#في_حياة_بيوت_المسلمين.
لئن عجبت من عقوق الصغار آباءَهم شيئًا؛ فإن عجبي من عقوق الكبار لا ينقضي!
كيف يعقُّ الكبار آباءهم؛ وقد ذاقوا فيما عاشوا حتى كبروا من نفوسهم ومن الناس والدنيا ما ذاقوا!
أنا يا أمي كلما كبرت ساعةً شهدت فضلك سنةً، أنا يا أبي كلما تأخرتْ قدرةُ حِسِّي سنةً تقدمتُ نحو قدْر نفسِك عشرًا، يا والدتي؛ أنا كلما أسْنَنْتُ وَهَى قلبي فابتغى القوة في حنانك المَكِين، يا والدى؛ أنا كلما وَهَنَ عظْمي عَظُمَ وَهَنِي فلُذْتُ بجدارك المتين، أنا يا أبَويَّ كلما هُتِكَ لي من نفسي شُحٌّ تجلَّي لي من نفسَيكما ألفُ عطاءٍ، أنا يا والدَيَّ كلما خالطت الناس شيئًا مُلئت رعبًا، ففررت إلى حِماكما أتحصَّن بمأمنه، يا أمي وأبي؛ إذا استوت الحياة والموت؛ لم تستو أنوار جواركما وظلمات البِعَاد، يا أبي وأمي؛ كل ظلٍّ ينبسط لي منقبضًا دونكما حَرُورٌ، وكل رَطْبٍ يذوقه قلبي لا تذوقانه قبلي يابسٌ، يا حبيبيَّ؛ أنا خائفٌ إلا في بساطٍ من أمانكما سلامٍ، يا صديقيَّ؛ يملأ بُنَيَّكُمَا فراغَ فؤاده ببِضْع أثاراتٍ من بركاتكما كلَّ خمس كآباتٍ ونصفٍ، ويدَّخر باقيَها لما بقي من أوجاعه في أكداح الحياة، أُمَّيَاهُ ويا أبت؛ رحمكما الله كما رحم بكما، ورحمكما، ورحمكما، يا خليليَّ؛ لئن ضَؤُلَ إحساني إليكما صغيرًا؛ فقد أَرْبَى الله برِّي بكما كبيرًا، إني -بلا ولدٍ- أبصر ما بذلتماه لي ولدًا على وجهه المبين؛ كيف بصيرتي لو كنت ذا ولدٍ! أستغفر الرحمن من أيسر التفريط في وَصَاته الجليلة بقدْركما العظيم؛ إنه كان للأوَّابين غفورًا.
الآن وقد أوشك غرق العُمُر أن يدركني أبرُّكما فلا أجفو، وأتبلَّغ بأَمْداد النهار بين يديكما لأقوم الليلَ عند قدميكما ولا أغفو، ويَكدِر بالي الدهرَ ما كدِر بالُكما بعضَ يومٍ فلا يصفو، وإلى إِنعام حبِّكما وإنعاش قربِكما تصْبو روحُ صغيرِكما وتهْفو، وآثارَكما -اليومَ- دون مسالك الأقربين والأبعدين جميعًا يقْفو.
كيف يعقُّ الكبار آباءهم؛ وقد ذاقوا فيما عاشوا حتى كبروا من نفوسهم ومن الناس والدنيا ما ذاقوا!
لئن عجبت من عقوق الصغار آباءَهم شيئًا؛ فإن عجبي من عقوق الكبار لا ينقضي!