ما أسهلَ النِّياحة، وما أشقَّ

ما أسهلَ النِّياحة، وما أشقَّ العمل!

يُخدِّر لطمُ الخدود وشقُّ الجيوب؛ لكنه لا يداوي.

لو يعلم الذين لا يتجاوزون ذمَّ الواقع ما استُهلِكوا فيه؛ لاقتصدوا.

خلق الله للجاهلية قوَّالين، لا يحسنون إلا لعنها، وبرأ لها فعَّالين، يحسنون لعنها فجِهادها، ويوم يجيء القوَّالون ربَّهم أصفارًا؛ يجيء الفعَّالون مِلَاءً؛ أولئك الذين صدَقوا في مقتها وأولئك هم الرابحون.

إن جلجلةً تبلغ السماء في ساعةٍ واحدةٍ من أهل الأرض جميعًا؛ ضجيجًا بلعن الجاهلية وعجيجًا بالدعاء على الطواغيت؛ لا ترجع من غوث الله بكبير شيءٍ، فإذا الناس (فعلوا)؛ أغاثهم الله بكل شيءٍ.

ويلٌ لمرتابٍ في تسبُّب الأنظمة الطاغوتية في بطالة أكثر الناس ومن وجوهٍ لا تخفى، وويلان لشَاكٍّ في تفريط عامة الناس كذلك -سيَّما الشباب- في الأسباب الجالبة للرزق؛ النظريِّ منها والعمليِّ.

بدءًا من تضييع الأوقات وإهدار الطاقات فيما ضرره أكبر من نفعه، فمرورًا بالتقاعس عما يوسِّع الله به كثيرًا على كثيرٍ بالتعلم والخبرات والتدريب والمهارات، وانتهاءً بالولولة على سوء الأحوال.

هذا الذي أحدِّث عنه هو هو الغارق في المعاصي، كلما عوتب من نفسه أو من أحدٍ؛ تعلَّل بسوء الأحوال، أجل هو؛ فإنما الإنسان نفسٌ واحدةٌ، بها يقصِد ويقول ويفعل، مع الله ومع ذاته ومع الناس.

بينما يسبُّ أحدهم والديه بما أساءا إليه، وإخوته بما جنَوا عليه، وأصدقاءه إذ خذلوه، وأعداءه إذ خانوه؛ إذ نشط إلى كمالات دنياه وأخراه عبدٌ أصابه ما أصاب الأول؛ لكنه من أُولي الأيدي والأبصار.

لا جَرَمَ أن جدار الفساد طويلٌ عريضٌ؛ لكنه برأفةٍ من الله ليس بمُصْمَتٍ؛ وإن الذين بسط الرحمن في هِممهم ليرمُقون ثقوبه، ويستعينون الله على مساميرهم بطَرْق شواكيشهم؛ حتى يجعلها لهم فُرَجًا.

يا حفيد ذي القرنين؛ قد جدَّ جَدُّك لقومٍ لا يكادون يفقهون قولًا، فجعل بينهم وبين يأجوجَ ومأجوجَ سدًّا؛ أفلا تجدُّ أنت -فقيهًا بمعاشك ومعادك- لنقض جدار إفسادك؛ يجعل الله لك في كل نَقْبٍ رزقًا!

إن الخالق المقدِّر المشرِّع الحسيب واحدٌ؛ الربُّ الذي أوجدك، هو الحكيم الذي اختار لك زمانك ومكانك، هو الإله الذي شرَع لك من الدين ما شرَع، هو المُجَازيك بما تركت وفعلت في الدنيا والآخرة.

إن الله لا يخفى عليه من أمر الشيطان والجاهلية والطواغيت شيءٌ، وقد أراد لك عبادةً غير عبادة الملائكة والسماوات والأرض؛ عبادة الطَّوع والاختيار، وإنها لا تكون إلا بين هذه المنازِعات.

إن آيتين بسورة “التحريم” قطع الله بهما أعذار المكلَّفين إلى يوم القيامة؛ ضربَ مثلًا للذين كفروا امرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ؛ نوحٌ الذي ما مكث نبيٌّ في قومه كمُكُوثه، ولوطٌ الذي ما ابتُلي نبيٌّ بقومٍ كقومه.

يا أيها المعلِّقون فلاحهم في الدين والدنيا على أُسرةٍ صالحةٍ وبيئةٍ طيبةٍ وأصحابٍ صادقين؛ إن رسولين -هما ذان- كانا بكل كمالاتهما البشرية والرسالية فوق امرأتين بكل معاني الفوقية، ولم تؤمنا.

ثم ضربَ الله مثلًا للذين آمنوا امرأة فرعون؛ امرأةٌ -والمرأة أَوْهَى من الرجل نفسًا وحِسًّا- تحت فرعون، بكل ما كان لفرعون رجلًا فزوجًا فمَلكًا طاغيًا، محصورةً في زمانه ومكانه، ثم آمنتْ.

الله الذي يداول عروش الحُكم بين الناس، فجعل لطواغيت الزمان على الموحدين -بما فرَّطوا في الخير وأفرطوا في الشر- سبيلًا؛ هو الذي لم يزل على “العرش الحق” مستويًا؛ فابتغوا إليه سبيلًا.

“يعقد الشيطان على قافية رأس العبد -إذا نام- ثلاث عُقَدٍ، يقول: عليكَ ليلٌ طويلٌ فارقدْ”، وبعضهم يعقد بنفسه في نفسه -كلما صحا- ثلاثين عُقْدَةً، يقول لها: عليكِ يومٌ طويلٌ فارقدي؛ بالله العصمة.

لن يختصم جبرائيل وميكائيل في كسلانَ تَنْبَلَ كَلٍّ على الناس؛ أيهما يقضي حاجاته أولًا، لن يفعلا، وإن سنن الله الجارية في الخلق -من أزله إلى أبده- لا تتبدل؛ لن تلاطف من حقُّه المُخاشنة.

إن عبادة الإنسان في الأرض هي “المجاهدة”، وإن أوفى العباد من العبودية حظًّا أوفاهم من “المجاهدة” نصيبًا؛ مجاهدة النفس والهوى والجسد جُوَّانِيًّا، ومجاهدة الدنيا وشياطين الإنس والجن بَرَّانِيًّا.

هذا حرفٌ لا يخفِّف عن الطواغيت مثقال ذرةٍ؛ بل هو حرفٌ يدركك قبل أن يبدو لك يوم التغابن ما لم تكن تحتسب، يوم تخذل عِصِيُّ الأعذار الذين كانوا يتوكؤون عليها، ولا ينهض إلا العاملون.

قال قائلٌ: فلو أطلعك الله على نفسي؛ لوجدتَها بالغةً من الضعف ما لا يعلم إلا هو ثم أنا، قلت: فإن ربك الله لم يزل حيًّا قيومًا؛ فاستعن به على إحياء هوامدِها وقيام خوامدِها؛ عليك البدء وعليه التمام.

رميت الفتى ببصري حين رمى

رميت الفتى ببصري حين رمى قمامةً في الشارع قائلًا يضحك: “نضَّفها يا سيسي”.

يا مسكين؛ وهل ينظِّفها عدو الله! إنما يُحني ظهرَه على الأرض كلَّ ساعةٍ بئيسةٍ -في سُعَار الحر أو زمهرير الشتاء- ليلتقطها؛ والدٌ أو والدةٌ أو أخٌ أو أختٌ يعملون -مضطرين مساكين- في النظافة.

يا حبيبي؛ إني سمعت الطيب المطيَّب يقول: “إن الله جميلٌ يحب الجمال”، وقال: “لقد رأيت رجلًا يتقلَّب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظَهْرِ الطريق؛ كانت تؤذي الناس”، ويقول: “بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ؛ وجد غصن شوكٍ على الطريق فأخَّره، فشكر الله له، فغفر له”، وقال: “الإيمان بضعٌ وسبعون -أو بضعٌ وستون- شعبةً؛ فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان”، ويقول: “يصبح على كل سُلامَى من ابن آدم صدقةٌ؛ تسليمُه على من لقي صدقةٌ، وأمرُه بالمعروف صدقةٌ، ونهيُه عن المنكر صدقةٌ، وإماطتُه الأذى عن الطريق صدقةٌ، ..”، وقال: “عُرِِضَتْ عليَّ أعمال أمتي؛ حَسَنُها وسَيِّئُها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يُمَاطُ عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النُّخاعة تكون في المسجد لا تُدْفَن”؛ صلَّى الله على شيخ النُّظَفَاء المُطَهَّرين وسلَّم.

ثلاث كلماتٍ في الجرائد؛ انفع

ثلاث كلماتٍ في الجرائد؛ انفع اللهمَّ بها موحِّديك في مشارق الأرض ومغاربها.

– لا خير في شراء الجرائد من وجوهٍ إيمانيةٍ وحضاريةٍ وأخلاقيةٍ، وفي متابعة “المَاجَرَيَات” التي لا بد منها في بعض وسائل التواصل غَنَاءٌ وكِفَاءٌ، وما مدُّ أصحاب الجرائد الفجرة الرأسماليين العُتاة بالمال -وهم من هم حربًا على الإسلام والعقول والأخلاق- إلا جنونٌ مطبقٌ وظلمٌ شديدٌ؛ فأنَّى تفعلون!

– يحرُم دخول “مساجد الله” بجرائدَ تملؤها صور الفساق وأنباؤهم، ولَأنواع الزندقة بها أشدُّ وأدهى.

– لا تكاد صفحةٌ من صفحات الجرائد تخلو من اسمٍ عظيمٍ من أسماء الله الحسنى، سواءٌ في ذلك أسماء الكاتبين والأخبار والمقالات؛ فلا يجوز استعمالها في التنظيف ولا في غيره؛ إلا بعد التيقن من خلائها من أسماء الله علا وتعالى، ومن آيةٍ وحديثٍ، كما يجب صَوْنُها عن وطء الأرجل والرمي في المزابل؛ إلا لمن تحرَّى خلاءها من المعظَّمات السالفة؛ كيف بالصفحات الدينية فيها وصفحات الوفيات!

– لا نحصي كم مشينا مع مولانا الشيخ الشافعي الصالح “عطاء بن عبد اللطيف” حفظ الله مهجته! فكان لا يدع ورقةً من جريدةٍ في شارعٍ ولا سوقٍ إلا التقطها، ثم يأخذها إلى دكانه فيحرقها بالنار في صفيحةٍ، لا يرى ذلك من التطوع والورع؛ بل تعظيمًا واجبًا للرَّبِّ تقدَّست أسماؤه وتباركت آياته.

– “وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ”، “وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ”؛ هذا تعظيم شعائر الله وذاك تعظيم حرماته؛ كيف بتعظيم أسماء ربِّنا الحسنى وتوقير آياته! اللهمَّ اللهمَّ.

تنفَّس صُبح الجمعة الأغرُّ على

تنفَّس صُبح الجمعة الأغرُّ على صاحبكم ببلاءٍ من الرَّبِّ -علا وتعالى- كريمٍ؛ سُرق هاتفي في غفوةٍ بطريقي غفوتها لا أدري كيف! ليست المرة الأولى التي يُسرق بها هاتفي وبالطريقة نفسها، مرضُ السُّكريِّ وضعفُ وصول الدم إلى المخ واضطرابُ الضغط وأعراضُ كلٍّ، مع قلة النوم العجيبة، لا عُلُوَّ هِمَّةٍ؛ بل هو داءٌ عمُره اليومَ خمس عشرة سنةً؛ كل هذا لا ريب يُفقدني من التنبه كِفْلًا وافرًا.

لا تبتئسوا؛ فإن أخاكم لا يكتب هذا المنشور بائسًا؛ بل أتبسم من قدر الله ضاحكًا، لقد بتُّ أظن لكثرة ما سُرق مني أن أول لصٍّ سرقني صوَّرني، ثم نشر صورتي بين إخوانه السُّراق؛ أبهج الله مُهَجَكم.

ذلك؛ واعذر اللهم من يعذرني كلما فرَّطت في حقه علي، والعن من يسَّر للمجرمين طرائق الحرام.

ثم ضَحَت ضحى الجمعة الزهراء بقدَرٍ أعمقَ من سابقه أثرًا، ما كان ليُنسى ما بقيت إلا أن يشاء الله؛ فُزِّعْتُ فزعةً عظيمةً قرَّبت إليَّ صورة والدةٍ أذعر فؤادَها الرقيق هجومُ طواغيت الزمان على بيتها -على حين سلامٍ من نفسها- فانتزعوا ولدها من بين ذراعيها؛ إلى حيث لا تدري المكلومة مكانًا وزمانًا، ما جريمة ابنها سوى “لا إله إلا الله”؛ فُزِّعْتُ فزعةً مرَّت دقائقها أشدَّ بُطْأً من فِنْدٍ على مولاته.

لا تكتربوا؛ فإن جزاء الحقِّ الدَّيان من جنس العمل؛ ليجعلن برحمته فزع المستضعفين فداءً لهم من فزعات القبور والنشور، وليجعلنه بعزته سببًا إلى إفزاع الطواغيت أحياءً وأمواتًا ويوم يبعثون.

ذلك؛ واغفر اللهم لي إفزاع طفلٍ كنت أعلِّمه القرآن، فأرهبته بالعقاب؛ فما كنت إلا صغيرًا جهولًا.

هؤلاء الذين تتواتر خصوماتهم وهم

هؤلاء الذين تتواتر خصوماتهم وهم في كل مرةٍ يُطيلون أذيالها؛ كيف قلوبهم التي في الصدور!

في سبعة أيامٍ خاض أخوكم مسألتين -لولا حق الديانة ما خضتهما- فأظلمَ من يسير “جَدَل الضرورة” فيهما صدري، وأنا بآثارهما في ضيقٍ شديدٍ؛ منشوري في الدكتور محمد مرسي -رحمه الله- وضرورة الاقتصاد فيه، ومنشوري في الرد على كاتبةٍ -هداها الله- شطَّت في مقالٍ كتبته شططًا بعيدًا.

فأما الأول فآذتني فيه طائفتان؛ الهائمون بالرجل -غفر الله له- والذين يكفرونه، وأما الثاني فإني آذيت أُناسًا فيه قبل أن يؤذوني؛ آذيتهم -غيرَ قاصدٍ- إذ لم أبين مناسبته فصاروا في فهمه حيارى لا يَعُون مراده، وآذاني أُناسٌ -في العام والخاص- أخذهم من الحدة ما أخذهم دفعًا لمنطق المنشور ولغته.

لا أرجع عما كتبت فيهما ديانةً وأمانةً؛ لكني محوت الثاني لإبهامه الشديد، وعند الله أحتسب ما لقيت -في العام والخاص- من الأذى، محسنًا بالمخالفين الظنَّ صافحًا عنهم جميعًا؛ فإنهم لم يُغلظوا لي القول إلا لحقٍّ يطلبونه، راجيًا من الله لي ولهم شهود الحق واتباعه، وأن نعدل في الغضب والرضا.

ذلك؛ ولم أمح تعليقًا واحدًا مهما بلغ فظاظةً؛ إلا تعليق أخٍ سبني سبًّا فاحشًا فمحوته وحظرته، ولقد رآني ربي أطيل الفكر قبل حظره أيهما أحبُّ لوجهه وأرضى؛ حتى إذا غلب على ظني رُجْحَان حظره حظرته مستغفرًا له، وقد كان يمر ببعض تعليقات المخالفين فيزيد في سبي؛ عفا الرحمن عنه.

ليس هذا ما كتبت له؛ بل لغاية أول ما سطرت هنا؛ هؤلاء الذين تتواتر خصوماتهم وهم في كل مرةٍ يُطيلون أذيالها؛ كيف قلوبهم التي في الصدور! لقد ضاق صدري ودَخُنَ بجدالٍ لم يطُل برأفة الله، وابتأست نفسي وكَدِرَتْ بمُلاحاةٍ حَفَفْتُها باللطف من رحمة الله؛ كيف أفئدة المحترفين المنازعات!

لو أن الله جعل قلبين في جوفي؛ لجعلت أحدهما له نَصِيعًا من كل شائبةٍ أستعينه على ذلك، وخالقت بالآخر الناس برَّهم وفاجرَهم لا تضرني مخالقتهم مع الله كثيرًا؛ لكنَّ حق ابتلاء الله في القلب أنه واحدٌ، وقد كلَّفني أن أُجرِّده لوجهه الأعلى إذ أوحِّده وإذ أعبده وإذ أعامل عباده؛ فأعنِّي ربي لا تدَعْني.

يا أولياء الرحمن؛ إنما ولاء القلوب واحدٌ؛ فاحفظوه في المؤمنين -إخوانِكم- وإن خالفتم منهم، وبراؤها واحدٌ؛ فاجعلوه في الكافرين -أعدائِكم- وإن وافقتم منهم، واعلموا أن ما ينقص بها من موالاة المؤمنين يذهب في موالاة الكافرين، وأن ما ينقص بها من معاداة الكافرين يذهب في معاداة المؤمنين.

ربنا اهدنا لأحسن الأخلاق جميعًا، “وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”.

حدَّثني أحدهم وكان بالنظر إلى

حدَّثني أحدهم وكان بالنظر إلى النساء مفتونًا؛ أنه لما ترك التعرُّض بالسوء لجمالهن البشري الحِسِّي ابتغاء مرضاة الله؛ تعرَّض الرحمن له بجماله الرباني الإلهي تعرُّضًا عجبًا؛ ففتح له في تأمل أسمائه الحُسنى وصفاته المُثلى فتحًا كريمًا، وأفاض عليه في شهود آياته المَتْلُوَّة والمَجْلُوَّة فيضًا عظيمًا.

قال: وكنت أرى من عجائب تودُّد الله إليَّ بألطافه؛ ما اعتقدت أنه يُسَكِّن قلبي الموَّارَ لحظةً ليدرك منه جمالًا آخر، وحقًّا أخضعته أفعال الجلال لإدراك بهاء الجمال فسكن، وكان وصل الله قدَرًا مقدورًا، لم تكن مطالعة هذا الجمال كالقديمة مفسدةً صحةَ الفؤاد والبال؛ بل تعود عوائدُه كلَّ نظرةٍ بعافيةٍ.

جمالٌ ليس كمثله جمالٌ؛ أرقى وأنقى، أسمى وأسنى، أحلى وأعلى، أروع وأبدع، أوفى وأكفى، ذاك الجمال الحق الأتم، سبحان صاحبه وتبارك! محرومون هم أولئك الذين تقف نبضات قلوبهم عند انقضاء آجالهم ولم يملؤوها منه مَلْوًا؛ لكنه جمالٌ عزيزٌ، لو لم يكن عزيزًا لوسع النفوس الدَّميمة.

يا أجمل الجُمَلاء يا خير الشاكرين؛ من ترك لوجهك الأعلى شغفه بالجمال الأدنى؛ فاملأه منك جمالًا.

ومن يطيق من هذا الحرِّ

ومن يطيق من هذا الحرِّ الشديد ما تطيقون؛ أيها السادة الأسرى!

ومن عرف كيف يبني البُعداء البُغضاء زنازين السجون؛ كاد عقله أن يطير!

كيف المعزولون فيها فرادى سنين عددًا؛ لا يؤنسهم إلا لطف الله!

أبوابٌ من حديدٍ خالصٍ، وأرضٌ وجدرانٌ وسقوفٌ فيها من الحديد ما خبر الله.

هل بلغكم ما بسط الطغاة بعد مقتل مرسي رحمه الله؛ في تعذيبهم؟

مولى الموالي ذا الجلال والإكرام؛ لطِّف لهم الهواء، وبرِّد لهم الماء، وكن لهم.

آمنا بك اللهم؛ لم تكتمنا في عدونا حديثًا، فاغفر لنا عجائب غفلتنا.

إنما أسرانا بِضْعَاتٌ منا، يضنينا ما يضنيهم؛ حسبهم الله حَكَمًا حَقًّا ونعم الوكيل.

“الله أولى بالأسرى من أنفسهم”؛ لولا هذه -عقيدةً في الله- لضللنا.

غدًا يقول الأسرى إذا غمسهم ربهم في الجنة غمسةً واحدةً: وحقِّك ما بئسنا قطُّ.

“يا ربُّ إنَّ السيلَ قدْ بلغَ الزُّبَى ** والأمرُ في كافٍ لديكَ ونونِ”.

جعل الرحمن ما تقاسون من الحرِّ والشدة؛ فداءً لكم من حرِّ القيامة وشدائد النار.

ألا إن صبر الأسرى على بلائهم في الله؛ شهادةٌ تدنو من الشهادة.

يقال: إن داء الزمان “الاكتئاب”،

يقال: إن داء الزمان “الاكتئاب”، والحق أن داء الزمان “الهشاشة النفسية”، وكثيرًا ما يكون الاكتئاب ونحوه من العلل النفسية آثارًا لهذه العلَّة الفاتكة؛ فما سبَّبه في أكثر الناس حتى باتوا به هَزْلَى؟

سبَّبه غرَق إنسان الزمان في لُجَجِ الجاهلية الحديثة بفلسفاتها المادية الحَافَّة وقيمها العددية الجَافَّة، وضعف العلم بالله والتفقه بدينه والدراية بسُننه، وعُظْمُ البعد عن الغاية التي خلقه الله لأجلها تأمُّلًا من نظره وتأتِّيًا في عمله، والجهل المركَّب بطبيعة هذه الدار وما جُبلت عليه لتحقيق معنى الابتلاء بها والامتحان فيها، وانخساف بوصلة الحركة الإنسانية العامة انخسافًا شديدًا من المعاني العارجة إلى السماء إلى المادة الجاذبة إلى الأرض؛ حتى طغت خصائص المادة الفيزيائية على جمهرة الناس نفوسًا وأفكارًا وأخلاقًا، في تكالبٍ موَّارٍ وتنافسٍ دوَّارٍ أوله الإرهاق وآخره الإزهاق؛ في التحسينيَّات كأنها حاجِيَّاتٌ وفي الحاجِيَّات كأنها ضروريَّاتٌ، وقلة التزود من الطاعات الربانية اللازمة والمتعدية التي تقوِّي ظهور الناس في تحمُّل شدائد الحياة والتصبُّر لتكاليف الرسالة، والاعتناء في العبادات بالظاهر مزيدًا على الباطن، والإملاق الشديد من الوحي وما يُكسب أصحابه من القوة العقدية والنفسية، وانحسار عقيدة الزهد في الدنيا وما تخلُق في النفس من تجريد توحيد الرَّبِّ والتجرد في معاملة الناس، ودوران عامة الخلق في أفلاكهم الضيقة الخاصة بما عمَّقته قيم الحداثة العاتية في نفوسهم من “الأنا”، وما تفسَّخ بذلك من العلاقات الإنسانية الضرورية للقلوب وللعقول وللمنافع الجَمَّة، وشيوع الأنماط التربوية المُتلفة تدليلًا أو عنفًا لا فرق؛ في المحاضن الخاصة والعامة وما الله بأهوالها عليمٌ، والانفتاح الطاغي على وسائل التواصل حتى الإيناس بها والاستيحاش من الخلق، ووراثة طرائق الآباء السائدة بغير حقٍّ والتقيد بأعرافهم وإن كانت مدمرةً، والحكم على النفس -في التدين والدراسة والزواج والوظيفة والأخلاق- بموازين الناس الشائعة مهما زغتْ أو طغتْ، ومقارنتها بالأقربين في البيئة الخاصة والبيئة العامة والقنوات الواصلة بينهما، والانهزام النفسي أمام الغرب ومصنوعاته الجِدِّية والهزلية، مع جملة ما يكابده الناس بسياسات الطواغيت المهيمنة الفاجرة في دينهم ومعاشهم، وتغييب نماذج التأسِّي والاقتداء الواعية الصادقة بأنواع العزل، وجملة ما تحدِّده جاهلية الرأسمال الحديثة للناس في الحياة من مقاييسَ للَّذة، وما تعيِّنه لهم من طرائقَ محمومةٍ لإشباعها وتحدِّثها مسعورةً كل ساعةٍ، وما فتحت على الناس من نوافذَ وأبوابٍ لا يُحصَى عديدُها ولا يُستقصَى كيفُها في سبيل ذلك؛ حتى صار غالب رَكْضِ الناس في متابعة جديدها واللهَث في أسواقها، يُفني أحدُهم سحابة عمُره في الحصول على ما أرادته هذه الجاهلية له؛ لا ما يريده هو لنفسه ولا ما يريده له الله، فيتضاءل -بين هذا كله- ما يُثبت به ذاته ويحقق به وجوده من منجزات المعرفة والعمل والإحسان؛ هذه التي تقيم صلب الإنسان في نفسه وبين الناس إقامةً حقيقيةً لا زائفةً، وهو في اصطخاب هذه الأمواج العالية بين دواماتٍ معلوماتيةٍ كثيفةٍ غير محدودةٍ؛ متاحةٍ لكل أحدٍ في كل معنىٍ وفي كل شيءٍ، إلَّا تسبقْ له المعافاة من الله تَصْدَعْه صَدْعًا؛ فتَشوَّه من فطرته ما تشوَّه، وتحَيْوَن من آدميته ما تحَيْوَن، وغلبت على إنسان الزمان -بقيمه المضطربة الرقمية، ومعاييره المتناقضة النسبية- “السيولة”؛ سيولةٌ عقليةٌ فلا رواسخ دينيةً أو قيميةً تثقِّله وتثبِّته، وسيولةٌ عاطفيةٌ أحالت التعلق البشري الطبيعي بالأشخاص والأشياء والمعاني؛ إلى صورٍ غريبةٍ من الشَّرَه والشَّطط مُغرقةٍ مُحرقةٍ، وسيولةٌ نفسيةٌ تجعل صاحبها مبعثَرًا مفكَّكا إلا قليلًا منه برحمة الله، وسيولةٌ اجتماعيةٌ تُشتت الإنسان في علاقاتٍ واقعيةٍ وافتراضيةٍ صوريةٍ لا تتناهى؛ حظُّها من الحب لونُه ومن التراحم طعمُه ومن التدافع رائحتُه، وسيولةٌ جسديةٌ بصنوف منتوجاتٍ غذائية وجنسيةٍ وملابسَ ومراكبَ رهيبةٍ؛ حتى جرَّفت تربة الفطرة وحرَّفت ربانيتها؛ فإذا نفسُ إنسان الزمان أحاديثُ ممزَّقةٌ كلَّ ممزَّقٍ، وإذا هي عاجزةٌ عن إطاقة أيسر التكاليف واحتمال أهون البلايا، مَسُّ الحرير يجرحها وقطرات النسيم تخدشها، وافرة الأنين مسرفة الشكوى، يهدُّها أذى الناس هدًّا، عظيمة الشعور بالهوان، لا تكاد تشهد خيرًا أولاها الله إياه، شديدة التعلق بمن تحب تلوذ بهم وتتوارى فيهم، سريعة التقلب بين الانقباض والانبساط والمراوحة بين الإقبال والإدبار، تتسول التعاطف من كل أحدٍ على كل حالٍ، تغالي في المحاكاة والتقليد، ترفعها كلمةٌ وتخفضها أخرى؛ إلا من عصم الله وقليلٌ ما هم.

تلكم “الهشاشة النفسية”، وهذه جمهرة أسبابها؛ المحفوظ من بصَّره الرحمن بها، والمحظوظ من أعانه على اجتنابها، لا مستعان فيها إلا الله الخبير القدير وحده، ومن عجيب ما يُروى في ذلك عن الفاروق المُلهَم عمر -رضي الله عنه- دعاؤه: “اللهم إني لا أسألك خفة الحمل؛ لكني أسألك قوة الظهر”.

هذا منشورٌ لا يحصر أسباب “الاكتئاب”؛ بل له أسبابٌ باطنةٌ وظاهرةٌ أخرى يعلمها المشتغلون بالدرس النفسي، كما لا يعرض معالجته؛ بل يشير بالوعي إلى طرفٍ منها، وربُّنا الرحمن مولى العافية.

قال: حَلُمَ الله عليك يا

قال: حَلُمَ الله عليك يا أبت؛ قل لي في اسم ربي “الحليم” قولًا أذكره فلا أنسى.

قال: وإياك يا ولدي؛ حسبك في اسم الله “الحليم” إنظارُه -سبحانه- على الفور إبليسَ -لعنه الله- إلى يوم الدين؛ لمَّا سأله ذلك، “قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّك مِنْ الْمُنظَرِينَ”؛ فجعل عمُره عمُر الحياة الدنيا كلِّها من مبدئها إلى منتهاها، وهو يعلم -تعالى- علمًا أزليًّا ما الرَّجيمُ فاعلٌ في العالمين أجمعين إنسِهم وجنِّهم؛ إفسادًا لنفوسهم وعقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم، وما يكون به في الأرض من صنوف الكفر وأنواع الضلال وألوان الطغيان وأجناس الفجور، وأنه من وراء الجاهلية كلها في الأرض جميعها إنشاءً وحركةً وكيدًا عظيمًا؛ أرأيت قتل الأنبياء والمرسلين، وإحراق المستضعفين من المؤمنين؛ فذلك بعض عمل اللعين في الأرض، وربك الله -يا ولدي- لا تخفى عليه من ذلك كله خافيةٌ، بكل شيءٍ محيطٌ وعلى كل شيءٍ شهيدٌ، وهو القادر القدير المقتدر على إهلاكه ومن تبعه من الغاوين لا يعجزه شيءٌ؛ لكنه ذو الأناة التي ليس كمثلها أناةٌ؛ لا تستفزه فظائعه مهما جلَّت، ولا تستخفه شنائعه مهما جمَّت، ولا يعجَل بشيءٍ من عقابه قبل يوم القيامة الذي جعله لهلاكه موعدًا؛ فسبحان “الحليم”!

يسألني إخوةٌ في الخاص؛ هل

يسألني إخوةٌ في الخاص؛ هل تكفر الدكتور مرسي؟

يا أحبتي؛ ربَما يحسب كثيرٌ منكم لغلبة الرفق على خليقتي بحمد الله ورحمته؛ أني أخشى أن أصْدَع بما أراه حقًّا لسببٍ من الأسباب، فمن ظن بي هذا فقد أساء إلي وبغى علي، ثم هو لا يعرف عني شيئًا.

لو كنت أكفر الرجل -رحمه الله وعفا عنه- لصَدَعْت به جهارًا نهارًا بغير جمجمةٍ ولا إدهانٍ، لا أخاف فيما أعتقد -بحول الله وقوته، لا حول لي ولا قوة- لومة لائمٍ؛ أعاذنا مولانا من هيبة الخلق في الحق.

حُزني على مقتل الرجل الطيب -أجل؛ قتلوه سلبًا لا إيجابًا- دينٌ أتدين به لله، ودعائي له بالمغفرة والرحمة عقيدةٌ جاريةٌ في كل مسلمٍ مات على الإسلام؛ كيف بمن قتله الطواغيت بعدما أوسَعُوه أذىً!

لا أشك في محبة محمد مرسي لله وللرسول، كما أحلف أنه كان يريد بالإسلام والمسلمين خيرًا، مع حفظه لكتاب الله، وعفة يده، وحسناتٍ له لا تخفى على منصفٍ بصيرٍ؛ ملأ الله قبره عليه نورًا.

ذلك كله شيءٌ، ومبالغة عامة الناس في تعظيمه حتى جُعل -على حين غفلةٍ من الدنيا- رمزًا للحق وللثورة؛ شيءٌ آخر، هذه -يا إخوة الحقِّ والحبِّ- تُرَّهَاتٌ وسَمَادير، أجهر بدفعها وإن نَخِرَتْ أنوفٌ.

للدكتور مرسي -غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- من كل سيئات الإخوان المنهجية كفلٌ بقانون الله والذين أوتوا نصيبًا من العقل، ثم له ما له من مخازي السوء العقدية القطعية المجمع عليها ما له.

لا أذكر الآن منها شيئًا -مكتفيًا بالإشارة- وإن كنت أعلمها جميعًا، وَعَتْها منه أذناي ورأتها منه عيناي ولم يرجع عنها في جلاءٍ كما باء بها في جلاءٍ؛ شريعةَ الله وميزانَه في مثلها من مثله إلى يوم الدين.

لا أقول بكفر الرجل عياذًا بالله ما دمتُ ذا دينٍ ونظرٍ ثبتني الله، وأدفع القول بكفره بالراحتين والصدر، وأتأوَّل له بقرائن أحواله فيما قال وفعل من مناطات الكفر، وأستغفر الله له منها استغفاري لنفسي.

قال قائلٌ منكم: ما يحملك على ذكر ذلك والهَوْل هائلٌ؟ قلت: تطرُّفُ الجمهرة الغفيرة من الناس في ترميزه، وما خلعوه عليه من صفات الجمال ونعوت الجلال، وليس ذلك الحقَّ الذي علَّمَناه الله وألزَمَناه.

لقد رأى الله وجع كبدي لما بلغني نبأ مقتله، وسمع ضراعتي له في صلاتي؛ لا أقوله إرضاءً لمن لا ينفعون في الدارين شيئًا ولا يضرون؛ بل أداءً لحق مسلمٍ مات غريبًا في سجون المشركين لعنهم الله.

شكر الله لعبده محمدٍ ثباته على رفض الحكم العسكري حتى الممات، وغفر له -بما ذاق من أهواله- ما تسبب به فيه؛ ذلك حقُّ الدعاء له، وإنه لأشدُّ الناس في برزخه فقرًا إلى مغفرة الله له هذه الجناية.

إن من دلائل نبوة نبينا عليه السلام؛ قولُه يوم مات ولده فقال بعضهم: كُسفت الشمس لموت إبراهيم: “إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته”؛ يبطل الباطل من “أصحابه”؛ صلى الله عليه.

وجدت في نفسي على أخي الشيخ إياد لمَّا لم يدْع للرجل بالرحمة، وقلت: لو دعا له لكان خيرًا وأقومَ؛ ولكني لا أتهمه في دينٍ ولا مروءةٍ، ولا أصفه بما وصفه به بعض الأحبة؛ بل أراه رأيًا من الآراء.

سُئل أخٌ عن الدكتور إيادٍ، فقال: “جهاديٌّ كيوت”؛ فسبحان الله ممن يسعهم انتماء الناس إلى الإخوان وهم المنحرفون -في مواجهة الجاهلية- طريقةً وخليقةً؛ ثم يضيقون بانتماء رجلٍ إلى الجهاديين!

سبحان الله! يبقى العجب ما بقيت الدنيا؛ ليت الذين وسعت صدورهم مرسي وأردوغان وأشباههم -على ما قارفوه من الخطايا العقدية والعملية- تتسع لنا صدورهم، فيتجاوزون لنا عن عُشْرِ خطاياهم.

لن أنسى يوم نَكَصَتْ “حلا شيحة” على عقبيها، فأغلظ القول لها بعض الأحبة بحقٍّ؛ كيف ثارت ثائرة الناس عليهم، وقلت سبحان الله! ما بال هؤلاء ضاقوا عما احتملوه لحلا! وجواب عقلي أن “حلا” أحلى.

أرأيتم إلى صبيٍّ معتلٍّ جريءٍ على الله كتب يقول: “العزاء الذي فيه “رغم” و”لكن”؛ عزاء القِحَاب”! كبُرت كلمةً عند الله وعند الذين آمنوا؛ بل إحقاق الحق مطلقٌ لا تقيِّده حالٌ، على الرأس والعين.

ماذا على من رأى موجة الغلو في الرجل -رحمه الله- عاليةً؛ فابتغى إحكام الأمر فاستدرك بشيءٍ مع الدعاء له! والقطع أنه لا مجال -هنا- لحزب الزور الخونة المجرمين، ولا لعَبَدة خنثى الطواغيت.

مرَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بامرأةٍ تبكي ولدَها عند قبره، فقال لها في بلائها: “اتقي الله واصبري”، فقالت قولًا كالذي يقوله كل عاطفيٍّ إلى يوم البعث: إليك عني؛ فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي.

إني لو كنت أُحسن الخرس عن الباطل؛ ما سُجنت مرارًا، ولا أُخرجت من داري، ولا طُوردت محرومًا من أهلي شريدًا في الأرض؛ لا أشكو الله إلى خلقه تواترت آلاؤه؛ بل رحمته واسعةٌ وفضله الكبير.

يا أرباب الرسالة والحق، يا أصحاب القضية والهمِّ؛ “كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ”؛ لا تكونوا عن اليمين وعن الشمال عِزِينَ، وعليكم بالقصد والاعتدال؛ ثبتكم الله.

هذا منشورٌ لا أخاطب به المجاذيب الدراويش الذين يدورون مع رموزهم دوران الحُكْم على العلَّة، كما لا أخاطب به الغالين في حكمهم؛ بل أخاطب به شُداة القصد والمرحمة؛ حفظنا الله فيهم حتى نلقاه.

ربنا اغفر لعبدك محمدٍ ما تقدم من ذنبه وما تأخر، واجعل كُربة محنته التي مضت وغُربة ميتته التي انقضت؛ كفارةً له، وعوِّضه عما لاقى من الطغاة نعيمًا يجبر كسوره جميعًا؛ أنت خير الراحمين.