“فتنة الدم .. لعنة الدم”؛ أكثرَ الطيبون يردِّدونها؛ كثَّر الله أمثالهم، وكثَّر الحق بهم.
“أول ما يُقضى فيه بين الناس يوم القيامة الدماء”؛ هذا وفاء الشِّرعة الغرَّاء لحرمة الدم المعصوم لا مزيد عليه، يُشَفِّعه قول إمام المقسطين -صلى الله عليه وسلم- كذلك: “لو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل مسلمٍ؛ لأكبَّهم الله جميعًا على وجوههم في النار”؛ الجزاء الحق من الإله الحق.
أحلف بجلال الرب بين الركن والمقام؛ إن كثيرًا مما أَغْطَشَ مصر ظلمةً ببعض هذه الدماء المسفوكة عُتُوًّا وطغيانًا، لكنَّ فتنةً أخرى أولى بالذكر وأحْرَى، وإنها عند الله لأعمُّ وأطمُّ؛ إنها فتنة الكفر.
“وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ”، “وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ”؛ بذلك قضى الله ديانةً وأمانةً، الكفر بالله أشد من القتل، الإشراك بالله أكبر من القتل، حق الله -تعالى- أن يوحَّد أبدًا أعظم من حق المؤمن أن يعيش أمدًا.
إن ضجيج البلاد في السماء بأنواعٍ من الكفر بالله سبحانه؛ أشد من ضجيج البلاد في الأرض بأنواعٍ من الجَوْر، ولقد أعلم أن أكثر الجَوْر -اليوم- من بعض الكفر، وأن امتزاجهما حقيقةٌ وافرةٌ كثيرًا.
تبديل العقائد والشرائع، وشرك القصور، وشرك القبور، وموالاة الكفار، وسب الدين، ومناصرة الطواغيت، والاستهزاء بأحكام الملة، ومحاربة الإسلام، والتنقص من قدر النبوة، وتصحيح أديان المشركين، وإنكار كثيرٍ من المعلوم من الدين بالضرورة، واستحلال جمهرةٍ من محرمات الله ورسوله استحلالًا ظاهرًا؛ هذه وغيرها من نواقض الإسلام -لا نواقصِه- ما أفشاها في طول البلاد وعرضها! حسبك سب دين الله الأجلِّ الأكرم لغة محاورةٍ بين كثيرٍ من أشباه الناس شيوخًا وشُبَّانًا وأطفالًا؛ حتى ليخشى المؤمن أن تنزل صاعقةٌ من السماء فتصيبه بهَوْل ما هو كائنٌ حوله من الكفر الغليظ.
لعل أحدكم يظن بذلك انفكاك الكفر عن العمل! لا والله؛ بل الكفر بالله كائنٌ -هنا- بين عملين؛ عملٍ يسبقه استحق به صاحبه خذلان الله له في بقاء الإيمان، وعملٍ يلحقه هو ترجمة الكفر إلى واقعٍ.
ثلاثٌ لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ليست لغيره؛ نظر إلى الكعبة المشرَّفة يومًا فقال: “ما أطيبك، وأطيب ريحك! ما أعظمك، وأعظم حرمتك! والذي نفس محمدٍ بيده؛ لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك، مالِه، ودمِه”، وقال: “إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسها فيها؛ سفك الدم الحرام بغير حلِّه”، وقال لرجل قتل نفسًا بغير حقٍّ: “تزود من الماء البارد؛ فإنك لا تدخل الجنة”؛ كأنه قال للأبعد: اكتظَّ من الدنيا بما شئت؛ ليس لك في الآخرة خلاقٌ؛ أوليس ابنَ الفاروق؟!
تزاحمت كلمات الله ورسوله في قلبه، واحتشدت مصفوفةً كلها في عقله؛ فكانت له هذه الثلاث.
“وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا”، “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”، “والذي نفسي بيده؛ لقتلُ مؤمنٍ أعظم عند الله من زوال الدنيا”، “ثكلته أمه رجلٌ قتل رجلًا متعمدًا؛ يجيء يومَ القيامة آخذًا قاتله بيمينه أو بيساره، وآخذًا رأسه بيمينه أو شماله، تشخبُ أوداجُه دمًا في قِبَلِ العرش، يقول: يا رب؛ سل عبدك؛ فيم قتلني؟!”، “كل ذنبٍ عسى الله أن يغفره؛ إلا الرجل يقتل المؤمن متعمدًا، أو الرجل يموت كافرًا”، “أبغض الناس إلى الله ثلاثٌ؛ ملحدٌ في الحرم، ومُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطَّلب دم امرىءٍ بغير حقٍّ ليُهَرِيق دمه”، “من استطاع أن لا يُحال بينه وبين الجنة ملءُ كفٍّ من دمٍ أهراقه؛ فليفعل”، “لا يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه؛ ما لم يصب دمًا حرامًا”، “ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا؛ يضرب بعضكم رقاب بعضٍ”، “من قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله؛ لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا”، “يجيء الرجل آخذًا بيد الرجل، فيقول: يا رب؛ هذا قتلني، فيقول له: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي، ويجيء الرجل آخذًا بيد الرجل، فيقول: يا رب؛ إن هذا قتلني، فيقول الله: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلانٍ، فيقول الله: إنها ليست لفلانٍ، فيبوء بإثمه”، “لا يزال المؤمن معنقًا -طويل العنق بكثرة حسناته- ما لم يصب دمًا حرامًا”، “اجتنبوا السبع الموبقات”؛ فذكر منها “وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق”.
انظر -نظر الله إليك يوم لا ينظر إلى الظالمين- ما تجد بنفسك الآن من رجفةٍ شديدةٍ وقد قرأت وعيد الله ورسوله مَن سفك الدم الحرام مجتمعًا! فإن بعض الكفر بالله أعظم من كل ذلك؛ اللهم سلِّم سلِّم.
كان الإنس والجن عدمًا فأوجدهم الله، ما أوجدهم إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، فإذا كفروا به وأشركوا معه؛ لم يكن شيءٌ يقترفونه أبدًا -مهما جلَّ وجمَّ- أكبر من نقض ما خُلقوا لأجله؛ ذلك القول الفصل، وكانت السماوات والأرض عدمًا فخلقهما الله، ما خلقهما إلا بالحق ولتُجزى كل نفسٍ بما كسبت، ولا حق كتوحيد الله ولا باطل كالإشراك به، فإذا كفر عبدٌ بالله؛ استحق غضب السماء والأرض بأنواعٍ من العذاب في الدنيا، ثم يوم القيامة يرد إلى أشدها؛ من يسأل -إذا فقه هذا- عن أسباب نكبة البلاد؟!