#في_حياة_بيوت_المسلمين.
هل آخذ دواءً يمنع نزول الحيض لأصوم رمضان وأقومه؟ تسأله نسوةٌ صالحاتٌ.
يقول الفقهاء: يجوز هذا ما أُمن ضررُه؛ لكن العبد الفقير يقول لك: إن اختيار الله لك خيرٌ من اختيارك لنفسك باطنًا وظاهرًا، وإن الله أعلم حيث يجعل قضاءه، وقد قضى لكنَّ -بناتِ حواءَ- بهذا حكيمًا خبيرًا، وإن لله في كل قدرٍ شرعًا، وإن شرعه العظيم في قدره الكريم هذا؛ هو “الفقه، والرضا، والطيبات”.
الفقه؛ أن تفقهي عن الله حكمته البالغة فيما اختار لك؛ عذر الحيض، وزمانه، وحاله، ومدته، وما يكون به من الآثار النفسية والحِسية، وما يجري به من الأحكام الشرعية؛ ذلك تخفيفٌ من ربك ورحمةٌ.
الرضا بالله ربًّا؛ ربًّا خلقك فسوَّاك فعدلك، في صورة معينةٍ شاءها ركَّبك، ربًّا برأ نفسك كما برأ جسدك وشدَّ أَسْرهما كلًّا بكلٍّ، ربًّا جعل بينك وبين الرجل حِسًّا ما بين الليل والنهار معنىً، تتساندان -خصائصَ ووظائفَ- لا تتعاندان؛ “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى”؛ ما عطف الله الذكر والأنثى على الليل والنهار سُدىً، فلو صح أن يحتج ليلٌ على نهارٍ؛ لصح احتجاج ذكرٍ على أنثى، ربًّا بما يصلحك في المعاش والمعاد عليمٌ، ربًّا له الخلق والأمر جميعًا، وقد وصل مصالح أقدار عباده بمصالح شرعه -في بناءٍ بديعٍ منزَّهٍ- حفيظًا حسيبًا، ربًّا مقيتًا يختار لكل قدرٍ وشرعٍ زمانهما ومكانهما وأسبابهما؛ فإذا قدَّم قدرًا فتقدم شرعٌ فله الحمد، وإذا أخَّر قدرًا فتأخر شرعٌ فله الحمد.
الطيبات؛ طيبات النيات، وطيبات الأقوال، وطيبات الأعمال؛ يبلغ العبد بنيته ما لا يبلغ بعمله، في الدنيا والآخرة، وإن العبد ليُثاب على نيته المجرَّدة عن العمل، ولا يُثاب على العمل المجرَّد عن النية، وفي الصحيح قول رحمة العالمين صلى الله عليه وسلم: “إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا؛ إلا كانوا معكم”، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟! قال: “وهم بالمدينة؛ حبسهم العذر”، وكم من امرأةٍ يطلع الرحمن على قلبها في نهار رمضان ولياليه؛ فإذا هو مكتظٌّ بأنواعٍ من رجاء الكمالات، وخوفٍ من فوات الدرجات العليات، ومحبةٍ مُرَقِّيةٍ إلى معالي السماوات؛ ما ليس في قلوب كثيرٍ من الرجال! وتلك -والله- عبادةٌ عويصةٌ، أربابها آحادٌ مُفرَدون؛ أن يقوم بقلبك من صادق الرغبة فيما عند الله من حظوظ الصيام والقيام؛ مثلُ الذي يناله بجوارحهم الصُوَّام القُوَّام، وطيبات الأقوال؛ لَهَجٌ بالذكر العام والخاص، وتلاوةٌ فياضةٌ للقرآن، وتلطفٌ إلى والدين وإخوةٍ وزوجٍ وأبناء بطيبٍ من القول، وطيبات الأعمال؛ لك كلُّ عملٍ شُرع للرجل، ثم تفضُلينه بما لا قِبل له به من زاكيات العناية والرعاية؛ أعمال الأهل والبيت التي لا يَحسُن إرجاؤها، وما لا يتم صيامهم وقيامهم إلا به من عملك فهو من جنسه عند الله؛ “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ”، “فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ”، “وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ”، “وَمَآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ”؛ تقدَّس الله خير الشاكرين.
لئن نسيت في هذا المقام شيئًا؛ فلا أنسى والدتي أبهج الرحمن مهجتها أبدًا، كم شهدتها في رمضان -طفلًا- وإن شأنها مع الله لعجبٌ! كنا أيتامًا صغارًا، أحدنا لا عقل له أخي “حذيفة” بسط الله له صحةً وعافيةً، أعجز عن وصف حركته -وقتئذٍ- وما يُتلف بها في البيت كيفًا وكمًّا، وحاجته إلى اعتناءٍ خاصٍّ لا يعلمه إلا الله والذين ابتُلوا بمثل دائه في ولدٍ لهم، ونحن -يومئذِ- مساكين في مسكنٍ ضيقٍ نعشقه، نملأ أوانينا -أحيانًا- من طُلُمبة الحي لشُحِّ الماء، لا غسالة لدينا، بل تغسل أمي -غسَلها الله من خطاياها بالماء والثلج والبرَد- على الوابور بالنَّشَّابة وما إليها؛ ذلك كله وغيره وأمي لا تفرِّط في مضاعَف العبادة في رمضان، لا ليلًا ولا نهارًا؛ كانت تضع المصحف الكبير على خشبة المطبخ الصغير، وتقرأ فيه ما تقرأ وهي جوالةٌ في البيت لا تعرف سكنًا ولا راحةً، وتخدم جدتي -رحمها الله ورضي عنها- خدمةً نادرة المثال، وتحفِّظنا القرآن وتكدح في ذلك، ويتصل بها عددٌ من النساء للتعلم أو للبر أو للمواساة لا أحصيهنَّ، وإنها لتنفق عليهنَّ من قلبها وجَهدها ووقتها ما لا تملك؛ إلا بركةً من الله عليها وفضلًا كبيرًا، وكانت -ولم تزل- تأبى أن تدعو أحدًا أو يدعوها إلى الإفطار في الشهر العظيم، إلا ما اضطرت إليه اضطرارًا يملؤها كآبةً لما يفوتها من الخير به، فإذا جَنَّ عليها الليل لم تنم إلا قليلًا، ثم قامت فتطهرت وتطيبت وصلَّت صلاةً تَرُوق رائيها وتُعجب باريها، وإنك لتمر بها قائمةً أو راكعةً أو ساجدةً أو جالسةً فإذا هي تنشج بالبكاء، ثم توقظ من نام منا وتنصب في ذلك، ثم تطعمنا السحور راضيةً مستبشرةً، ثم تصلي الفجر وتذكر الله بعده، ثم تنام قليلًا لتبدأ بالضحى يومًا جديدًا في طاعة الله.
أما العجيبة الباهرة! كانت تصحو بالليل في رمضان وغيره -وهي ذات عذرٍ لا تصلي- فتتطيب وتقرأ القرآن بحائلٍ لا تمسه، وتذاكر موادَّ دروسها للنساء، في العقيدة والفقه وفي الوعظ الأخَّاذ الجميل، فلله كم أدَّبت وعلَّمت من النساء سنين عددًا! حتى قلت لها مرةً: مش انت مش بتصلي اليومين دول يا أمي؛ ليه قايمة في نفس الوقت، وانت تعبانة جدًّا كمان؟! فأجابتني جوابًا أرجو الله أن يكون في سمعه مرضيًّا: “ده وقت أنا عودت الملائكة تكتب لي فيه حسنات، فلازم أقوم فيه حتى لو معذورة”.
يرى ربي دموع عينيَّ تسحُّ الآن وأنا أنقش عن أمي زخرفًا موجَزًا، اللهم مولى أمي؛ اغفر لأمي ما لا يضرك وإن كان كثيرًا، واقبل من أمي ما لا ينفعك وإن كان قليلًا، وارزق أمي أخلص الصدق وأصدق الإخلاص في كل قولٍ وعملٍ، واجبر كسور أمي نفسًا وحِسًّا، وأثب أمي عن مجيد عطائها وفريد صبرها رحمةً واسعةً في الدنيا، وخاتمةً حسنةً عند وفاتها، ونورًا وافيًا في برزخها، ونظرًا إلى وجهك الكريم في جوارك، وفرِّق بين من فرَّق بيني وبين أمي وبين رحمتك؛ إنك أنت العزيز الرحيم.
يا أخواتي؛ لم أضرب لكنَّ المثل بامرأةٍ من نساء السلف، بل بامرأةٍ قريبة العهد بكنَّ؛ فاستعنَّ الله.