يحسن بي الظن كثيرًا أحبةٌ

يحسن بي الظن كثيرًا أحبةٌ نبلاء، فيسألونني أن أكتب لهم في مناسبات فرحٍ أو ترحٍ قدَرها الرحمن لهم شيئًا، فأضعف دون ما يريدون مني وَهَاءً وخَيْبَةً، ثم يشقُّ على قلبي الاعتذار إليهم حياءً وهَيْبَةً، ثُمَّتَ لا يكون من الاعتذار بدٌّ فأفعل شقاءً وحَيْبَةً، فلا يحرمني الراحمون عفوهم عني عطاءً وسَيْبَةً.

يا أحبتي وبوركت مودَّات أفئدتكم أجمعين؛ إني لا أكتب حين أشاء الكتابة، بل حين تشاء الكتابة أكتب، وما أشاء والكتابةُ إلا أن يشاء الله رب العالمين، يا أحبتي وسَمَت أقداركم في السماوات أجمعين؛ أرأيتكم لو أخبرتكم أني ما عمدت إلى كتابة شيءٍ في حياتي قطُّ؛ أفكنتم مصدِّقيَّ؟ فإنما هو معنىً من معانٍ حبَّب الله إلى روحي وزيَّنها في نفسي، يخدش جدار القلب -على حين غفلةٍ منه- خدشًا خفيًّا، فيَسْلُكُه الله في نفسي ينابيعَ تجري بأمره إلى ساعةٍ بارك فيها، ثم يمور في عقلي ما شاء الله مورًا، ثُمَّتَ يسير به البيان سيرًا، لا أتكلفه ولو تكلفته ما قدرت؛ ألا فاغفروا لأخٍ يشتهي كلُّ ما فيه أن يتودد إلى كل أحبته بكل ما يبتغون، ومن لم يسألني من ذلك شيئًا فلا سأله الله يوم يلقاه عن خطيئةٍ جناها. أحبكم.

كلما كان العبد بربه أعلمَ

كلما كان العبد بربه أعلمَ وبدينه أفقهَ وحظُّه من القرآن الحظَّ؛ كان بتفريط قلبه وآثام جوارحه أخبرَ وأبصرَ، ولا يزال الله يُعرِّف أولياءه بأسمائه وصفاته، ويفتح لهم في تعلُّم دينهم عقائدَ وشرائعَ، ويبسط لهم في حُسن عبادته بالبواطن والظواهر بسطًا، ويعصمهم من مظالم خلقه دقيقِها وجليلِها؛ حتى يكونوا مع ذلك كلِّه أوفى الناس اتهامًا لأنفسهم بالتفريط في حقه -سبحانه- وحقوق عباده، وأعظمَهم وقوفًا على الذنوب يعدُّونها عدًّا، يحاذرون صغائرها قبل كبائرها، ولا يشهدون لأنفسهم فضلًا في قليلٍ من الخير أو كثيرٍ، ولا يقولون إذا أصابتهم مصيبةٌ: أنَّى نُصاب بها؛ ونحن العارفون بالله العالمون بدينه العابدون إياه السالمون من ظُلامات عباده! بل يرون لُطف الله فيها وفي كل مصيبةٍ موفورًا، وأنه -وسعتْ رحمتُه- يعفو عن كثيرٍ، لو آخذهم بما يستحقون لجعل مصائبهم في الدين لا في أنفسهم وأموالهم وأهليهم، ويستغفرونه مما أوجبها من الخطايا، ويستعينون مولاهم فيها على مزيد القرب منه علمًا وعملًا، ويغتنمونها في فقه أنفسهم والدنيا والآخرة بما يضيء الله بها في بصائرهم، ويصبرون عليها حتى تنكشف عنهم ابتغاء وجهه الأعلى، يستعذبون شدائدهم ما دامت أقدارَ سيدهم لعله ينظر فيرضى؛ “أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ”؛ كتبَنا المنَّان في حواشيهم، إن فضله لكبيرٌ.

فأما الجاهلون بربهم صفاتٍ وآياتٍ وسُننًا، المتهاونون في تعلُّم دينهم أخبارًا وأحكامًا، المتراخون في الطاعات أنواعِها وكيفِها وكَمِّها، الظالمون لعباد الله قليلًا أو كثيرًا؛ فراضُون مع ذلك كلِّه عن أنفسهم تمام الرضا، لا يرجعون عليها بشيءٍ من اللائمة والتثريب مهما جَنَتْ عليهم من عظائمَ وموبقاتٍ، يقارنون أنفسهم -إذا أطاعوا وإن عصَوا- بالذين هم أبعد منهم عن الله كثيرًا، فإذا هم -بتلك المقارنة- في جنب أولئك أحسنُ حالًا؛ هنالك تطمئن قلوبهم بغير مُطَمْئِنٍ وافٍ، وتسكن نفوسهم بغير مُسَكِّنٍ شافٍ، وترتاح ضمائرهم بغير مريحٍ كافٍ، يصيح أحدهم إذا أصابته مصيبةٌ: أنَّى هذا وأنا من أنا مع الحق وفي الخلق! يسمعها الله من فَمِ من قدر منهم على قولها فأبداها، ويشهدها في قلب من عجز منهم عن قولها فأخفاها، يرون أنفسهم -طَوال حياتهم- غير مستحقين إلا للتقلب بين عافية الله وإحسانه، يَحرُمهم الله بأوزارهم كلما ابتلاهم من الاستعانة به والاستغفار، ويَعمَون عن شهود حكمته في البلاء ورحمته، وتضيق صدورهم فيه -شُغلًا بآثاره في أنفسهم- عن أهْوَن الصبر وأدْوَن الاحتمال، فتكون المصائب عليهم نقمةً لا نعمةً، ولا يزدادون بها من الله إلا بُعدًا؛ أولئك الجاهلون بربهم ودينهم وأنفسهم، وأولئك المريضة قلوبُهم، وأولئك هم الخاسرون؛ أحرَزَنا الرَّحمن أن نكون منهم، إن فضله لكبيرٌ.

منشورٌ خاصٌّ بمن علم موضوعه،

منشورٌ خاصٌّ بمن علم موضوعه، فأما الذين لا يعلمون موضوعه؛ فأذكِّرهم قول أبي القاسم صلى الله عليه وسلم: “وإذا ظننتَ؛ فلا تحقِّق”؛ فإن محبة السلامة للمسلمين كلِّهم أصلٌ مكينٌ من أصولهم.

كل الذين شاركوا منشور اتهام “أحمد سالم” في مالياته -ولم يقفوا بأنفسهم على دقائق الأمر، ولم يجعل الله إليهم ذلك أصلًا- أثمةٌ جائرون؛ إلا عبدًا أعلَمَه الله شيئًا من ذلك وكان ذا حقٍّ عليه؛ فذلك له.

أقول هذا وأنا من يخاصمه في كثيرٍ من طريقته وخليقته؛ لكني سمعت ربي -تبارك قسطُه- يقول: “يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”، وسمعت رسولي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمينٌ؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا”؛ نعوذ بالله من البغي دقيقِه وجليلِه، ونلوذ برحمته من آثاره العاجلة والآجلة.

أما الأخ صاحب المنشور نفسه؛ فالله أعلم بما يعلم هو من معاملته، ذلك وإني -علم الله ذات صدري- أكره أن يكون “سالمٌ” كما اتهمه صاحب المنشور؛ بل أسأل الله -برأفته- أن يكون بريئًا من ذلك ومما هو دونه؛ لا إله إلا الله الحكم الحق خير الفاصلين، واكتبنا اللهمَّ ربَّنا في أُولي القصد والمرحمة.

لقد كان سيدنا الوالد الجليل رفاعي سرور -رفعه الله درجاتٍ، وسرَّه يوم الحسرات- يخاصم الرجل في فكره وأخلاقه، ثم لعله يُتهم عنده بشيءٍ في المال أو النساء، فيزجر الخائض في هذا زجرًا شديدًا.

يا أيها الذين آمنوا بالله والقيامة؛ لا تخوضوا مع الخائضين، ولا تركبوا كل مركب فتنةٍ، واذكروا أن الله أنزل مع القرآن الميزان، واتقوا ربًّا لا يدع مثقال ذرةٍ من خيرٍ أو شرٍّ إلا جازى بها؛ اللهمَّ سلِّم سلِّم.

#في_حياة_بيوت_المسلمين. حروفٌ في التعدد؛ من

#في_حياة_بيوت_المسلمين.

حروفٌ في التعدد؛ من الوحي والواقع جميعًا.

– أباح الإسلام بعامَّةٍ للرجل الزواجَ بأكثرَ من امرأةٍ.

– حُكم التعدد الخاصُّ يختلف باختلاف الرجال وأحوالهم.

– طلبُ المرأة الأولى الطلاقَ بسبب التعدد (فقط)؛ لا يجوز لها.

– إذا سألت المرأة زوجها الطلاق لضررٍ خارجٍ عن التعدد؛ جاز لها ذلك.

– بغض النساء التعدد (طبعًا) أمرٌ طبيعيٌّ وصحيٌّ، أما بغضهن إياه (شرعًا) فكفرٌ.

– ترجيح التعدد راجعٌ إلى الزوج وحده، فيوازن بين حاله قبله وحاله بعده؛ (بالورقة والقلم).

– ليختبر الرجل العاقل رغبته في التعدد في مدةٍ كافيةٍ وعلى أحوالٍ متباينةٍ؛ قبل أن يعزم عليه.

– قبل أن يُنصح الرجل بجُوانيَّات التعدد؛ يُنصح له برَّانيًّا بتنقيح وزن حاجته الحقيقي إليه، فكم رأينا من رجالٍ أحوجَهم إلى التعدد فراغُ البال مما يجب أن يشغله، وخلاءُ الحال مما يتعين التحقق به!

– من كان صالح البال والحال مع امرأته الأولى وأبنائها، ثم ابتغى التعدد (رفاهيةً)، وهو يعلم ما يجرُّه من أضداد ذلك؛ فخفيف العقل، وقياسُ التعدد على المباحات الرفاهية الأخرى قياسُ المساطيل.

– إذا ترجح للرجل التعدد عن غير رغبةٍ عارضةٍ، وقدَرَه حقَّ قدره؛ فليتوكل على الله، راجيًا منه مغانمه، متعوِّذًا به من مغارمه؛ فإنها ليست أرحامًا تدفع وأرضًا تبلع؛ بل الله مولى مُؤْنة التوفيق.

– إذا هان التفريط في اختيار المرأة الأولى على أساس الدين (ولا يهون)؛ فإن اختيار الثانية على غير أساسه مصيبةٌ عظيمةٌ من كل وجهٍ، وعائدٌ على الرجل في نفسه وبيتَيه جميعًا بخسائرَ لا تُحصى.

– لم يجئ الإسلام بالتعدد فقد كان معروفًا في الجاهلية وفي الأمم السابقة؛ لكنه أحكَمه إحكامًا.

– لا يقول: لم لا تعدد المرأة أزواجها كذلك؛ إلا من خسف الكفر بفطرته وعقله جميعًا.

– من جبر امرأته الأولى عند التعدد بهديةٍ ونحوها مما تُتحف به؛ فنبيل النفس رحيم الفؤاد.

– جبرُك خاطرَ امرأتك الأولى عند التعدد شيءٌ، وقبولُك إلزامَها أو أهلِها بذلك شيءٌ آخر.

– تجاوُز امرأتك الأولى عن تفريطك في حقها وأبنائها؛ ينقطع عند الساعة الأولى من الزواج الثاني.

– رضي الله عبدًا جعل من امرأته القديمة امرأةً حديثةً؛ يُجدِّد منها ما بَلِيَ، يعينها على إصلاح ما طرأ على هيئتها بعد تكرار الحمل والولادة، فيبعثها في نفسها وفي نفسه بعثًا جديدًا؛ رضيه الله.

– ليس التعدد رسالةً تقول للأولى: أنا زاهدٌ فيكِ، أو رغبت عنكِ، أو مللت الحياة معكِ، بل لعله رسالةٌ تقول: قد استفدت بظلالكِ في نفسي وعقلي وقلبي شيئًا عظيمًا، أريد أن أخطو به في مسافةٍ جديدةٍ، وقد بسط الله لي ما لو بثثتُه فلم أجحده كان أصلح لي بالًا وحالًا ومآلًا؛ فأرضيني أرضاكِ الله.

– مناقشة المرأة الأولى في التعدد دينيًا وعقليًّا -قبل وقوعه أو بعده؛ ابتغاءَ إقناعها- ضربٌ من ضروب البلاهة؛ فأما قبل التعدد فلا كلام، وأما بعده فالإحسان المضاعف، وأحسن إحسانك إلى امرأتك تجاوزك عن إساءتها، وإعانتها بالرأفة على نفسها وعلى شيطانها وشياطين الإنس من حولها.

– تبريرك التعدد لزوجك الأولى بما صارت إليه من ضعفٍ في نفسها أو جسدها أو حالها؛ قبيحٌ دميمٌ، وأشدُّ منه أن تحدِّث بذلك زوجك الثانية، وأشدُّ منهما ألا ترعوي إذا ذُكِّرتَ بالله فتماديت ولم تتذكر.

– من عدَّد فعدَل فبيَّض الله في الدارين وجهه؛ كما زاد وجه الإسلام بياضًا.

– مُعدِّدو النساء -إلا قليلًا- لا يصلحون للزواج الأول أصلًا.

– يبقى ‍التعدد (على قدْره، ووجهه، لأهله)؛ من مفاخر هذا الدين.

– لم يُغفل الإسلام وجع المرأة الأولى بالتعدد؛ لكنه أوسعُ بصرًا بمصالح التعدد في عموم الناس والحياة، وعامة المباحات غالبة المنافع لا خالصة، وقد جاء الإسلام بجلب المصالح أو تكميلها، وبدرء المفاسد أو تقليلها، ومن احترم عقله أثنى على الإسلام بإباحة التعدد وإن كان به كافرًا.

– لم يدَع الإسلام في حق المرأة قولًا لقائلٍ؛ بل أنصفها غاية الإنصاف، وجعل عقاب ظلمها في الدنيا والآخرة عقابًا أليمًا، حتى جعل مجرد ظنِّ الظلم مانعًا من التعدد؛ “فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً”.

– كم من ظالمٍ لامرأته من غير تعدد، وكم من مقسطٍ إليها مع التعدد!

– العدل بين النساء في المحبة والتَّماسِّ غير واجبٍ، وتصريح الرجل بالثاني دَنَسٌ وحرامٌ.

– العدل واجبٌ في كل ما يقدر الرجل عليه؛ مما يجب عليه أو يستحب أو يباح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبه أدين الله أحكم الحاكمين.

– لا فرق -في القسْم- بين الحائض والنفساء والمريضة، وبين من لسن كذلك.

– لم يرفض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج عليٌّ امرأةً أخرى على فاطمة ابنته -رضي الله عنهما- وحاشاه؛ بل رفض أن تكون المرأة الثانية لعليٍّ هي ابنة أبي جهلٍ لعنه الله.

– تركيز الفجرة على حق المرأة الأولى؛ يشعرني أن الزواج الثاني يكون برجلٍ لا بامرأةٍ مثلها، وقد تكون حاجة الثانية إلى الزواج أعظم من حاجة الأولى يوم تزوجت، ومن سار في الأرض عرف.

– اعتبار سعة الرزق قبل التعدد شأنُ العقلاء، وإغفاله شأنُ الدراويش، ولا ينافي التوكلَ على الله.

– “الزانية ولا الثانية”؛ كذلك تقول الجاهلية الحديثة، قاتل الله الكفر ومن يعين عليه.

– تكره المرأة ‍التعدد وحُقَّ لها، ولعل ‍التعدد أن يكون بركةً عليها وعلى أولادها من نفس جهة حذرها فواتَ حظوظها من زوجها، وكم رأينا في ‍التعدد من إثارة سواكن مودَّات القلوب -في برودة العيشة المألوفة- ما بعث في البيوت خوامدَها وحرَّك جوامدَها! “وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ”.

– من يمزح بالتعدد حينًا ويهدد به أحيانًا؛ طفلٌ، لعله إن بلغ الحُلُم يومًا بلغ الرُّشد إن شاء الله.

– المرأة التي تُبغِّض زوجها إلى نفسها وأبنائها وأهلها والناس بمجرد التعدد؛ بهتك سيئاته وكشف عوراته، والزيادة فيها كثيرًا؛ امرأةٌ لم يُربِّها رجلٌ، وهي مع ذلك ظالمةٌ تنتظر جزاء الله العدل.

– “زوجتني زوجتي، زوجت زوجي”؛ عناوين معاتيه المجانين، سلفيِّين وغيرِ سلفيِّين.

– يفرِّط الرجل صوريًّا في البيت الأول (بتضييع حقوقه)، ويفرِّط حقيقةً في البيت الثاني (بالطلاق)؛ هذا عامة ما رأيناه في الواقع الأسود، وبالله الغوثُ من الظلم كلِّه؛ دِقِّه وجِلِّه، علانيتِه وسرِّه.

– لا ‍أنصح لامرأةٍ -مهما عظُمت حاجتها- ‍أن تتزوج رجلًا يخفي زواجها عن امرأته الأولى؛ ذلك وطرٌ عاجلٌ ‍يوشك إذا قُضي ‍أن تضيع من بعده، ولقد أبصرنا من الدواهي في هذا ما الله به عليمٌ، و‍إن من عجز أولَ أمره عن احتمال هذا الامتح‍ان؛ لهو أعجز عن احتمال ما فوقه من امتح‍انات الحياة.

– المرأة التي لا تنجب، ومع ذلك تهدد زوجها بطلب الطلاق إذا تزوج عليها، غارقةٌ في الأثرة.

– تحسُّس المرأة أخبار ضُرَّتها من ضعف الديانة والأمانة، وهو من أعظم ما تُكدَّر به النفس والحياة.

– يا أيها المعدد؛ افصل بين امرأتيك، وصل بين أبنائك، كيف؟ هي مهمتك أنت.

– إنما الحاجة الحقيقية للرجل قبل أن يعدد إلى زيادة الدين والعقل، لا إلى زيادة العاطفة؛ دينٌ يستوهب الله به التوفيق وينفق منه على أهله وأبنائه، وعقلٌ يدير بحكمته تقلبات العافية والبلاء.

– أُخوِّف المرأة الأولى مطاوعة نفسها وشيطانها في تعدد زوجها، بل تتأنَّى وتتروَّى.

– غيرة المرأة طبيعيةٌ وضروريةٌ؛ ما لم تجاوز حد الله، أو تُزري بنفسها فتكون حديث الناس.

– المرأة الثانية التي تعرف للبيت الأول قدره وتحفظ رتبته وتعين زوجها على الوفاء له كمالًا تمامًا؛ صِدِّيقةٌ يناطح نُبلُها الجَوزاء، وتزاحم مروءتُها الشمسَ في الجلاء، ومن لا؛ فلتستعن مولاها.

– المرأة التي لا يظلمها زوجها بالتعدد ظلمًا كليًّا عامًّا، وهي مع ذلك تؤزُّه أزًّا ليطلق الثانية؛ جائرةٌ جانيةٌ على نفسها قبل ضُرَّتها في الدنيا والآخرة، وأخشى أن يُسلَّط عليها زوجُها إذا فرَغ لها.

– الرجل الذي يطلق الثانية لأجل الأولى بغير علةٍ إلا رضاها؛ وغدٌ مَهينٌ عليه من الله ما يستحق، وإن وفَّى لها حقوقها المادية، ويوشك أن يجُور على الأولى كما جار على الثانية جزاءً وفاقًا.

الحمد لله على الإسلام عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا، والبراء إليه من الجاهلية عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا.

سارة حَوراء أبيها؛ ماتت الليلة

سارة حَوراء أبيها؛ ماتت الليلة حبيبتنا قضاءَ الحكيم الرَّحيم.

لله فؤادُك يا إيادَ الإسلامِ والحبِّ والرَّشد والمرحمةِ، وفؤادُ الفاضلة والدتها، وأفئدةُ أهلها جميعًا.

ربُّنا الله الذي قضى يا صديقي، وأنت له مسلِمٌ فتوكل عليه.

الخاسرون يا حبيبي -وأنا أدْوَنُ من تذكرتك- الذين يخسرون أهليهم يوم التغابن؛ لطف الله بكم.

لئن لم تزُل سارة عن أهلها؛ زالوا عنها، سنةَ الحياة الزائلة.

أنعمك الله بها وبمن أحببت أجمعين في جواره السَّرمديِّ؛ هناك حيث لا يحُول النعيم ولا يزول.

هذا نَعْيُ ابنتي لا ابنة الشيخ إياد، لقد يرى ربي وجع كبدي.

صحبت إياد يومًا أو بعضَ يومٍ فإذا هو رجلٌ بأمةٍ، تمكَّن الجمال منه حتى فاض عنه؛ ثبَّته الله.

آجركم الرَّحمن في بلواكم يا “آل قنيبي”، وربط على قلوبكم.

للسيوطي وحده -مِن علماءَ لا يُحصَون عدًّا- كتابان في تسلية من فقدوا أولادهم؛ جَلَّ المصاب.

آمنا بالله، صبرنا لله، رضينا بالله، احتسبنا عند الله، سلَّمنا لله.

لكَم حضَّ العبد الصالح إخوانه على الرضا بالله؛ فها هو اليومَ يُمتحَن فيه؛ ربَّاه فاملأه رضًا بك.

جعلها الله لكم فَرَطًا إلى الفردوس الأعلى يا قرَّة عيون محبيك.

يا سارة رحمك الله، يا سارة جبرك الله، يا سارة نوَّر قبرك الله، يا سارة رضي عنك الله؛ “سارة”.

كم بنتٍ اليوم ثكلى بفقد سارة! وكلُّ بنتٍ هداها الله بك ابنةٌ لك.

الساعة يا حبيبي تكتظُّ قلوبٌ بضراعاتٍ تصَّاعد إلى السماوات تباعًا لسارة؛ مرحمةٌ في ملحمةٍ.

ربَّاه سارةَ وكلَّ ولدٍ مات لمسلمَين؛ رحمةً واسعةً وجبرًا كريمًا.

“وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا”.

“وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا”.

إن تكن رحمة الله الرحمة؛ فإن عذابه العذاب، توهَّموا مشهد الآية الرهيب.

لو جُمعت لذَّات شهوات الأولين والآخرين لعبدٍ واحدٍ، وتقلب بين أنواعها وكيفها وكمِّها حياتَه كلَّها، وكان عمره أطول أعمار العالمين؛ لم تهوِّن عن قلبه -ناكسًا بين يدي ربه- حسرةً واحدةً من حسرات موقفه العصيب، يوم يختم الله على فيه الذي كان يملأ الأسماع كلامًا فلا ينطق شيئًا، ويقهر سائر الجوارح أن تتكلم بما اقترف بها -مكرَهةً على مطاوعته- في الحياة الدنيا فلا تكتم شيئًا، حتى إذا خلَّى الله بينه وبين القول بعد حديثها؛ قال لها: “بُعدًا لكنَّ وسُحقًا؛ فعنكن كنت أناضل”؛ كأن جوارحه يومئذٍ عُمَّال مؤسسةٍ استخلف صاحبُها رجلًا عليهم فيها، وألزمهم طاعته فيما يشاء، وهم لصاحب العمل قومٌ مخلصون، فبغى عليهم المستخلَف وطغى، فلما انقضت مدة الاستخلاف، وجاء صاحب العمل ينظر ما عمل خليفته في المؤسسة وعُمَّالها؛ ألزمه السكوت وأذن لهم بالكلام، فتتابعوا يقصُّون عليه ما جنى به عليهم وهم له مقهورون؛ فيا لَله الهَوْلُ الهائل، والخَطْب الذي لا تسَعُه لَهَاةُ القائل! اللهم سلِّم سلِّم.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله”؛ حتى اللحم والعظم يَبُثَّان يومئذٍ شكواهما إلى الله ما أُكرها عليه من مكارهه.

بفضلٍ من ربي ورحمةٍ؛ لا

بفضلٍ من ربي ورحمةٍ؛ لا أجد في صدري شيئًا على من يخالفني في تعليقٍ أو مشاركةٍ أو منشورٍ وإن أغلظ القول، ويراني الله أضحك كثيرًا من بعض الساخرين من بعض ما أقول في تعليقاتهم لطرافتها، وأحلف بالله إني لتقرُّ عيني بمخالفٍ يسدِّد فكرتي وينقِّح مقالتي ما لا تقرُّ عيني بكثيرٍ من الموافقين بمجرَّد الثقة، وأفرح حين أخالَف -ابتغاءَ الإسلام- بأن كثيرًا من المسلمين ما عادوا يدورون على أحدٍ دوران الحُكم على العلة وجودًا وعدمًا كما كان يُفعل من قبلُ بكثيرٍ من البارزين، وما غلب على ظني أن مخالفًا يتحرَّى الحق فيما ينكره عليَّ؛ هششتُ وبششتُ وإن احتدَّ واشتدَّ، ولم أغلق التعليقات على أحدٍ ساعةً من نهارٍ منذ ولجت هذا العالم بحمد الله، ولا أمحو منشورًا لما نالني به من المخالفين مهما بلغ نوعًا وكيفًا وكمًّا؛ إلا منشورًا أجدني عاجزًا لضيق الحال عن مناقشة أهله وهي حقٌّ لهم، وإني ليضيق صدري بمن ينكر على المخالفين مطلق عنفهم؛ إلا رجلًا تجاوز حدَّ الله فيَّ فسبَّني أو أحدًا من والديَّ أو فسق بمنكرٍ من القول وزورٍ؛ فإني أمحو تعليقه -حِسْبَةً لله وانتصارًا لحقي؛ “وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ” – وقد أحظره، ذلك وليس في قائمة حظري -بمنة الله- سوى خمسة عشر إنسانًا كأنما حلفوا بسوء اعتقادهم وفعالهم عليَّ أن أحظرهم؛ ربنا اغفر لي ولإخواني أجمعين، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، واسْلُل سخائم صدورنا، واجعل ذلنا ورحمتنا في أوليائك، وعزتنا وشدتنا على أعدائك، وبارك أخوتنا فيك غيبًا فشهادةً، وأنلنا ببركاتها الحسنى وزيادةً، لا إله إلا أنت.

ويكأن هذه المواساة النبوية الرفيقة؛

ويكأن هذه المواساة النبوية الرفيقة؛ في الأسرى ومَن تِلْقاءهم!

“إذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا؛ كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء”.

أثنيت مرةً خيرًا كثيرًا على فتىً حُشِيَ دينًا وجمالًا، سجنه مشركو مصر وساموه سوء العذاب، لم أر مثله عبدًا -على ما خالطت من صنوف الناس- نقاءَ صدرٍ وبهاءَ سَجايا، فكان مما قلت بين فرَط محبتي له ومضاعَف رأفتي به: مثلُ هذا يُحبس! ثم رجعت إلى نفسي باللائمة وقلت: لا والله؛ ما هذا تمام الجملة الصائبة، إنما تمامها: مثلُ هذا العبد الكريم لا بد أن يبتلى، سنة الله في المؤمنين على قدْر إيمانهم، ولا أشرف لعبدٍ إذ يبتلى من أن يؤذى في سبيل الدين، ولا أكرم له إذ يؤذى في سبيل الدين من صيانة الله له عن الدنيا، وهذا وجهٌ عظيمٌ من وجوه حكمة الله الجميلة في ابتلائه طائفةً من عباده بالأسر، “يُخَلِّيهم فيُحَلِّيهم”؛ يُخَلِّي قلوبهم مما لو اجتهدوا في التخلية منه بأنفسهم اجتهادًا عظيمًا ما بلغوه، ويُحَلِّي أعمالهم بما لو جدُّوا في التحلية به بأنفسهم جِدًّا كبيرًا ما طالوه، فتَطوي الفتنة بالسَّجن لأهلها مراحل الطريق، وتأخذ لهم بمجامع السُّبل، وتختصر لهم المسافات اختصارًا، وليس ذلك إلا لمن اجتباه الله، وهو تحقيق قول رسوله صلى الله عليه وسلم: “إن العبد إذا سبقت له من الله منزلةٌ لم يبلغها بعمله؛ ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبَّره على ذلك حتى يبلِّغه المنزلة التي سبقت له من الله”؛ يبلِّغ الله بالبلاء أولياءه من المنازل في الدين؛ مثلما يبلِّغهم من الدرجات في جنات النعيم.

“إذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا؛ كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء”.

ذلك خبرٌ مُنيفٌ من نوع أحاديثَ جليلةٍ مُبِينةٍ، تهتك الهُوَّة الواسعة بين تصور أكثر المسلمين المادي -اليوم- للنعيم الدنيوي، وبين التصور الإسلامي الحقِّ السامقِ لها؛ فبينما يظن عامة المسلمين الراكضين في ظلمات قيم الرأسمالية وحَرور واقعها ظنًّا يملأ نفوسهم؛ أن من بسط الله لهم في لذائذ الدنيا -نوعًا وكيفًا وكمًّا- هم أولو الرضا من الله والعافية؛ ينسف رسول الحق -صلى الله عليه وسلم-هذا الزيف نسفًا، وأن الله إذا أحب عباده حماهم الدنيا؛ إما حقيقةً فيمنعهم من أعراضها، وإما حُكمًا فيعصم قلوبهم من التعلق بها، وكيف لا يحميهم منها؛ “وهي للكبار مؤذيةٌ، وللعارفين شاغلةٌ، وللمريدين حائلةٌ، ولعامة المؤمنين قاطعةٌ”؟! أم كيف لا يحميهم منها وحلاواتها مرارت الآخرة؟! جلَّ الولي الودود.

قال شيخ مواعظ الإسلام ابن الجوزي رحمه الله: “تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان؛ عُدَّ منْع الله إياك عطاءً منه لك؛ فإنه لم يمنعك بخلًا، إنما منعك لطفًا؛ فرأيته كلام من قد عرف الحقائق”.

“إذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا؛ كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء”.

إنه لا غنى لأحدٍ عن الماء، لكن كما يضر شربُ الماء بأنواعٍ من المرضى، فيمنعهم محبوهم إياه وإن اشتدت فاقتهم إليه، بصَرًا بالعواقب ورعايةً للمآلات؛ كذلك يفعل الله بمن أحبهم فيما يعلَمه ضارًّا بقلوبهم مفسدًا لآخرتهم وإنه لأعظمُ المحبين، يمنع من شاء منهم الدنيا وإن افتقرت نفوسهم إليها.

ألا من سأل الله شيئًا من نِعَم الدنيا؛ فليقل: ما علمتَه خيرًا لعاجلتي وآجلتي يا رب؛ فإنها ليست كنِعَم الدين التي أعدمها الله كلَّ كدرٍ، وملأها بكل صفاءٍ، وهي للعبد في دنياه وآخرته بركات خالصةٌ.

“إذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا؛ كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء”.

يا أيها الأسير؛ هذه جامعةٌ من جوامع كلم نبيك الذي رضيته رسولًا، لا ينطقها عن هوىً إن هي إلا وحيٌ أوحاه مَن رضيته ربًّا، تواسيك في شدائد محنةٍ على إسلامٍ رضيته دينًا؛ فما أنت صانعٌ بها؟ّ!

سينقضي حرُّ هذا اليوم العصيب

سينقضي حرُّ هذا اليوم العصيب كما ينقضي كل شيءٍ زائفٍ في هذه الحياة الدنيا، لكنَّ شيئًا آخر لا ينقضي؛ جزاء الحَكَم الحقِّ -جلَّ قسطُه- الذين أساؤوا بما عملوا، وجزاؤه الذين أحسنوا بالحسنى.

ها أنتم في بيوتكم وأعمالكم وتجدون من فَيْح الحرِّ وصَيْهَده ما تجدون؛ كيف بإخوةٍ لكم يسوقهم كفار مصر في عربات الترحيلات -بصفائحها الحديدية اللافحة- من السجون إلى النيابات والمحاكم!

لا ضير؛ إن مجاهدينا وأسرانا وسائر المستضعفين إلى الدَّيان منقلبون، وبين يديه -والشمس تتأجج من قيظٍ، والنار تتميز من غيظٍ- واقفون، إلا على من صَلَاه الطواغيت حرَّ الزنازين في الدنيا فكان من المحتسبين، أولئك لا يجمع الله عليهم بين حرَّين وإن الله لهو خير الشاكرين؛ عفوَك اللهم وعافيتَك.

“لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَآئِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ”؛ من قال إن يومًا قبل هذا اليوم لأصحاب الرسالة يومٌ؟! “هَٰذَا يَوْمُكُمُ”؛ وكل يومٍ قبل يومٍ تتلقى فيه الملائكة الصابرين على لأواء هذه الدعوة ليس معدودًا في أيامهم، “هَٰذَا يَوْمُكُمُ”؛ هذا اليوم -وحدَه- السرمديُّ أمانًا وحُبورًا ورضوانًا.

إن البرد إذا أعقب الحرَّ لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن الموت إذا هجم فقطع أنفاس النفوس لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن القبر إذا ضم أضلاع سُكَّانه لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن الصُّور إذا نُفخ فيه لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن زلزلة الساعة إذا وقعت لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن جهنم إذا زفرت زفرةً لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن الله إذا غضب يوم الصاخة غضبًا لم يغضب مثله قبله ولا بعده لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن داهيةً واحدةً من دواهي الآخرة لا تبقي من آثار دواهي الدنيا كلها شيئًا.

ما الحرُّ وما كل عنتٍ وعناءٍ إذا تقبل الله منهم! ما الحرُّ وما كل عنتٍ وعناءٍ إذا رضي الله عنهم!

تحلو مرارةُ عيشٍ في رضاكَ وما ** أُطيقُ سُخطًا على عيشٍ منَ الرَّغدِ

يا مَولى القيامة وحرِّها، يا وليَّ جهنم ولظاها؛ أحرِق الطواغيت من أكبر جنديٍّ إلى أصغر لواءٍ -أجل؛ هي كما قرأتموها، لولا الجنود الذين تزوغ عنهم الأبصار ما قامت للطغاة قائمةٌ- في الدنيا قبل الآخرة إحراقًا، واحرمهم برد رحمتك أن يذوقوا منها في الدارين شيئًا، اللهم اكْو أفئدتهم في الدنيا حسراتٍ بانقلاب بأسهم وسَطوتهم ذلًا وصَغارًا، وأظلَّهم يوم الحاقة في يحْمُومٍ، واشو عظامهم في نزَّاعة الشَّوى، واسقهم من عينٍ آنيةٍ ماءً صديدًا كالمُهْل يشوي الوجوه، وشَوْبًا من حميمٍ في طينةٍ من خَبالٍ يُقطِّع أمعاءهم، وسلِّط أبين عذابك على أخفى ما نفوسهم وأجسادهم حتى لا تبقي منهم ولا تذر؛ جزاء ما كفروا بك، وصدُّوا عن سبيلك، وقاتلوا أولياءك، أنت من ورائهم محيطٌ، وعلى كل شيءٍ شهيدٌ.

“وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَآءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى”؛ تفعل بقلبي هذه الأفاعيل، أَكُلُّ شيءٍ في السماوات والأرض من خلقٍ وأمرٍ لذلك الجزاء وحده! الخلق كله (من أصغر ذرَّةٍ فما دونها إلى أكبر مجرَّةٍ فما فوقها، من أزل الخلق إلى أبده، ما عقل منه وما لم يعقل)، والأمر كله (من أول ما قضى الله به وأنزل منه وشرع فيه إلى آخر ما شاء من ذلك)؛ لمجازاة المؤمنين والكافرين! ما أهون ذا الحرَّ إذًا، وما أعذب العذاب لوجه ربِّ هذا الجزاء خيرِ الحاسبين!

يا أيها المجاهدون في سُعار هذا الحرِّ ابتغاء “لا إله إلا الله”، في الأرض رسوخًا وإلى السماء شموخًا؛ أخفضُ ما فيكم “نعالكم وما تحتها من ترابٍ شريفٍ”؛ فوق أرفع ما فينا “رؤوسنا وما علاها من هواءٍ لطيفٍ”، أنتم والله أنتم، وجودكم الوجود، وعدمكم العدم، وما بينهما خالصٌ لكم من دون العالمين، قد اجتباكم الله من عباده أجمعَ عليمًا من يصطفي لدينه خبيرًا من يختص بحفظه، ألا إني سمعته -سبحانه وبحمده- يقول: “وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ”، فلم أجد ذا فضلٍ من العالمين أولى بفضل الله في الأولين والآخرين منكم، ومن يدانيكم بشيءٍ تفضل به وقد تفضلتم بمُهَجكم تبذلونها رخيصةً لعلاء الإسلام وغلاء المسلمين! أما والله إنا لا نعرف أقرب قدْركم ولا نبلغ أدنى شكركم إلا مستعينين بالله المقتدر على ذلك، اللهم هذا رجاءٌ أتملُّقك به في عبادك السادة المجاهدين؛ فاسمعه وأنت خير المُكرمين.

أحاطكم الله في هذا الحرِّ بنسائمَ فردوسيةٍ ينزلها عليكم فتُرطِّبكم باطنًا وظاهرًا، وأعاضكم بصبركم هذا رضوانه الأكبر يوم تنظرون إلى وجهه في جواره وقد أسمى مجالسكم، وجرَّد قصدكم له تجريدًا، وسدَّد وجوهكم إليه تسديدًا، وعبَّد جوارحكم فيه تعبيدًا، ولا وَدَعَ باب فتنةٍ إلا أغلقه عليكم، ولا باب خيرٍ إلا فتحه لكم، وشغلكم حياتَكم كلَّها بالأجلِّ الأسنى؛ حتى يختم لكم بأعظم الخواتيم الحسنى، وأقبل بكم عليه مسلمين سالمين، مؤمنين آمنين، طيبين مطيبين، غير مقتحمين فتنةً ولا والغين شبهةً، وأعاذكم من شرور أنفسكم ومن سيئات أعمالكم، ووقاكم الجاهلية ظنَّها وحُكمَها وحميَّتها، ولا جعل مصيبتكم في دينكم، وقضى لكم في أهليكم ومن واليتم بخير القضاء، وعصم قلوبكم أن تزيغ، وخلائقكم أن تسوء، وعقولكم أن تضل، وأقدامكم أن تزول، ووضعكم حيث أحبَّ، واستعملكم فيما رضي، وثبت أفئدتكم، وملأ ألسنتكم لهجًا بذكره، ولا أخزاكم في قليلٍ ولا كثيرٍ، وأغاثكم برحمته التي وسعت كل شيءٍ، وفتح لكم في أكرم أبواب خيره الواسع العظيم، وأشهدكم مشاهد البررة، وعلَّمكم ما لا تعلمون، وبارك لكم على بصائركم؛ حتى لا تروا ولا تسمعوا ولا تبطشوا ولا تمشوا إلا به، وغفر لكم موجبات الحرمان والخذلان، وأجاركم أن تهونوا عليه فلا يبالي بكم، وأحاطكم بما أحاط به خُلصاءه توفيقًا وهدىً وعفوًا وعافيةً، ورفع رؤوسكم يوم “مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ” عاليةً عزيزةً؛ نعم المولى ونعم النصير.

أيها السائرون إلى الله في

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

تدبروا هذه الآيات ثم انظروا؛ هل يستحق من عادته في خلقه وأمره الإتمام؛ غير إكمال عبادته على الدوام والتمام! يتم ربنا إنعامه علينا وهو الغني عنا؛ ولا نتم عبادتنا إياه ونحن الفقراء إليه!

“وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا”.

“وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ”.

“كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ”.

“الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي”.

“وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”.

“وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”.

“ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ”.

“وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً”.

“وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ”.

“وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا”.

“وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُوا”.

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

إتمام العبادة فعلُ السادة؛ “وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ”، “وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا”، “الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ”؛ عرفوا تمام صفات معبودهم، فأتموا له العبادة.

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

وصَلُوا إلى مولاهمُ وبقينا ** وتنعَّموا بوصالهِ وشقينا

ذهبتْ شبيبتُنا وضاعَ زمانُنا ** ودنتْ منيَّتُنا فمَنْ ينجِينا

فتجمَّعوا أهلَ القطيعةِ والجَفا ** نبكي شهورًا قدْ مضتْ وسنينا

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

“وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ”، “ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ”، “إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوآ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ”؛ الإتمام فعلُ الله وتكليفه.

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

حسبُكم ذكرُ انقطاع النور عن المنافقين -بانقطاع إيمانهم وأعمالهم- على الصراط المضروب على متن جهنم، وتمامُه للمؤمنين التامة أعمالُهم، ودعاؤهم ربَّهم عليه يومئذٍ ألا ينقطع نورهم كما انقطع عن المنافقين؛ “نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا”، فكان جزاء الله من جنس العمل؛ أتموا السير إلى لله على صراطه في الحياة الدنيا، فأتم الله لهم نورهم على الصراط يوم القيامة.

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

ولمْ أرَ في عيوبِ الناسِ شيئًا ** كنقصِ القادرينَ على التمامِ

هذا الله يُصبِّركم فتصبَّروا؛ “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا”.

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

لها أحاديثُ منْ ذكراكَ تشغلها ** عنِ الطعامِ وتلهيها عنِ الزادِ

لها بوجهكَ نورٌ تستضيءُ بهِ ** ومنْ حديثكَ في أعقابها حادي

إذا شكتْ منْ كَلالِ السَّيرِ أوعَدَها ** رَوحَ القُدومِ فتقوى عندَ ميعادِ

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

“ما من أحدٍ يموت إلا ندم؛ إن كان محسنًا ندم ألَّا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألَّا يكون نزع”.

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

“مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى”؛ ما منا من أحدٍ إلا وقد أذاقه الله حظًّا من هذه المنة، أفيتحبَّب الله إلينا بتمام حبِّه وقربه؛ ونتبغَّض إليه بقطع طاعته وعبادته! نعوذ برحمتك اللهم من الحَور بعد الكَور.

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

سُئل الإمام أحمد رحمه الله: متى الراحة؟ قال: “عند أول قدمٍ تضعها في الجنة”، من لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف، فأما السعداء البُصراء فيرون العبادة جنةً يحاذرون الخروج من روضاتها.

أيها السائرون إلى الله في رمضان؛ أتموا السير إلى ربكم لا تنقطعوا.

كانت عائشة -رضي الله عنها- إذا آوت إلى فراشها؛ تقول: “هاتوا المجيد”، فتُؤتى بالمصحف، فتأخذه في صدرها وتنام معه، تتسلى بذلك؛ يا عباد الله عانقوا “أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ” في صدوركم، لا تُفلتوها.