قال أحدهم -يبغِّض إلى الناس الغناء-: ليس في الغناء لذةٌ.
قلت: شكر الله له كريم قصده؛ لكن في الغناء لذةٌ من وجوهٍ كثيرةٍ؛ معانٍ ومبانٍ وأصواتٌ وألحانٌ.
لولا لذاتٌ فيه يَخبرُها الله ورسوله وعباده الأصحَّاء؛ ما وُعِدَ أهل الجنة بغناء الحور العين فيها.
فيا لذةَ الأبصارِ إنْ هيَ أقبلتْ ** ويا لذةَ الأسمــــــاعِ حينَ تكلَّمُ
قال يحيى بن أبي كثيرٍ -رحمه الله- في تفسير قول الوهاب -علا وتعالى-: “فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ”؛ قال: الحبرة: اللذة والسماع.
وروى البيهقي -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “إن في الجنة نهرًا طول الجنة؛ حافَّتاه العذارى قيامٌ متقابلاتٌ، يغنين بأحسن أصواتٍ يسمعها الخلائق، حتى ما يرون أن في الجنة لذةً مثلها”، قالوا: يا أبا هريرة؛ وما ذلك الغناء؟ قال: “إن شاء الله التسبيح، والتحميد، والتقديس، وثناءٌ على الرب عزَّ وجلَّ”.
تأمل يا أرضاك الله؛ عذارى متقابلاتٌ، على حافتي نهر الجنات، يغنين بأندى الأصوات، على ذي الجلال والإكرام مثنياتٍ؛ يا إبهاج نعيم الله!
أيا فيروز يا نازكُ أبطئا، يا أم كلثومٍ يا ليلى تأخرا، يا أسمهان يا نجاة أقصرا، يا منيرة يا سعاد تقهقرا؛ بَطَلَ بهرجُ الحُسن هنا في حضرة حقِّه هناك.
وروى الطبراني -رحمه الله- عن أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الحور في الجنة يتغنين، يقلن: نحن الحور الحسان، هدينا لأزواجٍ كرامٍ”.
وروى -رحمه الله- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصواتٍ، ما سمعها أحدٌ قطُّ؛. إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قومٍ كرامٍ، ينظرن بقُرَّة أعيانٍ. وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنَّه”.
“ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدًا، ألا نحن الناعمات فلا نبأس أبدًا، ألا نحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ألا نحن الراضيات فلا نسخط أبدًا؛ طوبى لمن كنا له وكان لنا”.
بألحان الفراديس العلى؛ لا عبد الوهاب ولا فوزي ولا بليغ ولا الأخوان رحباني، ولا غير هؤلاء هناك؛ قُضِيَ في الجمال بمحضه وضلَّ هنالك الزائفون.
اللهم غناء حورٍ عينٍ، في روضات طربٍ، على خمرٍ لذةٍ، بأيدي ولدانٍ مخلَّدين.
فإن قال قائلٌ: فإني أحب من الدنيا سماع فلانٍ وفلانةٍ، وأرجو أن أُنعَّم بأصواتهم في الجنة؛ فإليك ما رُوي عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: “فى الجنة شجرةٌ على ساقٍ، قدْرُ ما يسير الراكب فى ظلها مائة عامٍ، فيتحدثون فى ظلها، فيشتهى بعضهم، ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله -عزَّ وجلَّ- ريحًا من الجنة، فتحرك تلك الشجرة بكل لهوٍ كان فى الدنيا”.
“لَهُم مَّا يَشَآؤُونَ فِيهَا”؛ ذلك وعد الرحمن، وإن دنا ذوقك -في الدنيا- صانك الله وزانك؛ فكنت ممن تطربه إليسا! أو يروقُه عمرو! أو تسره نانسي! أو يعجبه منير! ويا لله عجبٌ لا ينقضي!
ليس غناء الحور العين وأزواج المؤمنين -في الجنة- وحده نعيمَ أسماع أهلها؛ بل روى ابن أبي الدنيا -رحمه الله- عن محمد بن المنكدر -رحمه الله- قال: “إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن مجالس اللهو ومزامير الشيطان؟ أسكنوهم رياض المسك، ثمّ يقول للملائكة: أسمعوهم تمجيدي وتحميدي”.
وفي راويةٍ أخرى عن مجاهدٍ -رحمه الله-: “وأخبروهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون”.
بل إن لذة صوت نبي الله داود -صلى الله عليه- لتشغل أهل الجنة عن لذاتهم؛ روى عبد الله بن الإمام أحمد -رحمهما الله- عن مالك بن دينارٍ -رحمه الله-: في قول الله -تقدَّس-: “وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ”؛ قال: يقيم الله -سبحانه- داود عند ساق العرش، فيقول: “يا داود؛ مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم، فيقول: إلهي؛ كيف أمجدك وقد سلبتنيه في دار الدنيا؟ فيقول الله -تبارك-: فإني أرده عليك، فيرده عليه، فيزداد صوته، فيستفرغ صوت داود نعيم أهل الجنة”.
مزامير أنسٍ، في مقاصير قدسٍ، بألحان توحيدٍ، في رياض تمجيدٍ؛ سبحانك اللهم ما أوفى البهاء!
بل إذا سمعتم ثَمَّ سمعتم هناك قراءة الملك العظيم كلامه الكريم؛ يا جلال كبرياء ذي الملكوت! روى أبو الشيخ -رحمه الله- عن عبد الله بن بريدة -رضي الله عنه- قال: “إن أهل الجنة يدخلون كل يومٍ مرتين على الجبار -جلَّ جلاله- فيقرأ عليهم القرآن، وقد جلس كل امرئٍ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزبرجد والذهب والزمرد، فلم تقرَّ أعينهم بشيءٍ ولم يسمعوا شيئا قطُّ أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين قريرةً أعينهم إلى مثلها من الغد”.
يسمع أحدنا -اليوم- كلام الله يتلوه عبده المنشاوي -ملأ الله قبره نورًا- فيذهل عن نفسه وعن الدنيا كلها؛ يعرج بك صوت الشيخ ممزوجًا بصدقه إلى أرض الجنة لا شيء دونها، كيف بسماعك إياه -نورًا مبينًا- من فوق سقفها؟ ما سقفها إلا عرش الرحمن، وفوق العرش مليكه الكبير، يتلو -حميدًا مجيدًا- من آياته على زواره؛ فيحبر أرواحهم حبورًا، ويعمر قلوبهم سرورًا.
لا إله إلا الله الغني المنان؛ عطاءَك ربَّنا الذي بغير حسابٍ؛ هبْنا بغوثك من فيوضه حظًّا كريمًا، وأدرجنا به في حواشي السعداء، فنُستر في أكنافهم فقراءَ الحسنات؛ تتصدق علينا -ساعةَ سعةِ المغفرةِ- مما أنلتهم؛ فنُدهش برحمتك، ونقول: مولانا؛ نحن نحن وأنت أنت، لا إله إلا أنت.