لا ينفع الصبرُ المسلمَ في

لا ينفع الصبرُ المسلمَ في جهاد عدوه إلا وفيرًا؛ لذلك ألهم الله داود وأصحابه -في قتال جالوت وجنوده- أن يقولوا: “رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا”، كما ألهم السحرة -لما توعَّدهم فرعون- أن يقولوها.

فأما الأولون فأظفرهم الله بما أفرغ عليهم من صبرٍ وأنالهم من أسبابٍ، وأما الآخرون فكانوا أول النهار سحرةً وآخره -بمُنْهَمِر الصبر- شهداء؛ يقولون لا يبالون: “لَا ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ”.

أيها المجاهدون صانعو النهار؛ إن قلوبكم العَطَاشى وجوارحكم الظِّمَاء -مع حَرِّ الكفر ولَفْح مُنَازَلَته- لا يُبْرِدها إلا صبرٌ منسكبٌ دفَّاقٌ؛ فاضرعوا إلى السماء “رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا”، وارتقبوا غوث الله.

تبكون الشهداء! على أنفسنا فلتبكي

تبكون الشهداء! على أنفسنا فلتبكي البواكي.

حَسْب الشهداء راحةً كبرى؛ أنْ كُفُوا مؤنة الخواتيم.

أما نحن؛ فلا ندري على أي حالٍ باطنةٍ وظاهرةٍ نموت.

من لم يمت اليوم مات غدًا، ومن لم يمت عنك مت عنه.

أهذا زمانٌ يُبكى فيه على ميتٍ نجا بدينه! كيف على الشهيد!

فتنٌ ما خطرت على بال إبليس يوم “لَأُغْوِيَنَّهُمْ”؛ رعبٌ رعبٌ واللهِ.

“لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه”.

اللهم إني أسألك أن أسألك الشهادة صادقًا، فإني إن صدَقتك صدَقتني.

يا كل مستضعفٍ طالته أيدي

يا كل مستضعفٍ طالته أيدي كفرةٍ؛ حسبك الله كافيًا لك وكافًّا عنك.

صباح المستضعفين أينما كانوا كفاية الله وكفُّه؛ قرَّت عين مكتفٍ بالله.

من عرف الله اكتفى به، ومن لم يعرفه ابتغى الكفاية بغيره وأنَّى يُكفى!

إلهي؛ ماذا فقد من وجدك! ومن كنت له فمن عليه! كفى بربنا كافيًا وكافًّا.

“كَفَىٰ بِاللَّهِ”.

“وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا”.

“وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا”.

“وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا”.

“وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا”.

“وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا”.

“وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا”.

“وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا”.

“فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ”.

“إِنَّا كَفَيْنَاكَ”.

“أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ”.

“وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ”.

“أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”.

“أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم”.

“أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ”.

“عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا”.

“وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ”.

يا من كفى به كافيًا وكافًّا؛ اكْفِ الأحبة بإدلب وأكناف بيت المقدس ما هم فيه من شدائد الأهوال، وكُفَّ أيدي الكافرين عنهم؛ لا إله إلا أنت خير كافٍ وكافٍّ.

“إِنَّ هَٰؤُلَآءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ

“إِنَّ هَٰؤُلَآءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا”.

كلما أحست نفسك بلاءها ثقيلًا؛ صبِّرها بهذه التذكرة عن ربك.

ألا يسرك أن يخفف الله عنك ثقل يوم الدين؛ بما ثقل عليك اليوم من بلاءٍ!

مساءُ الوحيِ والسيفِ ** عقيدةُ

مساءُ الوحيِ والسيفِ ** عقيدةُ كلِّ ذي جوفِ

منَ الأحرارِ في قدسٍ ** مغاويرٍ لدى الزحفِ

أيها الداخلون في الإسلام كافةً، الآخذون ما آتاهم الله بقوةٍ، غيرُ المقتسمين الجاعلين القرآن عِضِين؛ مساؤكم وحيٌ وسيفٌ، لا يفرِّق بينهما إلا منافقٌ.

“بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ”؛ كذلك مضت سنة الله في الحق ألا يفعل في الباطل أفعاله إلا مقذوفًا به، وألا يَزهق الباطل إلا بالحق مرميًّا به في دماغه؛ لا تبديل لكلمات الله.

“وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”؛ قالت طائفةٌ: الحق القرآن، وقالت أخرى: الحق الجهاد. لأنهم كانوا أهل قرآنٍ وجهادٍ جميعًا فلم يفرِّقوا بينهما، وكما جمع الله بين إزهاق الباطل وتنزيل القرآن علمًا؛ جمعوا هم بينهما عملًا.

إن الذين يدعونكم اليوم إلى دينٍ لا سيف له؛ كالذين تمنوا بالأمس قرآنًا لا يحضُّ على قتالٍ؛ “وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ”؛ هؤلاء أبناء أولئك البررة، لُعِنوا أجمعون.

تالله ما كانت عقيدة (الوحي والسيف) إلا علمًا ضروريًّا يُستدلُّ به لا يُستدلُّ له؛ حتى خسفت خلائقُ الجبن بحثالةٍ من عبيد الأرض، فباتوا يتطلَّبون لها البراهين العقلية والأدلة الشرعية كأنها علمٌ حصوليٌّ؛ فأُفٍّ وتُفٍّ.

ليس بين الإيمان بالوحي والكفر بالسيف إلا النفاق، واقرؤوا -مأمورين- قول ربكم: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”؛ جعل -تعالى- بين إيمانهم وبين جهادهم هذه الصفة السالبة “ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا”؛ لأن الشك في الوحي هو المُقْعِد عن الجهاد، كما حكى الله عن المنافقين الأوائل: “إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ”؛ فلا ينفي الشك عن الإيمان نفيًا ويُثْبِت اليقين فيه إثباتًا إلا الجهاد.

“وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا”؛ قال ابن تيمية رحمه الله: “قِوام الدين كتابٌ يهدي، وسيفٌ ينصر”. قلت: فمن أراد بالله في النصر اكتفاءً؛ فليقبل هداه وسيفه.

“لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ”؛ قال الغزالي رحمه الله: “إن الله لما علم أن في الناس من لا ينفعه الكتاب الذي أنزله الله هدًى للناس؛ أنزل مع الكتاب الحديد فيه بأسٌ شديدٌ؛ لِعلمه أنه لا يُخْرِج المِراء من أدمغة أهل اللِّجاج إلا الحديد”. (التوحيد والحديد) عقيدةٌ أطبق عليها سلفك، ثم خلَفت بعدهم خُلوفٌ عِزِينَ.

“وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ”؛ لما جمع الله لنبيه داود -عليه صلاتُه وسلامُه- بينهما؛ كان من شأنه في إقامة الحق في الخلق ما كان.

“هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ”؛ فإن تسَل عن ذلك الظهور الذي هو غاية إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن جوابه سُوَر هذه الآية الثلاثة؛ التوبة والفتح والصف؛ فأما التوبة فقد نزلت في الذين خانوا الوحي والسيف، وأما الفتح والصف فحسبك من اسمَيهما ما أراد الله بالوحي والسيف شرعًا، وما حقَّت به سننه الكونية فيهما قدَرًا.

نبيٌّ أتانا بعدَ يأسٍ وفترةٍ ** منَ الرسلِ والأوثانُ في الأرضِ تُعبدُ

فأمسى سراجًا مستنيرًا وهاديًا ** يلوحُ كما لاحَ الصَّقيلُ المهندُ

يُشَبِّهه شاعره الأجلُّ حسان بن ثابتٍ -رضي الله عنه- بالسيف؛ إذ يحمده بالهدى ويمدحه، فلا يزدان مدح مسلمٍ إلى يوم القيامة إلا بهما.

“وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ”؛ تحسبون إحقاق حقكم وقطع دابر عدوكم؛ يكون بوحي ربكم في غير أسباب عزكم! فلقد أراد الله شريعةً تُصان بالسيف، وسيفًا يُزان بالشريعة، لا تفريق بينهما -بلا مساواةٍ- في الأذهان ولا في العِيان.

“إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ”؛ ما كان تثبيت المؤمنين في الجهاد إلا وحيًا يُوحى، وما كان وحي الله ليذر المؤمنين يقاتَلون بلا تأسيسٍ لعقائد القتال وشرائعه وأخلاقه.

قال الرافعي رحمه الله: “إن للسيوف في الإسلام أخلاقًا”. قلت: مبصرةٌ سيوفُنا لا تَخبط عشواء، صارمةٌ تحسم العلل والأدواء، حكيمةٌ في الابتداء والانتهاء.

يا صاحبَ الحقِّ الكبيرِ عرفتَهُ ** وبسطتَهُ في حكمةٍ وأناةِ

وضربتَهُ مثلًا لكلِّ مكابرٍ ** لا يستوي حقٌّ بغيرِ حُماةِ

“وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ”؛ قضى الله ألا تقوم (لا إله إلا الله) في الأرض تامةً؛ إلا بجهاد أهلها في سبيلها كاملًا غير منقوصٍ.

والرأيُ لمْ يُنْضَ المهندُ دونهُ ** كالسيفِ لمْ تضربْ بهِ الآراءُ

الحربُ في حقٍّ لديكَ شريعةٌ ** ومنَ السمومِ الناقعاتِ دواءُ

قد جمع الله لرسله القوتين النظرية والعملية، فقال: “أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ”؛ بالأولى يَفْرُقون بين الحق والباطل علمًا، وبالأخرى يفرِّقون بينهما عملًا.

قال سيد قطب رحمه الله: “والشر جامحٌ والباطل مسلَّحٌ، وهو يبطش غير متحرِّجٍ، ويضرب غير متورِّعٍ، ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له؛ فلا بد للإيمان والخير والحق من قوةٍ تحميها من البطش، وتقيها من الفتنة، وتحرسها من الأشواك والسموم، ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عُزَّلًا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل؛ اعتمادًا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغُل الحق في الفِطَر وعمق الخير في القلوب؛ فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتُزيغ الفِطَر، وللصبر حدٌّ وللاحتمال أمدٌ، وللطاقة البشرية مدًى تنتهي إليه، والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم، ومن ثَمَّ لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة؛ إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيؤون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد، وعندئذٍ أذن لهم في القتال لرد العدوان”.

قالوا غزوتَ ورسلُ اللهِ ما بُعثوا ** لقتلِ نفسٍ ولا جاؤوا لسفكِ دمِ

جهلٌ وتضليلُ أحلامٍ وسفسطةٌ ** فتحتَ بالسيفِ بعدَ الفتحِ بالقلمِ

قال شيخنا رفاعي سرور رفعه الله درجاتٍ وسرَّه يوم الحسرات: “اعتبار القوة وسيلةً؛ ليس فيه تجاوزٌ على وسيلة الإقناع بالكلمة”.

قال محمد رشيد رضا رحمه الله: “كن قويًّا بالحق؛ يعرف لك حقَّك كلُّ أحدٍ”.

إن الذين قالوا لموسى وقعدوا: “فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَآ”؛ خيرٌ ممن جاء بعدهم فقعد قعودهم وضل عن القتال سبيلًا؛ إنهم -على سوء أدبهم مع الله وكليمه- كانوا بُصراء بالمَخرج، لم يُلبسوا جبنهم مثقال فلسفةٍ.

ما كان دواء داء طغيان الجبارين في الأرض قطُّ إلا الجهاد، ولا يكون إلى يوم القيامة إلا كذلك، سنة الله في الحرب التي لا تتبدل ولا تتحول، ألا من عجز عن الجهاد عملًا؛ فلا يَضِل ويُضِل عنه نظرًا.

والحقُّ ليسَ وإنْ علا بمؤيَّدٍ ** حتى يُحوِّطَ جانبَيهِ حسامُ

“وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا”؛ قال قتادة رحمه الله: “إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- علم ألا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطانٍ؛ فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله؛ فإن السلطان رحمةٌ من الله جعله بين أظهُر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعضٍ؛ فأكل شديدُهم ضعيفَهم”.

والبيتُ لا يُبتنى إلا لهُ عُمُدٌ ** ولا عمادَ إذا لمْ تُرْسَ أوتادُ

فإنْ تجمَّعَ أوتادٌ وأعمدةٌ ** وساكنٌ بلغوا الأمرَ الذي كادوا

لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سَرَاةَ لهمْ ** ولا سَرَاةَ إذا جُهَّالُهمْ سادوا

إن سورة “اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ”؛ هي سورة “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ”؛ فمن دعا إلى هذه وصد عن تلك؛ لم يكُ إلا كافرًا بهما جميعًا، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلمٌ، وكيف يكون لله ورسوله مستجيبًا؛ من بات لعدوه وعدوهما جنيبًا! أما نحن فعلى رؤوسنا الأنفال وحيًا وسيفًا من ياءٍ إلى ميمٍ.

قال الغزالي رحمه الله: “والمُلك والدين توأمان؛ فالدين أصلٌ، والسلطان حارسٌ، وما لا أصل له فمهدومٌ، وما لا حارس له فضائعٌ”.

وما هوَ إلا الوحيُ أوْ حدُّ مُرْهَفٍ ** تُميلُ ظُباهُ أَخْدَعَيْ كلِّ مائلِ

فهذا دواءُ الداءِ منْ كلِّ عالمٍ ** وهذا دواءُ الداءِ منْ كلِّ جاهلِ

قال علي الطنطاوي رحمه الله: “سنة الله في هذه الدنيا أن الحق إن لم تكن معه القوة؛ سطا عليه الباطل حينًا، وللباطل جولةٌ ثم يضمحل، ونحن لما تركنا سنة الله ولم نَحْم حقنا بقوتنا؛ كان ما كان”.

والحقُّ والسيفُ منْ طبعٍ ومنْ نسبٍ ** كلاهما يتلقَّى الخَطْبَ عُريانا

قال عبد العزيز الطريفي فك الله أسره وأمكن من الكفرة آسِريه: “الحق بلا قوةٍ ضعفٌ، والقوة بلا حقٍّ ظلمٌ، وإذا اجتمع الحق والقوة تحقق العدل”.

سُقْنا الأدلةَ كالصباحِ لهمْ فما ** أغنتْ عنِ الحقِّ الصُّراحِ فتيلا

منْ يستدلَّ على الحقوقِ فلنْ يرى ** مثلَ الحُسام على الحقوقِ دليلا

إِنْ صُمَّتِ الآذانُ لنْ تسمعْ سوى ** قصفِ المدافعِ منطقًا معقولا

لغةُ الخصومِ منَ الرُّجومِ حروفُها ** فليقرؤوا منها الغَداةَ فصولا

لما أبَوا أنْ يفهموا إلا بها ** رُحْنَا نرتلها لهمْ ترتيلا

أدَّتْ رسالتَها المنابرُ وانبرى ** حدُّ السلاحِ بدَورهِ ليقولا

قال عتبة بن أبي سفيان رحمه الله: “اعرفوا الحق تعرفوا السيف؛ فإنكم الحاملون له حيث وضعُه أفضل، والواصفون له حيث عملُه أعدل”.

قديمًا قبل افتراق القرطاس والسيف؛ كانا على الحق أخوَين حميمَين، متساندَين لا متعاندَين، كان القرطاسُ صفحةَ السيف، والسيفُ ريشةَ القرطاس، لا يضرب السيفُ إلا بنور القرطاس، ولا يُسْطَر القرطاسُ إلا في ظل السيف، لا جَرَم لم يُقَلِّد نبيُّ الله أبا هريرة سيفَ خالدٍ، كما لم يناول خالدًا قرطاسَ أبي هريرة؛ لكنه علَّم الشيخ صَفَّ قدميه في الجُند حين يَثني القائدُ ركبتيه في الحلَقة، فإذا رأيت قرطاسًا يعادي سيفًا فاعلم أنه من زورٍ قُرْطِس.

قال: فأنت كالقائل: لا يُدفع عن الإسلام وأهله ضرٌّ ولا يُجلب إليهما نفعٌ إلا بالسيف! قلت: من زعم أن مجد الأمة موقوفٌ على القتال؛ فقد ضل وأضل، والجهاد أعمُّ من القتال، وأعظمُه البيان بالوحي؛ وهو المُوَطِّئ للقتال ابتداءً، والمُظِلُّ لحركته أثناءً، والحافظ لثمراته انتهاءً، وإنما السيف خادم الوحي وغلامه، لا يُسَكِّن متحركًا ولا يُحَرِّك ساكنًا إلا بإذن مولاه، وكلٌّ من عند الله.

“فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا”، “يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ”، بالقرآن وبالسيف أمر الله رسوله بجهاد الكافرين؛ لا يفرِّق بينهما إلا أصَمُّ عن القرآن أعمى عن الواقع.

التمكين درجتان دنيا وقُصْوى؛ تمكين مِنَّةٍ وإزاحةٍ واختبارٍ الذي في الأعراف والقَصص، وتمكين غلبةٍ وإحلالٍ واقتدارٍ الذي في الحج والنور، الأول يكون من الله مَنًّا على عباده المستضعفين -كلَّ انسدادٍ تامٍّ في شرايين الحياة- يبتليهم بسعته بعد ضيقهم لينظر كيف يعملون، والثاني جعل الله له جُملتين من الأسباب عرَّفها أُولي العلم والنُّهى؛ جُملة أسبابٍ كَسْبيةٍ بشريةٍ، وجُملة أسبابٍ وَهْبيةٍ ربانيةٍ، وقد يستوفي المؤمنون الجُملة الأولى بتوفيق الله ثم لا تصيبهم الثانية بحكمة الله فلا يُمكَّن لهم، وقد يستوفونها -أو يقاربون- فتصيبهم برحمة الله فيُمكَّن لهم، ولا يكون ‍التمكين الأعلى حتى يكون الأدنى، وبين الأدنى والأعلى ما شاء الله من درجاتٍ في أزمانٍ على أحوالٍ بأسبابٍ شَتَّى.

قال: فهل التمكين غايةٌ أم وسيلةٌ؟ أعني العمل لحاكمية الإسلام وحكمه.

قلت: التمكين غايةٌ لما قبله، ووسيلةٌ إلى ما بعده؛ ألم تر إلى ربك كيف قال: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ”! فجعله وسيلةً لإقامة الإسلام بأقصى درجةٍ في أعمِّ مساحةٍ، وما كان كذلك فهو غايةٌ لما قبله؛ فتبصَّر.

يا هذا؛ قد ضل في هذه المسألة -من الإسلاميين- طائفتان؛ طائفةٌ جعلت قصدها وأقوالها وأعمالها في سبيل ذلك وحده؛ حتى فرَّطت في عقائدَ وشرائعَ ومعاملاتٍ تفريطًا شنيعًا، وإنما جُعل التمكين لإقامة الدين؛ فكيف يُتوصَّل إليه بما يُحادُّه ويُشاقُّه! وطائفةٌ عصف بنفوسها متواتر الهزائم؛ حتى انفسخ في قلوبها ماضي العزائم، فباتوا لمعنى التمكين الدعوي الجهادي السياسي منكرين، ويقرِّرون في ذلك تقريرات العلمانيين نفسَها في تبعيض الإسلام وتَعْضِيَة عقائده وشرائعه؛ غير أن هؤلاء أشد جنايةً على الإسلام وأهله؛ لِمَا يُعْرَفون به في الناس من الانتساب إلى الحق؛ فالقصدَ القصدَ بينهما.

يا حبيبي؛ إياك وصراط المقتسمين “الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ”، فقالوا: “نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍٍ”، ولقد ورث هؤلاء اليوم طائفةٌ أقلُّ منهم شرفًا -بانتسابهم إلى الإسلام، ودعوتهم إليه- وقد جعلوه أحاديث ومزَّقوه كلَّ ممزَّقٍ؛ ففرَّقوا بالجهل بين جوانب الإسلام في النظر، وعارضوا بالظلم بين نواحيه في العمل، جعلوا لله مما أنزل من الشرائع والأحكام نصيبًا؛ فقالوا: (الصراع السلطوي) للجاهلين الحماسيِّين الفارغين بزعمهم، وتبيين الوحي شرائعَ ومقاصدَ لأمثالنا؛ فما كان لغيرهم شنَّعوه بتصريحاتٍ وتلميحاتٍ وبشَّعوه، وما كان لهم فحِمًى عزيزٌ حَرِيزٌ مصونٌ، لأشباههم وما ملكتْ شمائلُهم كهنوتٌ مكنونٌ، وعمَّن خالفهم محظورٌ مجذوذٌ ممنونٌ؛ ألا ساء ما يحكمون.

يا حبيبي؛ إن العلم بالوحي هو العلم؛ بصائرُ الله الحافظاتُ عبادَه؛ لكنَّ طالب علمٍ لا ينازل الجاهلية ولدٌ لها وإن ادَّعى لغيرها، وغاية علمه أن يُعَمَّم جاهلًا بالله، مهما فاق في فنونه طُولًا ومَهَر عَرضًا، وإن النُّسك هو النُّسك؛ حكمة الحق من الخلق، لكنَّ استدبار العابدين مقارعة الكافرين صلواتٌ في محاريب الشياطين، وشيوخه دجالون، وإن طالت لحاهم إلى السُّرَر، وقصُرت قُمُصُهم إلى الرُّكَب، وإن الإصلاح هو الإصلاح؛ قِبلة رسالات السماء؛ لكنه بإذنٍ من فرعون خرابُ الأرض، وكلُّ ناقةٍ لا تكيد الجاهلية لعقرها فليست بناقة (صالحٍ)، وإن نعق في الناس: إني رسولٌ من رب العالمين.

وقالَ اللهُ قدْ أرسلتُ عبدًا ** يقولُ الحقَّ إنْ نفعَ البلاءُ

وقالَ اللهُ قدْ سيَّرتُ جندًا ** همُ الأنصارُ عُرضَتُها اللقاءُ

“وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ ۖ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا”؛ لولا قراءة أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه ورضي عنهم- وحي الله بيِّنًا تامًّا على أعدائهم؛ ما سعوا في البطش بهم، ولو كتموا ونقصوا يومئذٍ لتركوهم، فأما اليوم فقد رضي الطواغيت بجماعاتٍ من المسلمين! تقرأ القرآن على الناس.. لكنْ غير بيٍّن وغير تامٍّ؛ فلَتقرؤنَّ القرآن كله على طواغيت الزمان جميعهم لا تستثنون منه ما يغيظهم؛ أو لتَدخلنَّ في دين الطواغيت وأنتم لا تشعرون.

وأخوفُ ما يخافُ الكفرُ منا ** عقيدتُنا وحدثنا الإمامُ

يا معشر من أسند ظهره إلى الإسلام جميعًا يبتغي به عز الدنيا ونجاة الآخرة؛ لا تُزَيِّلوا بين قوة حقه وحق قوته مثقال ذرةٍ فما دونها، سلفيين وأشاعرة وصوفيةً وسواكم؛ إلا تأخذوا الكتاب بقوةٍ جميعًا يعاقبكم الله بما عاقب به أسلافكم المفرِّقة؛ “فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ”؛ الجزاء من جنس العمل؛ فرَّق أولئك بين آيات الله ففرَّق بينهم، وعطَّل أكثركم الجهاد نظرًا أو عملًا؛ فجعل الله شقاقكم بينكم وقاتل بعضكم بعضًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومتى جاهدت الأمة عدوها؛ ألَّف الله بين قلوبها، وإن تركت الجهاد شَغل بعضَها ببعضٍ”.

ومنْ يبغِ حقًّا دونَ سيفٍ فإنهُ ** كحالبِ تيسٍ بالأباطيلِ يحلمُ

أيها الداخلون في الإسلام كافةً، الآخذون ما آتاهم الله بقوةٍ، غيرُ المقتسمين الجاعلين القرآن عِضِين؛ مساؤكم وحيٌ وسيفٌ، لا يفرِّق بينهما إلا منافقٌ.

مساءُ الوحيِ والسيفِ ** عقيدةُ كلِّ ذي جوفِ

منَ الأحرارِ في قدسٍ ** مغاويرٍ لدى الزحفِ

ربَّاه واسِ بهذا الحرف كل

ربَّاه واسِ بهذا الحرف كل ذي بلوى، واجعله برأفةٍ ورحمةٍ حنانًا له وسلوى:

إلام تحسب البلاء قضاءً عابرًا في حياتك!

أيُّ شيءٍ أدخل عليك أن البلاء بالشر أفتكُ منه بالخير!

متى تنقضي دهشاتك من دواهي دارٍ لم يكتمك الله فيها علمًا!

أمن محسوسٍ أم معقولٍ أم خبرٍ؛ كانت ثقتك بالدنيا، وراكنًا مطمئنًّا!

ألم يكن حق اليقين من لبيبٍ عضَّته الحياة عضَّتين؛ أن يبيت بسرِّها بصيرًا.

كيف لم يزدك صريح قبحها إلا حُسن ظنٍّ بها؛ غير أن تكون مجنونًا!

من أنكد عِيشةً من الظانِّين البلاء بالسيئات في حياتهم الدنيا؛ أمرًا محتمَلًا!

تَصْدَعُك حقائق الشرع والقدر بفاصلتين: إنما الحياة امتحانٌ، أنت هنا لتُختبر.

هل أتاك أن شهوةً عارضةً لامرأةٍ أَمْكَثَت نبيًّا ابن أنبياء في السجن بِضْع سنين! أم لم يأتك أن نبيًّا ابن نبيٍّ ذبحه ملكٌ وأهدى رأسه الشريف فاجرةً لقاءَ رضاها بزواجٍ حرامٍ! صلى الله على رسولَيه يوسف ويحيى وسلم؛ أفإن لقيتِ الدنيا أكرم العباد على الله بهذا الوجه فظاعةً؛ لقيتك أنت بوجهٍ صَبيحٍ!

إن اليقين الذي لا يَعْتَوِرُه شكٌّ أن لأبي هريرة حافظِ سنة رسول الله -صلى الله عليه- الأعظمِ حظًّا من الجلال في قلبك، وأن لحذيفة بن اليمان أمينِ سرِّ رسول الله -سلم الله عليه- الأكرمِ نصيبًا من الإكبار في نفسك؛ فهذان الضخمان وعشراتٌ من أصحاب محمدٍ -رضي الله عنهم- كانوا من أهل الصُّفَّة، وما أدراك ما الصُّفَّة! الصُّفَّة: ظُلَّةٌ بآخر مسجد الرسول يأوي إليها أهلُها وقد عدموا الأهل والمال والدار جميعًا، طعامهم وشرابهم وكساؤهم مما تجود به النفوس عليهم، إن الله في عليائه لشهيدٌ ما يصيب قلبي من أليم الوجع؛ كلما تخايلت أبا هريرة وحذيفة وأضرابَهما ينتظرون في صفٍّ من الناس عطايا السُّراة عليهم؛ أفإن جاع هؤلاء في الدنيا وظمئوا؛ ابتغيت فيها أنت شِبَعًا ورِيًّا!

لقد كنت أظن قديمًا أنه لا أدلَّ في القرآن على قِدَم شأن ابتلاء الإنسان؛ من هذه الآية: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ”، وأقول لنفسي وإخواني كالأستاذ: تأملوا كيف قرن الله بين الإنسان -ولم ينفكَّ ماءً مهينًا في رحِم أمه- وبين الابتلاء! حتى بدَّدَت ظني آيةٌ تحكي ابتلاء الإنسان مقرونًا بخلق الأرض من قبله: “إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”، ولم يكد عقلي يسكن إلى هذا الميقات؛ حتى فاجأته آيةٌ تحكي ابتلاء الإنسان مقرونًا بخلق الموت والحياة قبل خلق الأرض من قبله: “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”، لتَبْهَتني من بعدها آيةٌ تقرن ابتلاء الإنسان بعرش الله ذاته: “وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”؛ حتى انقضى كلُّ ما دون اليقين في قلبي بآيةٍ تحكي ابتلاء الإنسان فعلًا ثابتًا من أفعال الله: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ”.

كأني بك الآن تلعن كل دجالٍ نهش من عمرك ونفسك وعقلك ومالك ما نهش؛ ليقول لك في نفسك وفي الحياة عكس ما قال باريها وباريك؛ لكن يواسيك أن هؤلاء لم يكذبوا عليك حتى كانوا على الله كاذبين.

عن الدنيا؛ يصارحك الله بحقائقها على وجهها، أن ستفقد من أمانك وسلامك، ويذهب من طعامك وشرابك، وتخسر من عملك ومالك، ويفارقك أشدُّ من أحببت حبًّا إلى آخر الحياة؛ “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ”؛ هذه هي الدنيا (لا إبهام ولا إيهام).

عن الدين؛ يكاشفك الله بحق أمره قبل توقيعك عقدَ العبودية معه؛ “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ”، ويقول لك: “لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوآ أَذًى كَثِيرًا”؛ هذا هو الدين (لا تلبيس ولا تدليس).

عن المعركة الوجودية المستعرة بين عبيد الدنيا وأولياء الدين؛ يواجهك الله بواقعها أخبارًا وأسرارًا، يقول لك قبلها: “وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ”، ويقول لك بعدها: “وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ”؛ هذه هي الحرب (لا مواراة ولا مداراة).

يا عبدًا لله لا يعدل بصدقه حديثًا؛ إذا قال ربك في شيءٍ قولًا فهو حَسْبُك من معناه حتى تلقاه، قل: كفى بالله، وأصِمَّ أذنيك عما سواه.

لعلك توهمت الحياة كلها مواجعَ مصائبَ وفواجعَ نوائبَ! بل ابتلاء الله الناسَ فيها بالرخاء أوسع من ابتلائهم بالشدائد وأعظم، وإنما البلاء بَلْوُ البواطن في السراء والضراء لاستخراج فجورها أو تقواها، يمتحن الله عباده بالخفض والرفع لينظر كيف يعملون! “وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً”، “وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”، يُقلِّب من شاء فيما شاء كيف شاء متى شاء عليمًا بنا حكيمًا؛ “إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا”؛ هو المستعان على الشكر والصبر جميعًا.

أنا ونحن وأنتَ وأنتِ وأنتما وأنتم وأنتن وهو وهي وهما وهم وهن؛ (أنا) ذو حاجةٍ مطويةٍ في صدري تلدغني لسعاتُها لا أجد لها قضاءً، (نحن) أمة (الإيغور) يسُومنا ملاحدة الصين سوء العذاب فوق ما خطر لفرعون بني إسرائيل على بالٍ، (أنتَ) بلغت الأربعين ولم تظفر بتاء تأنيثٍ إلى ياء مخاطَبةٍ من نون نسوةٍ، (أنتِ) متزوجةٌ منذ عشر سنين تشتهين طفلًا تستبردين به لَوَاعِج أمومتك، (أنتما) مريضان لا تستطيعان مع المرض المزمن ما يستطيع الأصحاء، (أنتم) قومٌ من (بورما) يحرق أجسادكم بالنار شر كفار الأرض لا يبالون بكم، (أنتن) نساءٌ تقاسين في بلادكن غربة الإسلام عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا، (هو) مسكينٌ مهما كَدَح إلى وظيفةٍ بعلمٍ وعملٍ لا يَقَرُّ له فيها قرارٌ، (هي) ذات زوجٍ فظٍّ غليظٍ لا يَرقُب فيها إلًّا ولا ذمةً، (هما) أسيران لا تُعرف لهما بعد خطفهما من نظام بلدهما الكافر حياةٌ ولا موتٌ، (هم) شبابٌ يقاتِلون في (إدلب) بغير خبرةٍ ولا عُدَّةٍ رؤوس الطواغيت وأذنابهم وقد خذلهم القريب والبعيد، (هن) بناتٌ تسلط عليهن أباؤهن في خاصة شؤونهن بجاهلياتٍ ما أنزل الإله بها من سلطانٍ.

والله وبالله وتالله؛ لو بقينا أجمعون في هذه المصائب أعمارنا كلها؛ ما كان ذلك في جَنْب القيامة شيئًا؛ فإن هذه الدار بكل ما فيها إلى زوالٍ، وإن لُطف الله محيطٌ بنا على كل حالٍ؛ ليس هذا من كيسي؛ بل من كيس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: “لو أن رجلًا يُجَرُّ على وجهه من يوم وُلد إلى يوم يموت، هرمًا في مرضاة الله؛ لحقَّره يوم القيامة”، وقال: “يودُّ أهل العافية يوم القيامة -حين يُعطى أهل البلاء الثواب- لو أن جلودهم كانت قُرِضَت في الدنيا بالمقاريض”؛ صدَق الله وصدَق رسوله.

أنا ونحن وأنتَ وأنتِ وأنتما وأنتم وأنتن وهو وهي وهما وهم وهن؛ ليس بلاء أكثرنا -بحمد الله- في شيءٍ من هذا؛ بل أكثر بلاء أهل هذا الزمان مُصنَّعٌ رأسماليًّا، (بلاء السوق)، الشعور الكاذب الخاطئ بالنقص والضعف والعجز عن إدراك معروضات المادة التي تحاصرنا إغراءاتُها من كل جانبٍ.

“الدنيا سجن المؤمن”؛ فهو يتقلب بين زنازينها ما بقي فيها، لا فضل لزنزانةٍ على زنزانةٍ إلا بفَضْلَةٍ من سعةٍ ورفاهيةٍ؛ مَن فقه هذا لم يكن همُّه إلا الخروج منها جميعًا، ولا يُستطاع ذلك إلا بالله.

“اللهم فرحًا لا يَعقبه حُزنٌ”؛ كتبه مسكينٌ في ضرٍّ قارصٍ، بخَمس ساعاتٍ تحصد خمسة ألفاظٍ خمسة آلاف إعجابٍ! رجوت له حين قرأت دعاءه وللراجين رجاءه -معجبين ومعلِّقين ومشاركين- دخول الجنة أجمعين؛ ليقول وإياهم في أهلها: “الْحَمْدُ لِلَهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ”؛ لكنه لا جواب لهذا الدعاء -وإنْ صرخ به الصارخون- قبل أعتاب الجنات مكانًا، ولا انتهاء لأحزانهم -مهما فتكتْ بأفئدتهم- قبل مُكثهم لحظةً في الفردوس زمانًا؛ هناك يشهدون بين صدق السرور وحق الحبور زيف كل فرحةٍ سلفتْ، وتلهج أرواحهم بعد طول صبرهم (في الطاعات وعن المعاصي وعلى البلايا) بحمد الله.

ربَّاه واسِ بهذا الحرف كل ذي بلوى، واجعله برأفةٍ ورحمةٍ حنانًا له وسلوى.

“لم يأت رجلٌ قطُّ بمِثل

“لم يأت رجلٌ قطُّ بمِثل ما جئت به؛ إلا عُودي”.

انظر كيف صدَق ورقةُ بن نوفلٍ -رحمه الله- رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من أول يومٍ من أيام هذا الدين بحقيقته، وأنه ابتلاءٌ عظيمٌ، وأن طريقه طريق حربٍ لا هوادة فيها، وأنها سنةٌ ماضيةٌ في أهله من أوله، باقيةٌ فيهم إلى آخره؛ “وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ”، “وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا”.

انظر هذا القول الفصل، ثم انظر ما تقوم عليه عامَّة الدعوات إلى الإسلام اليوم؛ من مخادعة المدعوِّين بسهولة سبيل الإسلام، وأنها آمنةٌ سالمةٌ؛ يظهر لك الفرق بين العلم والجهل، وبين الأمانة والتدليس.

يحسب من يأتون إلى الناس ذلك أنهم يرفقون بهم؛ وحقُّ الرفق بهم أن يُكاشَفوا بحقيقة ما يَقْدُمون عليه من شأنٍ جسيمٍ؛ لتتهيأ له قلوبهم، وتتأهَّب له جوارحهم، وليستعينوا الله -علا وتعالى- على مكابدته.

لا يعارض ذلك ما كتب الله -عزَّ ثناؤه- من تيسيرٍ لأهل الإسلام -في عقائدهم أخبارًا يصدقونها، وشرائعهم أحكامًا يحققونها- إذا هم تقبلوه عنه بقبولٍ حسنٍ وسلَّموا له فيه تسليمًا، فهذا أمرٌ آخر؛ “ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ”.

أمسِكْ بقلبكَ أنْ يطيرَ مُفَزَّعًا

أمسِكْ بقلبكَ أنْ يطيرَ مُفَزَّعًا ** وتولَّ عنْ دنياكَ حتى حينِ

سألت -وليتني ما سألت- حبيبًا قدَّر الرحمن له الحبس مع نفرٍ من المُجْتَبَين الأخيار ممن أعدمهم كفار مصر، بصَّر الجبار بهم وأعد لهم وأمكن منهم ولعنهم لعنًا كبيرًا، قلت له: صِف لي بعض ما عاينت من أحوالهم؛ فكتب إلي:

“الموت أخف عليهم من انتظاره، وأمل النجاة يشقيهم ولا يحييهم، وانتزاع إخوانهم من بينهم ليسبقوهم إلى الموت أشد عليهم من أن يساقوا هم إلى الموت ينظرون، إذا نودي على أحدهم لزيارةٍ؛ شك في أمره هل جاء أهله حقًّا ليضموه إليهم وليضمهم إليه! أم أن أقذر الخلق يكذبون عليه ليخرج معهم طائعًا ثم يغدرون به! وإذا سمع صوت مفتاحٍ من بعيدٍ ظن أنه صوت مفتاح الدار الآخرة؛ لكن بين يدَي باب الموت أمرٌ شديدٌ سمع عنه كثيرًا ولم يجربه”.

اللهم العن شيخ الأزهر الذي لا يغادر مقامًا أقامه فيه مألوهُه الطاغوت؛ إلا حرَّض فيه على الإرهاب (الذي ما هو إلا الإسلام الكامل الشامل)، وعلى الإرهابيين (الذين ما هم سوى مجاهدي طواغيت العرب والعجم)، والعن مفتي الديار الذي لا تُعدم نفسٌ في مصر المحتلة إلا بفتوى منه، والعن وزير الأوقاف، وسوِّد يوم التغابن وجوه برهامي وحسان والعدوي والجندي والأزهري الحنبلي وذاكر حنفي وعبد الغفار وسائر القبوريين والقصوريين، واقتصَّ منهم لكل مستضعفٍ خانوه بأقوالهم وفِعالهم، واغضب عليهم غضبًا كبيرًا إله الحق.