبي في بُعدهم وكان بهم فتيًّا؛ حتى بِتُّ أُنكر في بعادهم نفسي؛ فما اليومَ نفسي!

لَعَمْرُكَ ما الغروبُ غروبَ شمسٍ ** ولكنْ أخْذُ قلبكَ في الأُفولِ

أنشأتُ هذا البيتَ ذاتَ كآبةٍ أنشأتْ بنفسي ابتئاسًا؛ إن ربي لطيفٌ لما يشاء.

اليوم كلما لقيت منهم أحدًا؛ لا يحيط به بصري، إذ يودُّ قلبي لو أحاط به هو.
الحديث عنكم -يا ثمراتِ قلبي- عجبٌ كريمٌ ذو شجونٍ، لا يفي ببعضه بيانٌ، وإن لكم فيَّ مقالًا؛ لئن حسُن فأنتم له أهلٌ، ولئن ساء فأنا له أهلٌ.

عملت الجنُّ لسليمان -صلَّى الله عليه- ما شاء “مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ” فعمل لله شكرًا، وملأ الأطفالُ بيتي من أعاجيب التنزيل بقرارٍ وجوابٍ آياتٍ بيناتٍ فلم أكن في الشاكرين، ويوم “قَالَتْ نَمْلَةٌ”؛ ذكَر -سلَّم الله عليه- ربَّه ضارعًا: “رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ”، وقد أَتْرَعَ الأطفالُ بيتي من كلام ربي قولًا؛ فلم أكُ من الذاكرين؛ يا حسرتاي.

اللهم إني اليوم -ولم يعُد البَنون شهودًا- أَذكرك، وأشكرك بمِنَّتك علي بهم فلا أَكفرك، لك الحمد جزيلًا وعليك الثناء جميلًا، عن ضعف الشُّكران تجاوَز وأنت أحسن المحسنين؛ تلك نعمةٌ ليس فوقها إلا نعمة الإسلام وأمي.

أقول متملِّقًا مقام الكليم: “رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ”.

يا شبيبة الوحي المقدَّس، يا مشاعل النور في الدَّياجير، يا نبات يمين الله: إني امرؤٌ لا أرى الغد إلا فيكم، ولا سناءه إلا منكم، ولا فتْحه إلا عليكم.

يقول فؤادي كلما بَهَرَته وجوهُكم: إن تكن يدُ الله الزارعة؛ فأيُّ يدٍ هي النازعة!

ربَّنا لِيُقيموا دينك في العالمين؛ فاصنعهم على عينك، واصطنِعهم لنفسك.

يا كل معلِّمي تنزيل الحكيم الحميد في الأرض؛ لَوَدِدت أن ربي جمعني بكم كافةً في بيته الحرام بين ركنه والمقام، فاستحلفتكم واحدًا واحدًا باسمه الأعظم ألا تقسوا على طلابكم، فمن اضطر إلى شيءٍ من القسوة (فيمن تَصلح له) غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا جُناح عليه؛ فإن الأصل عصمة نفوس الأطفال وأجسادهم عن السوء كله، وأبشع الظلم ظلم من لا يقدر على دفعه عن نفسه؛ كيف إذا كان طفلًا! ومن كان منهم غير مكلَّفٍ بالصلاة فليس بما دونها مكلَّفًا، ومن فرَّط والداه في تربيته -وهم جمهرة أطفال المسلمين اليوم- فهو مسكينٌ مستحقٌّ للشفقة الراشدة، ولا تعاقب طالبًا وأنت غضبان، واذكر أن العقاب وسيلةٌ لا غايةٌ، وبين المعالجة والمحاسبة اتفاقٌ وافتراقٌ، فأما الانتقام فلا موضع له، ولا يصلح ذو عُقَدٍ نفسيةٍ لتعليم شيءٍ من العلم؛ كيف بتعليم القرآن! ولا تثأر لنفسك من طالبك إذا أساء إليك؛ لكن أدِّبه بما يليق بعمره وعقله وطبعه، ومن استغاث بالله حال عقابه فأغثه وأمسِك، والموفَّق من وضع الشيء في موضعه، والتمييز بين أنواع الطلاب نورٌ يجعله الله في بصيرة المعلِّم وبصَرِه، وأحسنُ إحسانك إلى من تستصلحه حين لا يحسن، وبالرِّفق تُستخرَج الحَيَّة من جُحرها، وإن الله ليعطي عليه ما لا يعطي على العنف، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أغلظت على طلابي؛ اللهم غفرًا.

ربِّ هب لي عفوهم والصفح الجميل، لئن لم ترحمني بهذا أكن من البائسين.

أضف تعليق