دعاءٌ موساويٌّ عجبٌ مُلئ نورًا؛ من لهج به وصل نفسه بالكليم وبأنواره.
“وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ”.
لم يزل (الاستكبار، والكفر باليوم الآخر)؛ أساسَي طاغوتية الطواغيت مُذْ كانوا إلى يوم لا يكونون؛ تكبرٌ يتجاوزون به بشريتهم، فينازعون به الله ربوبيته وأسماءه وصفاته وألوهيته، حتى يأطروا الناس على عبادتهم أطرًا، بل لا يقبلون انقياد ظواهرهم إليهم بالسمع والطاعة؛ حتى تنقاد بواطنهم كذلك بالذلة والإذعان، وكفرٌ باليوم الآخر لا يخشون معه عواقب الكفر والطغيان والإفساد والفجور، كما قال الحق -سبحانه وبحمده- عن عاقر ناقة نبيه صالحٍ عليه السلام: “وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا”؛ فلولا أن هذا الكافر لم يخش تبعة عقر الناقة ما قتلها؛ ولذلك جعل الله الجنة للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا.
أما تعوذ الكليم -عليه السلام- بالله (ربًّا)؛ فهدايةٌ بالغةٌ له من الله؛ فإن ربوبية الله هي الخلق والحكم، والخلق نوعان؛ خلقٌ أولٌ؛ وهو إيجاد الله من شاء إيجاده من العدم ومن الموجودات، وخلقٌ ثانٍ؛ وهو البعث، والحكم ثلاثةٌ؛ الأول: حكمٌ كونيٌّ قدريٌّ؛ وهو تدبير الله وتصريفه أمرَ ما خلق جميعًا؛ من أصغر ذرةٍ فما دونها إلى أكبر مجرَّةٍ فما فوقها، ما عقل من هذا ولم يعقل، من مبدأ الخلق إلى أبده، والثاني: حكمٌ دينيٌّ شرعيٌّ؛ وهو درجتان؛ حاكمية الله (الحاكمية: حقُّ الحُكم)، وشرعه الذي نزَّل، والثالث: حكمٌ جزائيٌّ حسابيٌّ؛ وهو جزاء الله المكلفين من خلقه في الدارين على الخير والشر، ولقد نازع فرعون ربه في عامة ذلك، فقال: “أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى”، وقال: “أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي”، وقال: “مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي”؛ ففي تعوذ الكليم بالله (ربًّا) نقضٌ لجميع الدعاوى الفرعونية والمزاعم الطاغوتية وكفرٌ بها، وإفرادٌ للإله الحق بأفعاله التي لا شريك له فيها.
وأما قول موسى عليه السلام: “بِرَبِّي وَرَبِّكُم”؛ فتشريفٌ وتكليفٌ؛ شرَّفهم بالعطف عليه في القضية كما شرَّفه الله بذلك فيها من قبلُ، فقال -جلَّ ثناؤه- لأمه: “أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ”؛ الله يقول لموسى: عدوي وعدوك واحدٌ، وموسى يقول لقومه: ربي وربكم واحدٌ، تشريفٌ مسندٌ على الدعاة إلى الله أن يصلوا به الناس إلى يوم القيامة، وعلى قدر التشريف يكون التكليف، فكأنه إذ قال لهم: “بِرَبِّي وَرَبِّكُم”؛ كلفهم بالاقتداء به في الإيمان بالإله الأحد، وفي معاداة الطاغوت المنازع له حكمَه، وفي التعوذ به في جهاده؛ وتلك كمالات التأسي والاقتداء بأنبياء الله.