يا أهل ودي؛ عزيزٌ على

يا أهل ودي؛ عزيزٌ على نفسي أن أرى تعليقاتكم متعطِّفين بها فلا أجيب شيئًا، شاقٌّ عليها ألا أقرأ رسائلكم، وحدَه العليمُ ربي خبيرٌ ما يغشى قلبي من الهم في ذلك.

لا أشكو الله مولاي إلى أحدٍ من خلقه، ستره سابغٌ ولطفه بالغٌ وسعت رحمته وأحاطت؛ لكن لا تعينني حالي -وفي التلميح ما يغني عن التصريح- كما لا يعينني جهازي.

هذه المنشورات أكتبها بوسيلةٍ معينةٍ، ثم أنسخها هنا، حتى الإعجاب بالتعليق أحاوله دقائق كي أستطيع؛ لكني أقرؤها تعليقًا تعليقًا، شاكرًا الله، ثم كاتبه المانَّ علي.

قلَّ ما أستطيع فتح محادثةٍ، أو إجابة تعليقٍ، أو التقلب بين صفحات الأحبة للتنعم بمنشوراتهم، فإن كان فبجهدٍ شديدٍ؛ لكني أغتنم صلاح الحال ونشاط الجهاز حينًا فأفعل.

لعل بعض الأعزة يحسبني مبالغًا؛ لكني أرى العناية بكل حرفٍ ينقشه أخٌ عندي واجبةً على نفسي، مع محبة ذلك إليَّ وإيثاره لديَّ وكرامته عليَّ، أحمد الله وهابًا بنعمائكم.

أجل؛ حق كل تعليقٍ الاعتناء به، من قريبٍ وغريبٍ ومشهورٍ ومغمورٍ وموالفٍ ومخالفٍ، لا غرقًا في الفيسبوك؛ بل احتفاءً بوصال المسلم، وإنْ بشيءٍ يسيرٍ كهذا بقي لنا.

فكرت أن أدع الكتابة حتى ييسر الرحمن لي ما عسُر من شأني، أو أقلل المنشورات حتى أستطيع وفاء البررة المعلقين، ثم قلت: بل لك في بساط رأفة أحبتك موضعٌ رفيقٌ.

يا وليُّ يا ودود؛ بارك على هداك أخوتنا، واحفظ في رضاك مودتنا، وبصِّرنا بعقائد الموالاة وعباداتها وآدابها، وأعنا على الإحسان فيها؛ حتى يجمعنا ظل عرشك المجيد.

“وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا

“وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ”.

أعظم المواساة أن يواسيك الله فيما أهمَّك بنفسه؛ تلك التي لا تُبقي من حزنك ولا تذر.

آذاني أحدهم يومًا وكان على الله جريئًا، فقال لي صاحبي بعدما تركناه: كيف يكلمك على هذا النحو! قلت: سبحان الله! ألا ترى كيف هو مع الله ربِّه سيِّده مولاه تعالى قدرُه! فما أنا!

ذلك معنًى ينفع الله به الآباء والأبناء والأزواج والأرحام والأصحاب؛ متى وجد بعضٌ من بعضٍ جفاءً يرى أنه لا يستحقه -وكان جافيه جافيًا ربَّه- فليتسلَّ بذلك عن نفسه، وليقل: ما أنا؟

وقعت حوادث كثيرةٌ عظيمةٌ في أسبوعٍ واحدٍ تذكرونه مضى قريبًا، فقال لي صديقٌ: كل هذا في بلدٍ واحدٍ في أسبوعٍ واحدٍ! قلت: ليس بأشنعَ مما يقع فيها من مساخط الله رب العالمين.

حتى ما يصيبنا من أعدائنا في أعراضنا ودمائنا وأموالنا وحريتنا؛ يواسينا فيه ما يصعد إلى الله -جلَّ وعزَّ- كلَّ ساعةٍ من جمهرة عبيده؛ من أنواع الكفر والضلالات والطغيان والفجور.

أنت يا محمد على كمال بشريتك وجلال نبوتك؛ لست ربهم، وقد خانوا الله قبلك، فأنت -عبدَ الله- لست نبيًّا وقد أوذي إمام الأنبياء قبلك، ومِن قبل كل أحدٍ وفوقه أوذي الله؛ فحسْبك حسْبك.

لا تكلِّفوا من تحبون كلَّ

لا تكلِّفوا من تحبون كلَّ ما تحبون.

عامتنا يحب بعد جوعٍ قلبيٍّ شديدٍ، وصبرٍ على الظمأ مديدٍ، فإذا أحب أسرف في الإقبال، وأسرف في الرغبة، وأسرف في الرجاء، فيكلف محبوبه كل مشتهيات الحب؛ عاجلةً غيرَ آجلةٍ، مجموعةً غيرَ مفرَّقةٍ، تامةً غيرَ منقوصةٍ، بلسان مقاله حينًا، وبلسان حاله أحيانًا، وهو بلاءٌ خفيٌّ واسعٌ مكينٌ.

يُعظِّم هذا البلاء أمران؛ وقوعه من صاحبه -أكثرَ الأحوال- بغير وعيٍ به وقصدٍ له؛ فأنَّى يعافى منه؟! الثاني: أن المسرف يغلِّف سَرَفَه بغلاف الحب (تفسيرًا وتبريرًا)، والاحتيال بالحب آسِرٌ أخَّاذٌ.

يزيد داءَ المحبوب علةً قبولُه السرفَ بل استمتاعه به أولَ الأمر؛ لحاجته إلى الحب وافتقاره إلى آثاره، ويزداد طينُ المحب بلةً إذا كان خفيف الديانة والعقل والمروءة جميعًا، ولو ثقُل لكان خفيفًا لطيفًا.

يا رِقاق الأفئدة والأكباد؛ إن الحب قوتٌ؛ يشبه سائر الأقوات في معانٍ، ويباينها في أخرى، وإن له فقهًا؛ منكم من يكتسبه، ومنكم من يُلهَمه إلهامًا، “نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم”، “وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا”.

يا أصحابي؛ من يَشركني -هذا

يا أصحابي؛ من يَشركني -هذا الصباحَ- العَجَب من رحمة الله تبارك؟ هلموا هنا نؤمن ساعةً.

كيف يجعل الله مصيبة العبد -التي لولا ذنبه لم تكن- كفارةً لسيئاته، وزيادةً في حسناته، ورفعةً في درجاته؟! أم كيف يُكسبه بها في نفسه وقلبه وعقله من الخير العظيم حظًّا كبيرًا؟! أم كيف لا يجعل الرضا بها واجبًا عليه بل يجعله مستحبًّا؟! فإن رضي العبد بها (وهي جزاء معصيته)؛ زاد الله أجره ورفع مقامه! أم كيف يعوضه بها في معاشه ومعاده من أنواع العِوض ما يُدهش؟!

بل أعجب من ذلك ما يَقسم الله لعبده من الولاية له والإمامة في الدين؛ إذا هو صبر ورضي!

ما أشد حيرة القلب والعقل جميعًا! أتفعل ذلك -ياربُّ- لصفات جلالك؛ فأنت من لا تنفعك طاعات الأولين والآخرين وإن جلَّت، كما لا تضرك معاصيهم أجمعين وإن جمَّت؟! أم تفعله -ياربُّ- لصفات جمالك؛ فتعرِّضنا بها لأسباب عفوك وتوبتك، وتفتح لنا بها أبواب مغفرتك ورحمتك؟!

الحق -يا حقُّ- أنا عاجزون عن الإحاطة بشيءٍ من صفاتك وأفعالك؛ لكنا مؤمنون بأنك الله.

هذا الله الذي أحاط عقوبة الذنب رأفةً ورحمةً، وحَشَاها رفقًا ولطفًا؛ كيف يكون إذا أحب وقبل؟! وكيف يفعل إذا أثاب ورضي؟! يا ويح الجاهلين به والمعرضين عنه! “أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ”.

يا أصحابي؛ من عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، ومن أطاعه أصاب جنة الدنيا قبل الآخرة.

“أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء

“أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي”؛ جزءٌ من “سيد الاستغفار” جليلٌ، وكله جلالٌ وجمالٌ.

منشأ اعتراف العبد بالنعمة وبالذنب يحصل له من بين معرفتين؛ معرفةٍ بربه علا وتعالى، ومعرفةٍ بنفسه، وكلما قويت هاتان المعرفتان في قلبه؛ قوي اعترافه لله بالنعمة وبالمعصية.

المعرفة بالله -سبحانه- هي العلم بصفات جلاله وصفات جماله وبأفعاله العامة والخاصة، والمعرفة بالنفس هي العلم بصفاتها الأصيلة وصفاتها الدخيلة وبأفعالها مع الحق ومع الخلق.

صفات جلال الله ما يوجب خشيته -مع المحبة- كالقوة والقهر والغلبة والانتقام وما إلى ذلك، وصفات جماله ما يوجب رجاءه -مع المحبة- كاللطف والبر والرحمة والمغفرة وما إلى ذلك.

أفعال الله العامة هي أنواع تدابير ربوبيته وألوهيته في خلقه وأمره (قدره وشرعه)، وأفعاله الخاصة هي أنواع تدابير ربوبيته وألوهيته التي يشهدها العبد في نفسه (باطنًا وظاهرًا) وفي خاصته.

صفات العبد الأصيلة كالجهل والفقر والضعف والعجز وما إلى ذلك مما جُبل عليه، وصفاته الدخيلة ما يدخل على نفسه من الطباع بأنواع اكتسابه -من الخير والشر- في صُروف الحياة.

أفعال العبد مع الحق -جلَّ ثناؤه- هي جملة مقاصده وأقواله وأعماله الصالحة والفاسدة، وأفعاله مع الخلق هي جملة معاملاته إياهم -ما عقل منهم وما لم يعقل- من إساءةٍ وإحسانٍ.

اللهم زدنا بك وبنفوسنا علمًا؛ لنزداد لك بنعمك إقرارًا، وبذنوبنا اعترافًا، وأنت الولي الحميد.

إن يكن دعاءٌ هذه الساعة

إن يكن دعاءٌ هذه الساعة الحُسنى من اليوم الأجلِّ؛ فلمن فقدت هذه المدة من أحبةٍ موتى وأسرى.

أما الموتى؛ فعبدٌ بصيرٌ ناسكٌ مجاهدٌ -موته عندنا مجازٌ والرجاء أنه حيٌّ عند مولاه، قبره مطمورٌ في الأرض والطمع أنه مَزُورٌ في السماء- حبيبي “عمر رفاعي”، وامرأة عم والدتي عتيقة الإحسان والندى جدتي “زينب”، ثم أخوها النبيل الكريم الجد “إبراهيم” في اليوم التالي، ثم ابنتها الصالحة الصابرة على هادِّ الأسقام والآلام صبرًا جَمُلَ فأدهش خالتي “سحر” بعدهما بشهرٍ ونصفٍ، ثم صاحبٌ رضيُّ الدين والخليقة عرفته هنا “هاني العبادي”، ثم صديقةٌ لأمي -بسط المنان في عمرها وطيبات أعمالها- غاليةٌ ودودةٌ الخالة “ميرفت” ودُفنت اليوم، صبَّ الله على أجداثهم من رحيب رحمته صبًّا، وجعل حظهم عنده من اللطف والكرامة أطيب وأوفى، وجمعنا بهم في جواره الأرضَى؛ إن ربنا قريبٌ مجيبٌ.

وأما الأسرى فأخوالي وإخواني وكُثرٌ غيرهم لا يحيط بهم علم إنسانٍ؛ لكنهم حيث لا تخفى على الجبار خافيةٌ شهيدًا محيطًا، كفى بالله وليًّا وكفى به ديَّانًا، ثبت الله على الإيمان أفئدتهم أجمعين؛ حتى يكتب لهم أعزَّ العافية وأقربَها، وأوسعَ النجاة وأطيبَها، وأكرمَ السلامة وأعجبَها؛ إن ربنا رحيمٌ عظيمٌ.

ويحك! اتق الله ربك؛ أنت

ويحك! اتق الله ربك؛ أنت تغتابه.

– هذه ليست غِيبةً؛ هذا تحليلٌ نفسيٌّ.

أما قولك: هذه ليست غِيبةً؛ فإن الغِيبة هي الغِيبة؛ “ذكرك أخاك بما يكره”، وكونك لا تقول عند كلِّ غِيبةٍ: أنوي أنا فلان بن فلانٍ أن أغتاب فلان بن فلانٍ؛ لن يغير من حقيقة الغِيبة شيئًا.

وأما قولك: هذا تحليلٌ نفسيٌّ؛ فإن التحليل النفسي لا يجوز إلا بإذنٍ من صاحب النفس لذي علمٍ وخبرةٍ، كما لا يجوز من ذي العلم والخبرة لنفسٍ إلا بين يدي صاحبها؛ فإن بابه دقيقٌ واسعٌ عظيمٌ.

لكنْ طواغيت الناس، وطغاتهم، والمضلون بأهوائهم، والمجاهرون بفسقهم، ومن استثنت الشريعة الغراء ذكرهم بما فيهم؛ ليس تحليلهم النفسي من الغِيبة في شيءٍ، بل بعض ذلك واجبٌ كفائيٌّ، وبعض أولئك يجب أن تُزهق نفوسهم لا أن تُحلل، “وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ”.

يا أيها الذين آمنوا؛ إن يكن من الشرك شركٌ خفيٌّ؛ فإن الغِيبة بالتحليل النفسي هي الغِيبة الخفية.

“قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ

“قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ”.

هل يأذن الفراعنة بالإيمان بالإله الواحد؟!

هل يكون الإيمان إيمانًا إذا أذن به الطواغيت؟!

كيف خطر على بال فرعون أن يسأل السحرة ذلك؟!

أليس فرعون هو مدَّعيَ الربوبية؛ “أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى”؟ زاعمَ الألوهية؛ “مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي”؟ منتحلَ الأسماء والصفات؛ “أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي”؟

ما لفرعون -الآن- وقد غزا الإسلامُ قصرَه؛ لا يرى به غضاضةً إذا استأذنه أهله فيه؟!

إن حقيقة موقف الجاهلية من الإسلام واحدةٌ لا تتبدل؛ “الإباء بلا ترددٍ، والحرب بلا هوادةٍ”؛ لكنَّ الإسلام إذا ظهر بسنن الله الغالبة قدَرًا مقدورًا في الناس والأرض والحياة، وفشلت كل خطط أعدائه أن تئده في منبته؛ لم تعد الجاهلية سيرتها الأولى؛ “استئصال شأفة الإسلام وأهله”؛ بل تزين لأربابه صورةً أخرى مأذونًا بها؛ صورة إسلامٍ تسمح لهم -حتى إشعارٍ آخرَ- ببعض شعائره الظاهرة المحبَّبة؛ لكنه إسلامٌ مفرَّغٌ من حقيقته الثورية على الكفر دقيقه وجليله، المجاهدةِ للطغيان جذورًا وثمارًا.

إنك لتحَار من بناء الجاهلية مسجدًا للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصَحبه ينزلون فيه -قبل تبوك- “ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”! كيف تمكر الجاهلية بالإسلام في مسجدٍ؟! كيف تتخذ من أعظم معاقده قاعدةً لحربه؟! الجواب هو هو؛ إذا ظهر الإسلام بسنن الله الغالبة قدَرًا مقدورًا في الناس والأرض والحياة، وفشلت كل خطط أعدائه أن تئده في منبته؛ لم تعد الجاهلية سيرتها الأولى؛ “استئصال شأفة الإسلام وأهله”؛ بل تحاربه من داخله، وتكيده بوسائله.

وإن تكن الجاهلية أسست للإسلام -أولَ أمرِه- مسجدًا ضرارًا تنفذ لأهله منه، والمسجد هو ما هو ظهورًا في إسلاميته ورمزيته؛ فلا تسل -اليوم- عن جامعاتٍ تُنسب للإسلام وهي ضرارٌ، وهيئاتِ فتوى ضرارٍ، ومجامعَ علميةٍ ضرارٍ؛ ومراكزَ بحثيةٍ ضرارٍ. إن جاهلية اليوم لتقدِّم للمسلمين صورة “دينٍ ضرارٍ” تامِّ البنيان بدلًا من دينهم، مقاصده مقاصد بنيانهم الأول؛ “ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”؛ لكنَّ الوحي الذي عصم الله به نبيه -صلَّى الله عليه وسلَّم- والذين آمنوا معه؛ غفل عنه -اليوم- أكثر الأتباع فتاهوا، والنفر الذين بعثهم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لهدمه يومئذٍ؛ خلفتهم خلوفٌ تستأذن فرعون أن تصلي فيه؛ وإلى الله تُرفع الشكوى.

انظر المسافة بين إعراض السحرة -حدثاءَ عهدٍ بإيمانٍ- عن ترغيب فرعون الخفيِّ وترهيبه الظاهر؛ “آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ”، وبين قبول زُمَرِ شيوخٍ شابت لحاهم في الإسلام -اليوم- صورًا مبدَّلةً للإسلام؛ طَورًا يعرضها نوَّاب الجاهلية العالمية عليهم عرضًا، وطَورًا بعده يفرضونها فرضًا.

وإن تدهش فمن طائفةٍ تستنكر -اليوم- صورة إسلامٍ جديدةً تفرضها أمريكا -بالسيف- في ولايتها السعودية (إحدى ولاياتها الخليجية)؛ بنيابة غلامها المدلل “محمد بن سلمان” لأغراضها الجديدة؛ وقد طوَّعت للناس صورةً قديمةً فرضها آباؤه -بالذهب- لأغراضٍ قديمةٍ! فلئن كانت الصورة الجديدة من هذه المضغة القذرة -اليوم- عُهْرًا؛ فما جعلها في أصلاب آبائه الماردين -بالأمس- طُهْرًا؟!

إنا على الوجع الفاتك بنا إذ نشهد فتنة المسلمين عن دينهم بالرَّغَب والرَّهَب هناك؛ لمستبشرون بظهور الشيطان على صورته؛ فإن إغواء الناس بصوت شيرين عبد الوهاب؛ أهون من إضلالهم بصورة محمد بن عبد الوهاب، وإن خلط النساء بالرجال يتمايلون في حفلات تامرٍ؛ أدْوَن من سَكينتهم مفصولًا بينهم في مجلس شيخٍ مقامرٍ، وإن دعاء الغراب البطين بطول أعمار الطغاة في محراب البيت الحرام؛ أشنعُ في السماء من غناء مطرب رابٍ أمريكيٍّ يضطرب اضطراب النُّطَفِ الحرام.

“الإرهاب كل ما لا تحبه أمريكا ولا ترضاه؛ من الأقوال والأعمال؛ الباطنة والظاهرة”؛ أليس كذلك؟ فإن أمريكا أذنت لأهله بذروة سنامه “الجهاد”! يومًا من الأيام؛ خطًّا من خطوطٍ عدةٍ سعت بها حثيثًا -وقتئذٍ- في مجابهة القطب الروسي، ومن قبلُ قدَرًا من أقدارٍ عدةٍ لرب العالمين في إدالة الدُّول.

هل تصدق بأنه كان يُدعى للجهاد على المنابر، وتُجمع له الأموال، وتُحرَّض عليه الهمم؟ كان بالأمس القريب كل ذلك وغيره -صُراحًا بَواحًا- بإذنٍ من فرعون البيت الأبيض لغرضٍ من أغراضه؛ فاليوم لا غَرْوَ إذا حارب الفرعون نفسُه الجهاد -وإن كان معنىً باهتًا في فؤاد فتىً أشعثَ أغبرَ مغمورٍ مطمورٍ رابضٍ في زاويةٍ من زوايا داره- وقد انقضى له غرضُه؛ “فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ”.

لم تكن أمريكا بالأمس -كما لا تكون حتى تزول- ذاتَ العرش المجيد، ولا الفعَّالةَ لما تريد، ولا هي التي تبدئ في الأرض وتعيد؛ “بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا”؛ لكنَّ المليك الحق -جلَّ ثناؤه- قسَم لها -بجملةٍ من سننه الدَّوَّارة في خلقه- من الهيمنة ما شاء، مبتليًا بها من شاء، فهدى وأضل من شاء؛ عزيزًا حكيمًا.

يا أيها الحر بعبوديتك للإله الأحد، العزيز بالذلة للرب الأعلى؛ قل: يا أيها النظام العالمي؛ “قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ”، وأشهدنا على آثاركم؛ كل إيمانٍ يأذن به وكلاؤكم هو مطيةٌ إلى الكفر بالله ربي، وكل ناقةٍ لا يكيد لعقرها نُوَّابكم فليست ناقةً لصالحٍ رسولي؛ “وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَدًا”.

زمانكم هذا “زمان البعثرة”. بعثرة

زمانكم هذا “زمان البعثرة”.

بعثرة المعاني والأشياء، بعثرة الأقوال والأفعال، بعثرة الشُّعور والهموم، بعثرة الوسائل والمقاصد.

هو بما قسَم اللَّه له من وسائل اتِّصالٍ لا تكاد تحصى -متاعًا وابتلاءً- مبعثِرٌ؛ فكيف بعثرةُ من يفتح على نفسه منها -كلَّ ساعةٍ- ما يفتح؟! ألا إن الظَّافر -اليوم- من ضيَّق على نفسه في كمِّها وكيفها.

كم أسمع وأقرأ لشبابٍ شكاواهم! يحسبونها لتنوِّع آثارها كثيرةً؛ وليست سوى البعثرة.

أنت -يا صديقي- مبعثِرٌ نفسَك؛ أشعثُ المُرادات، مفرَّقُ الهموم، مُشَقَّقُ الوقت، مُشَظَّى الجَهد.

قال اللَّه علا وتعالى: “وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا”؛ قال جماعةٌ من المفسِّرين: “فُرُطًا” أي ضياعًا، فكأنَّه تحقيق قول نبيِّنا -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم-: “فرَّق اللَّه عليه شمله”؛ يعني “من كانت الدُّنيا همَّه”، يفرَّط أحدنا في جمع قلبه اختيارًا؛ فيعاقَب ببعثرة حاله اضطرارًا.

تلك البعثرة من أشدِّ أنواع الضَّياع عقوبةً وامتحانًا، وصاحبها المفرَّقُ شملُه ممزَّقٌ كلَّ ممزَّقٍ.

يا أيُّها الَّذين آمنوا باللَّه واليوم الآخر؛ سابقوا في إغلاق أبواب البعثرة وتضييق منافذها؛ ذلك أجمع لكم.

اللهمَّ جامع النَّاس ليومٍ لا ريب فيه؛ اجمع علينا شوارد همومنا الَّتي تصلح معاشنا، واجمع علينا ضالَّات قلوبنا الَّتي تصلح معادنا، وأعذنا من شتاتٍ في البال، وبعثرةٍ في الحال، وضياعٍ في المآل.

ليس الرياء إشراكًا مع الله

ليس الرياء إشراكًا مع الله الواحد الأحد فحسب؛ الرياء جهلٌ مضاعفٌ، وظلمٌ عظيمٌ، وفقرٌ شديدٌ.

جهلٌ مضاعفٌ؛ بصفات الله وما عنده من حظوةٍ وكرامةٍ هما أجزل وأبقى، وجهلٌ بصفات الخلق الذين يقصدهم المرائي بعمله، وقد يُجهد المسكين نفسه في ريائهم فلا يرون عمله أصلًا، أو لا يرونه شيئًا، أو يرونه -جزاءً من الله بنقيض قصده- على غير وجهه، أو يرونه على وجهه -فتنةً من الله يستحقها- لكن يفوتهم الإعجاب به والثناء عليه، ثم إنهم إذا رأوه على ما يريد المرائي كمالًا وأثنوا عليه به تمامًا؛ ذهب كل ذلك بذهابهم، ولم يكن له عند الله -في الآجلة- شيءٌ؛ فياللَّهِ الحسرةُ البالغة!

وهو ظلمٌ عظيمٌ؛ إذ يضع العبد عمله في غير موضعه؛ فإن الله -جلَّ جلاله- هو الذي هداه إليه نظرًا، ويسره له عملًا، شارحًا به صدره، مطمئنًا فيه قلبَه، ثم المسكين يقصد بعمله غير وجه ربه الأكرم، وهو ظلمٌ للنفس أيضًا؛ إذ يُفوِّت العبد عليها حظها من العبودية، ويورِّطها فيما يجرح توحيدها، ويُضيِّع عليها ثواب الآخرة الأبقى، ومن قبلُ ما يلحقها من الهُون في نفسها وعند مولاها تعالى.

وهو فقرٌ شديدٌ؛ فلولا فقر نفس المرائي وإملاق ذاته؛ ما غدا وراح يتسوَّل عبادًا محاويجَ معاويزَ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، وإن من النفوس نفوسًا غنيةً مستغنيةً؛ بما أولاها الرحمن من صفات الكمال؛ لا ترجو من ضعيفٍ قوةً، ولا تنشد من مفلسٍ غنىً، ولا تبتغي من معدومٍ وجودًا.

يا أولئك القاصدون بأعمالهم وجوه الموتى؛ لو عرفتم جمال الله الحي؛ ما بغيتم عن وجهه حِوَلًا.