بدون فلسفةٍ في ترتيبهم؛ حازم

بدون فلسفةٍ في ترتيبهم؛ حازم أبو إسماعيل، ومحمد حجازي، وسلمان العودة، وباسم عودة، وعبد العزيز الطريفي، وسليمان العلوان، وأبو فهر المسلم، وعبد الله السعد، وحسام أبو البخاري، وخالد حربي، وأحمد عارف، وهشام مشالي، وأشرف عبد المنعم، وسعد فياض، وخالد الراشد، وسمير مصطفى، ومحمد صالح المنجد، وسيد مشاغب، وإبراهيم السكران، ويحيى رفاعي سرور، وعصام سلطان، ووليد السناني، ومصطفى عوني، وعمرو ربيع، وخالد أبو شادي، وهشام عشماوي، وأيمن عبد الرحيم، وعبد الرحمن جهاد، وعمرو صلاح، ومحمد سعادة، وإسماعيل القمري، وأحمد الغزالي، وآخرون لا يحصيهم العدُّ، في مشارق الأرض ومغاربها، في سجون طواغيت العرب والعجم.

دعاءَكم لهم -وإنْ جُملةً- كل صلاةٍ؛ أن ييسر المنان من أسباب نجاتهم ما عسُر، وأن يقرِّب منها ما بعُد، وأن يفتح منها ما أُغلق، وأن يطوي لهم ليالي البلاء وأيامه طيًّا، وأن يثبت أفئدتهم على دينه الحق، وأن يخرجهم غير خزايا ولا مفتونين، وأن يشغلهم بأُنسه وقربه عما يجدون من عنتٍ وعناءٍ، وأن يجعل سجونهم فداءً لهم من فتنةٍ في الدين ومن سجون جهنم المؤصدة، وأن يجعل عوضهم عن الضيق والظلم والوحدة والوحشة وفقد الاختيار؛ جناتٍ عرضها السماوات والأرض، يجالسون فيها أنبياءه وملائكته وأولياءه، وينظرون فيها إلى وجهه الكريم بكرةً وعشيًّا، وأن يُعِدَّنا لشرف الثأر لهم وللإسلام، وأن يُبَصِّر الناس بعدوه وعدوهم، وأن يُمْكِننا من رقابهم، وأن يلعنهم في الدنيا والآخرة لعنًا كبيرًا.

وسواس التقويم؛ ما وسواس التقويم!

وسواس التقويم؛ ما وسواس التقويم!

شُغلك بتقويم أقوالك وأفعالك -بقدْر موزونٍ- شيءٌ، وهَوَسُك بتقويم نفسك -في الدين والخُلق والعلم والعمل- تقويمًا عامًّا -كلَّ ساعةٍ- شيءٌ آخر؛ ذلك وسواسٌ يصيب المُولَعين بالكمال، ولا يزال بهم -ما لم تدركهم عافية الله- حتى يصْدَع رؤوسهم، ويُكْئِبَ نفوسهم، ثم لا تبقى لهم -على الأيام- طاقةٌ لفعل شيءٍ؛ بما استُهلكوا فيه من أليم جلْد الذات، وشديد الأسى على الفوات، وسوء الظن بما هو آتٍ.

يقول المسكين كلَّ إخفاقٍ: أنا فاشلٌ، وكلَّ معصيةٍ: أنا منافقٌ، وإنما الفاشل من قعد دون كرامة المجاهدة فيئس من دِيمَة المعاودة، والمنافق من أخلص للشيطان قلبه ورضي بالجاهلية دينًا؛ هُما لا أنت.

إن إطلاق الأحكام العامة في النفس كلَّ خطوتين على طريقٍ موحشةٍ؛ رُعونةٌ وبغيٌ وإفسادٌ كبيرٌ؛ رُعونةٌ في العقل فإن يسير التأمل في النفس والحياة والتكاليف يمنع من عظيم الطيش بهذه الأحكام الكُلِّية، وبغيٌ على النفس لا أضرَّ منه فيها فإنه مغلَّفٌ بغلاف الإنصاف منها، وإفسادٌ كبيرٌ فإن النفس إذا رسَخَت فيها هذه الأحكام تعطَّلت عن صُوَر الكمال التي كانت تنشده ثم تبطَّلت عن حقائقه.

ذا أعرابيٌّ عَدِمَ التوفيق جميعًا؛ دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعُودُه في مرضٍ، فقال له: “لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله”، فقال الأعرابي: كلا؛ بل هي حُمَّى تفور، على شيخٍ كبيرٍ، كَيْمَا تُزيرَه القبور، فغضب عليه الرسول الذي ما كان غضبه إلا في جلائل الأمور، وقال: “فنَعَم إذًا”؛ فمات بها.

يا أيها المُصِرُّون على شنق نفوسهم بأيديهم؛ ارفقوا بها، أنُلزمكم الإشفاق عليها وأنتم لها كارهون!

أيها الغائبُ عني إنني **

أيها الغائبُ عني إنني ** علمَ اللهُ لمشتاقٌ إليكْ

فإذا هَبَّ نسيمٌ طيبٌ ** أنا ذاكَ الوقتَ سلمتُ عليكْ

قال: في صدري شَوْقٌ وفي قلبي تَوْقٌ وبينهما حنينٌ؛ إلى صديقٍ أسيرٍ، كم أشتهي بلاغَه تلهُّف روحي إليه ولا أدري كيف! قلت: توكل على الله في إبلاغه عنك، وربُّك الله أقدرُ وكيلٍ على ما وُكِل إليه.

يُسخِّر الله الريح لقلبك -على قدْر توكُّلك وحبِّك- فتجري بأمره رُخاءً حيث أصاب؛ فإذا أصاب (أراد) قلبُك إبلاغَه سلامًا؛ فما على أحَنِّ الوكلاء -تبارك ودُّه- بعزيزٍ، وإذا أصاب إبلاغَه شوقًا؛ فما على أمَنِّ الوكلاء -تعالى برُّه- ببعيدٍ؛ لكنِ اصدُق الله في توكُّلك عليه وفي حبِّك أخاك، وإنه بالمُوَلَّهين لطيفٌ.

عن عبد الله بن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لمَّا أصيب إخوانكم بأحدٍ؛ جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ، ترِد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديلَ من ذهبٍ معلقةٍ في ظل العرش، فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومَقيلهم؛ قالوا: من يبلِّغ إخواننا عنا أنا في الجنة نُرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يَنكُلوا في الحرب! فقال الله -عز وجل-: أنا أبلِّغهم عنكم، فأنزل الله: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”.

يكون أخوك على شفا حفرةٍ من عذاب الطغاة فينقذه الله بدعوةٍ صِدِّيقةٍ من قلبك، أو يعذبونه فلا ينالون من دينه وعزمه ما يريدون؛ بركعتين في جوف الليل صلَّيتهما ابتغاء نجاته، أو يؤنس الله فؤاده ذاتَ وحشةٍ عصَرَته عصرًا؛ بعطفٍ من روحك على والده ووالدته وولده؛ كلَّ ذلك يفعل الله عنك وكيلًا.

ربَّاه بلِّغ كل أسيرٍ عن والديه وزوجه وولده ومحبيه؛ ما يجدون في صدورهم من حرارات الهوى، وما يحسُّون في قلوبهم من أوجاع الجَوى؛ أنت بحال المحب إذا عجز عليمٌ، وبباطنه إذا ضعُف خبيرٌ.

يفعل هذا الجزء من هذا

يفعل هذا الجزء من هذا الحديث بقلبي وعيني الأفاعيلَ إخوتي؛ حبيبي يا أبي.

روى مسلمٌ -رحمه الله- عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يجمع الله -تبارك وتعالى- الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون؛ حتى تُزْلَفَ لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا؛ استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم! لست بصاحب ذلك”.

لا يا أبت، لا يا حبيبي، لا يا سيدي؛ لقد قُرِنت خطيئتك بتوبتك، ثم قُرِنت الخطيئة والتوبة بمغفرة الله؛ فصارت خطيئتك قدَرًا مقدورًا، قامت به حياة بنيك أجمعين من ألِف الدنيا إلى ياء الآخرة، لا تُحْصَى حِكَمُ الله في ذلك ولا تُسْتَقْصَى؛ فلا تبتئس أبي الكريم؛ صلى عليك من كرَّمك تكريمًا وسلم تسليمًا.

“وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم!”؛ كم في هذه الكلمة -يا أبت- من كمالاتك البشرية وكمالاتك النبوية! كمُل أبي بشرًا فقَوِي على قولها لأبنائه -بلا ترددٍ- جريئًا بريئًا، وكمُل نبيًّا (ملأ الله قلبه عبوديةً؛ حتى لم يُبْقِ من نفسه بقيةً)؛ فقالها؛ بكمالاتك أبي أستعين ربي على كمال التأسِّي.

“وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم!”؛ هو المخصوص بخمسٍ ليست لغيره من الأنبياء؛ “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ”، “وَعَلَّمَ آدَمَ”، “اسْجُدُواْ لِآدَمَ”، “لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ”، “وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي”؛ لكنَّ غضب الرَّبِّ في هذا اليوم ليس كمثله غضبٌ؛ فليكن خوفه منه في هذا اليوم ليس كمثله خوفٌ.

“وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم!”؛ يا أبناء هذا الأب النبيِّ النبيل؛ ألستم بآبائكم بررةً! كيف بأبيكم الأول! هلمُّوا إلى وجع أبيكم بين يدَي باريكم يوم تلاقيكم، أقِرُّوا عينه -يوم يقول لكم قِيلَه- بإيمانٍ وصالحاتٍ؛ هنالك تُبْهِجُون مُهْجته، وتغيظون عدوَّه القديم، وتدخلون تحت جَناحه الجِنان.

“لست بصاحب ذلك”؛ أَإِلى ما قبلَ الجنة بخُطوةٍ تُفيدون أتباعكم -معشر الأنبياء- حقائق العبودية على وجهها! تُعلِّمونهم بعض ما جبلكم الله عليه من رواسخ التجرُّد لوجهه الأعلى! المؤمنون مؤدَّبون بررةٌ بأبيهم يستفتحون به باب الجنة، وأبوهم آدَبُ وأبرُّ مع الله يردُّ الأمر إلى من يَعلَمه خيرًا وأزكى.

اللهم أنت ربي وهذا أبي؛ هَبْنِي يوم تبعثني إليه، وارزقني لذلك عُدَّةَ برٍّ ووفاءٍ.

#في_حياة_بيوت_المسلمين. ما أحسنتْ إلى ابنتها

#في_حياة_بيوت_المسلمين.

ما أحسنتْ إلى ابنتها أمٌّ لا تعوِّدها الحجاب شيئًا فشيئًا؛ مُحبِّبةً مُرغِّبةً، وبَغَتْ على ابنتها أخرى تعوِّدها كشف محاسنها حريصةً على ذلك؛ كأنما أُمرتْ به من الله أمرَ إيجابٍ فالمغبونة لا تفرِّط فيه!

يا نساء المؤمنين؛ إن الله محاسبٌ بناتكن -إذا بلغن المحيض- على فرائضه؛ كما يحاسبكن، فإذا جرت أقلام التكليف عليهن -بعد بلوغهن- ولم يُعوَّدن التزام حدود الله قبله؛ فبئس ما قدَّمتم لهن حقًّا.

“علِّموا أبناءكم الصلاة لسبعٍ”؛ عامٌّ هو أمرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل فريضةٍ يُسأل فيها الأبناء بعد بلوغهم؛ ذلك فِقْهُ الذين أوتوا العلم، وفطرةُ الذين صان الله قلوبهم أن تضل وتَخزى.

ترى كثيرًا ممن يفرِّطن في هذا ملتزماتٍ! شقَّ عليهن آباؤهن في التكاليف صغيراتٍ فتطرَّفن في الجهة الأخرى كبيراتٍ، فوسَّعن -غيرَ واعياتٍ- ما ضيَّق الله، ونِعْمَتِ السعة والله ما ضيَّق الله.

ما الخمار صورةً من قماشٍ تواري به الحرائر ما حقُّه الإكْنان؛ بل هو حقيقةٌ من حقائق الستر الجميل، لا للمرأة وحدها؛ بل للجماعة المسلمة كلها، ولَبِنَةٌ من لَبِنَات بناء حياءٍ حفيظٍ شيَّده الإسلام.

كل بنتٍ تولد على التستر؛ فطرةَ الله التي فطر البنات عليها، ثم إذا شاء الآباء رعاية فطرة الله حقَّ رعايتها فعلوا ولهم الحسنى من الله، وإن شاؤوا فرَّطوا فيها فجَرَت عليهم في التفريط سنة الله.

“الحجاب حجاب القلب”؛ كذلك يقول المتهتكون الدُّعَّار، يحفرون بين الظاهر والباطن خنادقَ تردمها حقائق الوحي والفِطَر والواقع كل ساعةٍ ردمًا، فأما الأطهار فيعلمون ما لله من قوانينَ بينهما.

“وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباطٌ ومناسبةٌ؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرةً، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا”؛ ابن تيمية.

المؤمنون يدخلون في دين الله كافةً، والمنافقون يضربون بعضه ببعضٍ، يقول الأولون: الحجاب في ظُلَلٍ من العقائد والشرائع والأخلاق، ويقول الآخرون: المحجبات خيرٌ أم المثقفات السافرات!

الإناث والثناء؛ يفعل الإطراء في نفس الأنثى فعل السِّحر، وليس ذلك بعيبٍ فيها، إنما البَلِيَّة أن تُنَشَّأ الأنثى على ثناءٍ زائفٍ بمحاسن جسدها؛ هنالك تذْبُل محاسنها القلبية والعقلية في نفسها وتُذْوَى.

هي هي المفرِّطة في حجاب ابنتها، وما بين يديه وما خلفه من معاني الستر الجميل والحياء الحفيظ؛ مَن تُفيق على درجةٍ من صفاقة ابنتها لم تخطر على قلبها يوم فرَّطت فيه؛ ولاتَ حينَ مناصٍ.

يا نساء الإسلام؛ هذا حرفٌ لا يزيِّن العنف في تعويد بناتكن هذه الشريعة الحسناء؛ بل يذكِّركن أن الخير عادةٌ، وأن الستر بالتستر، وأن حق الحياء الذي صوَّر الله البنات عليه الحفظُ والحراسة.

عن صادق الوعد إسماعيل؛ صلَّى

عن صادق الوعد إسماعيل؛ صلَّى الإله عليه وعلى آله.

“وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا”.

لِعقلك أن يبلغ عنان السماء تفكُّرًا؛ بمَ استحق إسماعيل امتداحَ الله السرمديَّ بهذا!

“إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ”؛ بهذه الشَّميلة بدأ الله قبل ذكر الرسالة والنبوة؛ فإن كمالات الأنبياء البشرية سابقةٌ كمالاتِهم الرسالية، ولو كانت النبوة كَسْبًا لا وَهْبًا لبلغ الأنبياء رُتبتها مطمئنين، ولو لم يَصِرِ الأنبياء أنبياء لكانوا أكمل الناس نفوسًا وأخلاقًا، ولَمَا استحق الرِّيادة قبلهم أحدٌ في العالمين.

“إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ”؛ قيل: وعد رجلًا أن يلقاه بموضعٍ فلم يجئ، فانتظره يومًا وليلةً، وقيل: ثلاثة أيامٍ، وقيل: بنى مسكنًا له بالموضع وانتظره سنةً! تلك الدرجة من تمكِّن المكارم في الأعماق هي التي تعجب الله فيزكِّي بها أصحابها؛ فأما الغُثاء المُطبِّلون فيتقارضون المديح بَيْعَ الرِّمَم للذِّمَم.

ذهبَ الرجالُ المُقتدَى بفعالهمْ ** والمنكرونَ لكلِّ أمرٍ منكَرِ

وبقيتُ في خَلَفٍ يُزيِّنُ بعضُهمْ ** بعضًا ليدفعَ مُعْوِرٌ عنْ مُعْوِرِ

“إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ”؛ كل مدحٍ زائفٍ إلى زوالٍ مهما طال، واعتبر بابن عبد الناصر الخاسر في الدهر “جمال”، وانظر كيف تهاوت أمجادُه المُخلَّقة بالدَّجل والإكراه نصفَ قرنٍ بئيسٍ في أيامٍ معدوداتٍ؛ بأَلْشٍ عابرٍ! “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً”، وإنْ أبقاه الله حتى يُفتن بالقسط المفتونون.

لا يدركُ المجدَ إلا سيِّدٌ فَطِنٌ ** لِمَا يَشُقُّ على السَّاداتِ فعَّالُ

لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُّهمُ ** الجُودُ يُفقرُ والإقدامُ قتَّالُ

“إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ”؛ بصيرةٌ من الله إلى طالبي الأمجاد بالمجَّان، وهي عامةٌ في المؤمنين والكافرين، من أعطى لمَحْمَدةٍ من الأخلاق نفسَه كلَّها، وأنفق عليها من حُرِّ وقته وأصل قوته وخالص كدْحِه ورأس ماله؛ أعطاه الله في الدنيا ما شاء من عوائدها، ويبقى ثواب الآخرة لمن آمن بها.

أمَا والذي لا يَعلمُ الغيبَ غيرُهُ ** ويُحيي العظامَ البِيضَ وهيَ رميمُ

لقدْ كنتُ أطوي البطنَ والزادُ يُشتهى ** مخافةَ يومًا أنْ يُقالَ لئيمُ

بهذه العجائب وأشباهها جعل الله الخُلْد لذكر حاتمٍ الطائي في العالمين، وترك عليه الثناء بالسخاء في الآخِرين؛ حتى نُسِب إليه الكرم وعُرِّف به الكرماء، وقد كان بالله كافرًا لا يجُود ابتغاء مرضاته، ونحوُه ابنُ جدعان؛ سنةَ الله فيمن فَنِيَ فيما أحبَّ إلى أن تقوم الساعة، والله خير الشاكرين خَرْجًا.

توفيق عكاشة والخليل كوميدي، وأشباههما من المبيدات البشرية القاضية على ما بقي من ضَآضِئنا؛ بذلوا لأنفسهم -بأبوال الأقوال وأغواط الأفعال- ما لو قُسِم على أمةٍ من جَعْجَاعي الحق لوَسِعَهم، قال قائلٌ: أَبِعَتَهِ مخسوفي الخلق تضرب المثل! قلت: فأروني مَثَلَكم أنتم أيها السادة الحُكماء.

حرفٌ أختصُّ به الأوفياء منكم.

حرفٌ أختصُّ به الأوفياء منكم.

أيُّكم سعى في شكر موسى النبي -صلى الله عليه- كما ينبغي له!

ألا إن لكليم الله علينا حقًّا أعظمَ مما يخطر على كل قلبٍ؛ لولاه لكانت الصلوات الخمس التي يفرِّط أقوامٌ في كَمِّها فلا يصلُّونها جميعًا، ويفرِّط آخرون في كَيْفها فلا يصلُّونها على وجهها؛ لولاه -عليه سلام الله- لكانت خمسين، ولتركها عامة المنتسبين إلى الإسلام لا طاقة لهم بها؛ فنحمدك اللهم على رسولك.

في ليلة المعراج زمانًا وفي السماوات العُلا مكانًا؛ كانت رأفة كليم الله مزاجُها رحمة خليل الله، والتقى اللطف على عطفٍ قد قُدِر، ما إن عرف موسى من أخيه محمدٍ -صلى الله عليهما وسلم- أنه أُمر بخمسين صلاةً؛ حتى قال له على الفور: “إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاةً كل يومٍ، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة؛ فارجع إلى ربك، فسله التخفيف لأمتك”.

خمسَ مراتٍ تاماتٍ .. كرَّر الكليم خمسَ كلماتٍ بيناتٍ .. آبَ بهن نبينا إلى ربنا خمسَ أَوْبَاتٍ! حتى صارت الخمسون خمسًا؛ تخفيفًا من ربٍّ بضعفنا عليمٌ، ولو شاء ربنا -علا وتعالى- لجعلها خمسًا أول مرةٍ؛ لكنه قدَرُه الأكرم الأمثل؛ ليكشف عن مواهب عطائه في أفئدة أنبيائه؛ له الحمد وعليه الثناء.

“إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاةً كل يومٍ”؛ إنه موسى الذي رأى تجِلِّيَ الإلهية للجبل شهادةً؛ أفلا تتجلى له حقيقةٌ بشريةٌ على الغيب! لذلك واجه بها أخاه محمدًا صُراحًا دون تلجلجٍ لحظةً واحدةً.

“وإني والله قد جربت الناس قبلك”؛ لا يشك موسى في فضل محمدٍ عليه مثقال ذرةٍ؛ لكنه لا يتردد في إفادته بتجربته الدعوية طرفة عينٍ، وذلك حق الإيمان والحب، وهو ما استحق حَلِفَه بالله عليه.

“وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة”؛ إن نبيًّا كلمه الله كِفاحًا لحَرِيٌّ أن يُتأمَّل كلامه أجمع؛ “وعالجت بني إسرائيل”؛ جعلهم جميعًا شيئًا واحدًا عَصِيًّا كابد ممارسته، “أشد المعالجة”؛ أصعبها وأطولها.

“فارجع إلى ربك”؛ إن الذين يشهدون جلال الله وحده لا طاقة لهم بتصور هذا الأمر؛ فأما الذي يشهدون جلاله وجماله فيتصورونه وزيادةً؛ ارجع يا رحمة الله المهداة إلى ذي الربوبية الذي أهداك إليهم.

“فسله التخفيف لأمتك”؛ السؤال لله الذي لا يُسأل في هذا المقام سواه، والتخفيف الذي تسهُل به العبادةُ في الدنيا والحسابُ يوم القيامة، وأمتك أحب إلي من أمتي كما أنك أحب إلي من نفسي؛ فلذلك أتكلم.

أرأيتم فضل كليم الله علي كل عبدٍ وأمَةٍ رضِيا الإسلام دينًا! من أول الصِّدِّيق -رضي الله عنه- إلى آخر نسمةٍ مؤمنةٍ تصلي المكتوبات قبل ذَهابها من الأرض؛ لولا إلهام اللطيف الخبير إياه -في ساعةٍ من ساعات رضاه- لكنا في ركن الإسلام الأعظم من المفرِّطين، وفي اليوم الآخر من المقبوحين.

من خمسين إلى خمسٍ يا كليم الله! لأصلين عليك -كل حينٍ- خمسةً وخمسين مرةً؛ بلَّغك الله عنا.

يا أحبتي؛ ما سألتكم شيئًا

يا أحبتي؛ ما سألتكم شيئًا لي قبل ذا، ولا أسألكم بعده غيره إن شاء الله؛ أسألكم بربٍّ توحِّدونه وتعبدونه؛ لا تكتموني من نصحكم شيئًا؛ صغيركم قبل كبيركم، مغموركم قبل مشهوركم، نساؤكم قبل رجالكم، في العام قبل الخاص، في الفروع قبل الأصول، بالمُخاشنة قبل المُلاينة؛ إن ربي بفقري عليمٌ.

انصحوا لي بما شئتم متى شئتم كيف شئتم أين شئتم؛ لا أتزيَّد فوق ما شرط ربي شيئًا؛ الإخلاص باطنًا، والحكمة ظاهرًا، فمن فرَّط في الأولى رجوت الله له العفو والغفران، ومن فرَّط في الثانية فله مني الصفح والشُّكران، لا حرمني الله بركات أيمانكم بذنبٍ أستحق به؛ إن ربي بذنوبي خبيرٌ.

ستجدون أخًا يقبل منكم قلبُه قبل قوله، ويُسَرُّ بالاستدراك عليه سرورًا لا يعلمه إلا الذي يبرؤه في نفسي وحدَه، وقد أخالف أحدكم فيما نصحني به لاعتقادي أو غلبة ظني على صواب رأيي؛ لكني حامدُه -على كل حالٍ- وشاكرُه، داعٍ لكم أجمعين بكل خيرٍ تحبونه من الله وترجونه؛ إن ربي بحالي بصيرٌ.

إذا كان المرجوُّ بوصالنا تعبيدَ أنفسنا لربنا علا وتعالى، وكنا في خسرٍ أجمعون “إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”، وكان حظ الإسلام أحب إلينا من حظوظ أنفسنا؛ فإنه لا يسعني إلا الإخبات للحق والذلة على أهله؛ فأعينوني لا تدَعوني؛ إن ربي على ضعفي شهيدٌ.

هذه أربعون عامًا توشك شمسها على الغروب؛ لم تخْفَ على ربي من سوالفها خافيةٌ والغوث برحمته، ولم أطَّلع على غيبه فأعرف على أي حالٍ أنقلب إليه، وإني لم أجد شيئًا أنفع للسائرين إلى مولاهم؛ كالتجرد لوجهه الأكرم، والتواضع لعباده المؤمنين؛ فقوِّموني فيهما؛ إن ربي بعجزي محيطٌ.

ما حكم الترحم على الفنانين

ما حكم الترحم على الفنانين يا هذا؟ يسألني -كلَّ نُفُوقِ وغدٍ منهم- سائلون.

أيها السادة وبوركتم أجمعون؛ أضرع إلى ربي قبل جوابي أن تنبسط لي نفوسكم فتحتملوني؛ كما تنبسط لمن تسألون عنهم فتحتملون منهم، وأذكِّركم أني لم أبلغ بعدُ في الشِّرِّيريَّة ما بلغ الإخوة الفنانون.

أيها الهَتَّافون بالمجد آناءَ الليل وأطرافَ النهار، المالؤون بأحاديث النصر أجواء العالَم صخبًا؛ قبل أن تبحثوا حكم الترحم على الفنانين وهم الفئة القائمة بأنواع الفسق كلها قيامًا جماعيًّا، يتقلَّبون فيه ويجاهرون به ويحضُّون عليه؛ ابحثوا حكمه عقديًّا وهم الفئة المتحيِّزة للسلطة الطاغوتية المحاربة الإسلامَ تحيُّزًا عمليًّا جليًّا، لا يجحده إلا من طمس الله بصره وبصيرته جميعًا، وقبل هذا وذاك؛ ابحثوا حكمه حضاريًّا وهم الفئة المسؤولة -في ميزان الله وأُولي النُّهى- عن خَسْف الأمة دينيًّا وأخلاقيًّا، جيلًا بعد جيلٍ، وقبل هذا وذاك وذلك؛ ابحثوا حكمه نفسيًّا وهم فئةٌ لا تبالي بكم -إذا غرقتم أو أُحرقتم- في قليلٍ ولا كثيرٍ، ولا قَبيلٍ ولا دَبيرٍ، وهم -من قبلُ ومن بعدُ- طائفةٌ من طوائف الاستبداد بالمال وطيبات البلاد دونكم، وعامَّتنا تحتَ تحتِ خط الفقر الباهت، لا يُحسِّون منا أحدًا ولا نسمع لهم رِكْزًا.

قال قائلٌ: فمن تاب منهم؟ قلت: من أظهر توبته كما أظهر فجوره؛ فمغفرتَك اللهم له ورحمتَك.

لقد يظن كثيرٌ منكم بكثيرٍ من إخواننا المترحمين على الفنانين -إذا غاروا في داهية- خيرًا، وأنهم رُؤَفاءُ رُحَماءُ في هذا، قد بُسِط لهم -في مقام الموت- من السماحة ما لم يُبسط للمتوحِّشين أمثالي! لقد رأيت من هؤلاء من تضيق نفسه بمخالفٍ له في بعض رأيه فيرزعه “البلوك” لا يبالي؛ بل يتبجح أنه لا يشفيه في أخيه إلا هذا، ثم هو هو الذي يتسمَّح مع الفسَّاق فيتقبل منهم ويتجاوز عنهم؛ مع ما للمرزوع بلوكًّا من حظٍّ وافٍ من شُعَب الإسلام، وما للمَحظيِّين بترحمه عليهم من جُمَل نواقض الإسلام!

لا عجب لدي في هذا؛ فمن عصى الله في ولائه عاقبه في برائه، وجزاء الدَّيَّان من جنس العمل.

لا أُحصي كم وقعت عيني -في هذا الكوكب- على مترحمٍ على أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب! على ثلاثتهم في أجداثهم من الحق ما يستحقون، يحسب المترحم عليهم نفسه إكس إكس إكس لارج، ويرى ذاته رَحْبَ القلب واسعَ العقل؛ بينما نحن قومٌ بؤساء مرضى جديرون بالشفقة والمعالجة.

أوليست أم كلثوم المغنية -أَمَةً عجوزًا رخيصةً لسيدها جمال- بعد الهزيمة الساحقة سنة سبعةٍ وستين: “ابقَ فأنت السد الواقي لمُنى الشعب ** ابقَ فأنت الأمل الباقي لغَد الشعب ** أنت الخير وأنت النور ** أنت الصبر على المقدور ** أنت الناصر والمنصور”؛ إلى غير ذلك من نجَس رَجِيعها ونحْسه!

“قول ما بدا لك ** احنا رجالك”؛ أليس العندليب المتقيء بها! أوليس هو -بِغَضِّ البصر هنا عن آثاره التاريخية الجغرافية- الذي عاش عمره يغني لمولاه جمال، ثم لمولاه السادات، وبينهما بعد النكسة -حين فقد بوصلته لما أَفَلَ إلهُه الذي أَلِفَ فؤادُه تألُّهَه- كان من مشهور حيرته في “لبنان” ما كان!

“والله وعرفنا الحب ** والحب .. في بلدنا اتعلمناه ** من يوم ما صادفنا القلب ** والقلب .. أطهر قلب عرفناه ** كان هو حبيب الشعب ** والشعب .. شاف ليلة قدرُه معاه ** بأرواحنا عاهدناه ** وبحياتنا ناصرناه ** أكبر من ده حب مفيش غير حب الله .. وحبيب الله”؛ بالَها في آذان جماهيره عبد الوهاب بعد هزائم ربِّه المتتالية، وبعد مذبحَتي أربعةٍ وخمسين وستةٍ وستين؛ في دواهيَ مُرَّةٍ لا تُنسى!

أغرى فاسقٌ ولدك -عصمه الله- بالفسق، فشَرَد عما خُلق له وهو مَجْزيٌّ به حتى مات منقطعًا عن السبيل، وصَال صائلٌ على والدتك -كرَّمها الرحمن- فرماها بالزنا، وأصرَّ البغيضان على ما اقترفاه، فلم يَؤُوبا ولم يتحلَّلا؛ أفكنت إذا ماتا تجهر عبيطًا بالدعاء لهما! ويحك ياض! فُوق يا مْدَهْوِلْ.

على الرأس والعين ولدك ووالدتك وأنت والذين جاؤوا بك والذين تجيء بهم؛ أَيْشْ تساوون أجمعون -رفع الله درجاتكم- في جنب أمةٍ تَمسخ طائفة الفنانين -بطرائقَ لا يُحصى قديمُها، ووسائلَ لا يُستقصى جديدُها- عقائدَها، وتزلزل ثوابتها، ثم تستقبل جهنم -إلا ما شاء الله- بسببهم -وأمثالِهم- من الناس زُمَرًا! متى تساوي بين دينك ونفسك في الحَميَّة! متى تقيم الميزان -منكِّسًا هواك- كما ألزمك الله!

“تشعرون بالنقاوة، تتوهَّمون العصمة، تدَّعون الطهر، كأنما خُلقتْ لكم الجنة حَصْرًا”؛ كذلك يقول المدلسون المفتونون إذا قرؤوا حرفًا كهذا أملاه علينا ودُّ الإسلام، وجاتهم نيلة على كل حال.

“تسلم الأيادي ** تسلم يا جيش بلادي”؛ لم لا يُدْعى غدًا لأولئك الخنازير الذين غنوها لخنثى الطواغيت بعد محرقَتي رابعة والنهضة، يرقصون بكلماتها -سِبَاعًا جائعةً- على جثثنا المتفحِّمة! ومقام الموت -إذا هلكوا- هو المقام لا فرقَ؛ لم لا! الحقَّ أقول لكم: إن الفرق الأوحد الكامن في نفوس إخواننا -وإن لم يشعروا به- بين حكيم وإيهاب وعجَّاج وسائر الحُمُر التي نهقتها، وبين أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب؛ إنما هو لغة الغناء وحُسن الصوت وجودة الأداء، يا أيها المخمورون؛ أفيقوا أو موتوا.

لئن نسي قلبي فلم ينس مخي طالب علمٍ -لم أزل أحبه في الله- ألغى إضافتي يومًا، وقال لي -في خصومةٍ بينه وبين أخٍ، لم أكن له فيها بما يحب اجتهادًا مني-: لأخاصمنك بين يدي الله! تذكَّر عزيزي القارئ؛ لم تكن الخصومة بيني وبين هذا الكريم أصلًا؛ هو هو حبيبي -أصلح الله باله وحاله ومآله- يترحم على أم كلثوم ويذكُرها بسَعَة الحفظ! لست أدري؛ ربما لو كان لي صوت “الست” العجب وأداؤها الأعجب؛ لكان أخي أوفى بي رفقًا، أو لعله يجود علي إذا متُّ بما ضنَّ به علي حيًّا.

“أُصيب فاروق الفيشاوي بالسرطان؛ دعاءَكم له”؛ أحلف لك بين الركن والمقام -يا صديقي- بكل أسماء الله الحسنى؛ لو بقي موضعٌ في جسد هذه الأمة لم يَدْهَمْه سرطانٌ فاتكٌ؛ فلأدعون الله للسيد “الفيشاوي” بشفاءٍ ليس كمثله شفاءٌ ، وللسِّت “سمية الألفى” التي طلقها قبل ربع قرنٍ من الزمان ببركةٍ ليس وراءها بركةٌ، وللابن الغالي “أحمد الفيشاوي” أن يلهمه الله تغيير صورة وَشْمِه في عنقه وذراعه؛ تجنبًا لسآمة محبيه منها، ورجاءً أن يعدل بين أعضائه الأخرى فيَشِمَها كذلك. قال صديقي: أتتخذني هزوًا! قلت: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين؛ إنما أدعو لهم معه إمعانًا في برِّه ومبالغةً في الوفاء له، ثم قد ذكَّرتني -من حيث لا تحتسبُ- مئةً وأربعين فيلمًا وسبعين مسلسلًا وأربع عشرة مسرحيةً؛ كَدَح الرجل في تمثيلها في خمسةٍ وأربعين عامًا كَدْحًا؛ تقبلها الله بأحسن القبول، ونفعنا بخيرها ومن بلَغَتْ.

يا من لم يخلق الله مثلهم رُفقاءَ بالناس وإن شطُّوا في السوء ما شطُّوا؛ لم تخرسون عن الدعاء لجهاديِّين تخالفونهم في المناهج والوسائل إذا قُتلوا؛ وإن طريقهم -مهما جمَّت خطايهم- لهي الطريق!

أمَا والله خيرِ الفاصلين؛ لا أرى من يترحم على الأبعدين إلا مرذولًا مخذولًا؛ نعوذ برحمتك اللهم من الضَّعَة والهُون، ومن الخَسْف والدُّون، ونسألك الرِّفعة والسَّناء، والعزَّة والإباء؛ لا مولى لنا إلا أنت.

“وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ”.

“وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ”.

تدبرت هذا الوعد من الله بهذا النعيم للسادة المجاهدين؛ فإذا هو يجلُّ عن كل بيانٍ.

إن الجهاد هو الغربة عن الأهل والنَّأْيُ عن الديار، وهو الظَّعْن والارتحال، وهو الجَهد والكَدْح، وهو الهِياج والضوضاء، وهو الاختلاف والاضطراب، وهو الجَدْب والشَّظَف؛ هو كل ذلك جميعًا.

وإن المجاهدين هم أفقرُ العالمين -نفوسًا وأجسادًا- إلى السكون والسُّكنى والراحة والرفاهية؛ وهي معاني المساكن الطيبة، وهم أحوجُ الناس -نفوسًا وأجسادًا- إلى اللُبث والمُكث والتوطُّن والإقامة؛ وهي معاني جنات عدنٍ؛ فإن العدْن هو الإقامة الدائمة، وجنات عدنٍ هي التي خصها الله بمضاعف القرار.

لذلك كان جزاء الرَّبِّ البرِّ الشكورِ لهم من جنس ما عملوا ولاقَوا؛ “وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ”.

ذلك؛ وتأملوا في معانى هذا النعيم في الآية هذه القطعة النفيسة للإمام البقاعي في كتابه الفذِّ؛ “نظمُ الدرر في تناسب الآيات والسور”؛ فإن الله أفاض على بصيرته فيها حتى لكأنها له رأيُ عينٍ.

قال برهان الدين البقاعي -تقبل الله قوله-: “ولما كانت المساكن لا تروق إلا بما يقارنها من المعاني الحسنة؛ قال: “طَيِّبَةً”، أي في الاتساع واختلاف أنواع الملاذِّ، وعلوِّ الأبنية والأسرَّة، مع سهولة الوصول إليها، وفي بهجة المناظر وتيسر مجاري الريح بانفساح الأبنية، مع طِيب الغرف، لم يُفسد الماء الجاري تحتها شيئًا من ريحها ولا في اعتدالها في شيءٍ مما يراد منها، ولما كانت لا يُرغب فيها إلا بدوام الإقامة؛ بين صلاحيتها لذلك بقوله: “فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ”، أي بساتين هي أهلٌ للإقامة بها، لا يُحتاج في إصلاحها إلى شيءٍ خارجٍ يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها، ولا آخر لتلك الإقامة، قال حمزة الكرماني في كتابه “جوامع التفسير”: هي قصبة الجِنان، ومدينة الجنة، أقربها إلى العرش”.