تعلَّموا الاقتصاد في الذنوب؛ قبلها

تعلَّموا الاقتصاد في الذنوب؛ قبلها وخلالها وبعدها.

– الاقتصاد قبل الذنب:

ما استطعت أن تؤجِّله؛ فأجِّله. ولم لا تستطيع!

ألَا إن أشرف العجز العجز عن معصية الله، وأخسُّ القدرة القدرة عليها؛ اللهم عجزًا شريفًا عن عصيانك لا يغادر قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا ما بقينا.

لعلك -صانك الرحمن وزانك- إن أجَّلت الذنب؛ أحرزك الله منه فلم تُقارفه، واذكر طاعاتٍ كثيرةً أجَّلتها -ويا خجَل القلوب من الله!- أفلا تؤجِّل عصيانك!

– الاقتصاد خلال الذنب:

لا تسرف فيه؛ لا تستوف لذَّاتِك كلها منه.

إذا كان ذنبك يُقضى بوسيلةٍ واحدةٍ؛ فلا تعْدُها إلى غيرها؛ ذاك أسلمُ لقلبك حالًا ومآلًا، وكم جرَّبتَ فخرَّبتَ! أوقد نسيت آثار سوالف توسُّعك السُّوأى!

إذا كان ذنبك يُقضى بك وحدك؛ فلا تورِّط معك فيه غيرك؛ ذلك أخف لك عند ربك لو ذهبتْ عنك سَكْرتك فشهدت القبائح كما هي، وهَبْ أن ربك الوهاب وهبك من لدنه توبةً؛ من أين لك توبة من انتهك بك حُرمةً من حُرماته!

إذا جاءتك رسالةٌ من الله خلال ذنبك؛ فأحسن استقبالها، فإنك إن أحسنت استقبالها؛ تابَعَك الله بأخواتها عند غيره من الذنوب لم يَحرمك، وإنه -من قبلُ- أدبٌ مع الله عظيمٌ، ثوابه حياؤه منك يوم تلقاه جزاءً وفاقًا.

من ذلك العُطاس يقدُره الله لك خلال معصيتك؛ رسالةٌ منه حقُّها التعظيم والإجلال، أولست ممن يقول إذا عطس: الحمد لله! فالآن لا تحمد الله على عُطاسك فحسْب؛ بل على رسالةٍ ناولك إياها حين لم يناولها غيرَك.

تذكَّر أن المعصية ليست مقصودةً لنفسها؛ بل هي غلبة الشهوة أو الغضب أو غير ذَيْنِ من بواعث المعاصي، فإذا صرَفك الله عنها بصارفٍ من الصوارف -رأفةً بك ورحمةً لك- فانصرِف؛ فإن انصرافك عنها بعد اشتهائك لها مقامٌ يُعجب الله في عليائه، ثم إن جزاءه نعيمٌ في الجنة يقال له: الإيواء؛ قال الله فيه -علا وتعالى-: “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى”؛ ما أدقَّ وصف الجنة في هذا السياق بالمأوى!

إن مشتهى الإنسان من آثامه إراحة نفسه أو إراحة جسده أو إراحتهما جميعًا، إراحتهما من تعبٍ حقيقيٍّ أو تعبٍ أتعَبَهما هو به، هذه الراحة إن وجدها بطريق معصيةٍ لم تكَدْ تصفو له، مهما كَدَّ في تحصيلها؛ بل تُنغصِّها عليه مكدِّراتٌ لا يحصيها إلا الله والذين ذاقوها. أما في الجنة فالراحة الراحة، والمأوى المأوى؛ يرتاح كل شيءٍ فيك بكل رَوْحٍ فيها، ويأوي كل شيءٍ بك إلى كل سكنٍ بها.

لهذا ونحوه سماها باريها دار السلام؛ سلِمتْ كل لذةٍ فيها من كل آفةٍ، فهذا والله المشتهى والمنتهى؛ لا لذةٌ تحفُّها الآلام من كل مكانٍ، ثم لا تُعْقِب إلا أسَفًا.

– الاقتصاد بعد الذنب:

لا تفرح به في نفسك، ولا تجاهر به عند غيرك.

ويحك! ألم تقض منه وطرك! ألم تُسكِّن غضبك أو شهوتك! لِم تأبى إلا أن تزيد في سيئاتك وبما لا ينفعك بعدها! أي الناس أحمق من هذا وقتئذٍ!

“فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ”؛ تالله ما عوقبوا بمثل هذا التقريع عذابًا، إنه -إذ يحكيه الله عن قلوبهم لا تخفى عليه أسرارها- أغلظ عليهم من عذاب جهنم بكل فظائعه؛ واغوثاه رباه من فرحٍ بعصيانك حتى نلقاك!

ألست -مهما عصيت الله في قليلٍ أو كثيرٍ- تحب الله! فأنَّى يُفرحك ما لا يُفرحه! ألست -مهما عصيت الله في قليلٍ أو كثيرٍ- تكره أن يجترئ عليه الخلق بالمعاصي! فلم تجاهر بها وما المجاهرة إلا حضٌّ عليها ودعوةٌ إليها!

يا حبيبي؛ الآن فأغلق منافذ العصيان التي بصَّرك الله بها في سوابق الأوزار، وبادر بالتوبة شهادةً على نفسك بديمومة الافتقار، وقل: رب ما زادني الشرود عنك إلا حاجةً إليك، أنا البعيد حتى تقرِّبني، المقطوع حتى تصِلني، المحروم حتى تعطيني، الوحشان حتى تؤنسني، لا ملجأ ولا منجا لي منك إلا إليك.

يا حبيبي؛ الآن وقد عزمت على الاقتصاد في خطاياك وأنقذك الله منها؛ فإني مُهْدِيك هديتين عن نبيك وعن ربك؛ فأما عن نبيك -صلى الله عليه وسلم- فحديثٌ رفيقٌ كريمٌ؛ “الندم توبةٌ”، وأما عن ربك -عزَّ ثناؤه- فأثرٌ حميدٌ مجيدٌ؛ “لَلَّهُ أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد”.

اليقين أن رسول الله يستحق إقرارَك عينَه، وأن الله يستحق تفريحك إياه.

أضف تعليق