أخطأ أخي عبد الله الشريف،

أخطأ أخي عبد الله الشريف، وكثيرًا يخطئ وكثيرٌ سواه إذا جاوَزوا ما يحسنون.

بل سيدُنا عبد القادر الجيلاني شيخٌ من شيوخ الإسلام؛ جعل الله محلَّه عنده بين غفرانه ورضوانه كما جعل محلَّه عندنا بين توحيده وعبادته، وألحقَنا به مسلمين حفظةً لذوي الأقدار أقدارَهم. اللهم دينًا وَسُوطًا، لا ذاهبًا فُرُوطًا، ولا ساقطًا سقوطًا، ونعوذ بك من مراكب الجهل في لُجَج الظلم مجراها ومرساها.

ما بال الواحد منا يحسن الشيء من أمر الله بتوفيقٍ من الله، ثم يبتليه الله بشيءٍ من الشهرة لينظر كيف يعمل لدينه وخلقه، فيقتحم ما لا طاقة له به علمًا وعملًا، ثم لا يؤوب معترفًا بجهله وظلمه! هنالك يؤدِّبه ربه -إذا شاء- بتطيير زلاته كل مَطيرٍ، ولا أكبر من ذلك عقابًا لمن عقل؛ نلوذ برضاك اللهم من سخطك.

ذلك؛ وعامة صوفية اليوم غير عامة صوفية الأمس في علمٍ وعملٍ، ولا أضر على الحق والخلق جميعًا من إجمال ما حقُّه التفصيل وتفصيل ما حقُّه الإجمال، وما لم يُجْمِلْه الله قدَرًا لم يصح عند أولي الألباب إجمالُه شرعًا، وليس ضعف الفقه بالإسلام والناس والواقع اليوم -إذا ذاع وشاع- إلا وبالًا على الملَّة.

راجٍ شطرُ قلبي لعبد الله أن يعترف بزلته، ويائسٌ شطرُه؛ فقد روجع قبلُ فلَم.

خاطرةٌ في تراتيل المشارق والمغارب:

خاطرةٌ في تراتيل المشارق والمغارب:

“أصبحنا وأصبح المُلك لله”، “أمسينا وأمسى المُلك لله”، والحمد لله”.

شرَع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنا إفرادَ الله بالمُلك كل يومٍ مرتين.

المُلك قصدًا وتعيينًا يتجدد توحيد الله به ذكرًا بالقلوب ولَهَجًا بالألسنة؛ مبتدأَ كل نهارٍ، ومفتتَح كل ليلٍ، فتتذكر النفوس في أغوارها، والقلوب في أطوائها، والعقول في خلالها؛ أن المُلك كله لله، فلا احتمال للذهول عن هذه العقيدة.

المُلك الحاكمية، والمُلك الحُكم، والمُلك السلطان، والمُلك السيادة، والمُلك العزة، والمُلك القهر، والمُلك الجبر، والمُلك الاقتدار، والمُلك التدبير، والمُلك الهيمنة، والمُلك العرش، والمُلك القيومية، والمُلك العظمة، والمُلك الجلال.

المُلك بكل تمثُّلاته وجميع تجسُّداته لله الواحد الأحد، له وحده لا شريك له.

لولا ما عَلِم الله العليم الخبير من حاجة عباده أن تتجدد لهم الذكرى بهذه الصفة الخاصة من صفاته علا وتعالى؛ ما شرَع لهم ذلك كل يومٍ مرتين في سُنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ مرةً قبل مستقبَل النهار، وأخرى قبل مستهَل الليل.

إن ما يخامِر عقيدة إفراد الله بالمُلك في النفوس من غَبَشٍ، ويخالط القلوب فيها من دخانٍ، ويزاحم العقول فيها من تشويشٍ -بتسلُّط أنماط المُلك الطاغوتية الظاهرة، ومزاحمة صوره المادية الباهرة- إن ذلك كله ليتطلب مثل هذا الذكر المُسَكِّن للنفس والقلب والعقل جميعًا بهذه الحقيقة المطلقة تَرْدَادًا كثيرًا.

أفيرتاب مؤمنٌ بمالكية الله ومُلكه يلهج بهذه العقيدة نهارَه وليلَه -بعد ذلك- طرفة عينٍ في انقلاب شيءٍ من المُلك في الدنيا لأحدٍ، أو صيرورته فيها لآخَر، في أي زمانٍ ومكانٍ وحالٍ منها! إلا بمشيئةٍ ممن له المُلك في الملكوت جميعًا.

لذلك شُرع لنا نقول في إثرها: “والحمد لله”؛ الحمد لله على مالكية الله للمُلك وحده، يؤتي منه ما شاء لمن شاء، وينزع منه ما شاء ممن شاء، مبتليًا بالملوك ومن مَلكوا، الحمد لله على استئثاره بذلك أزلًا وأبدًا؛ عقيدتنا بني الإسلام.

“أصبحنا وأصبح المُلك لله”، “أمسينا وأمسى المُلك لله”، والحمد لله”.

الاستغفار جزءٌ من التوبة، مؤنته

الاستغفار جزءٌ من التوبة، مؤنته أيسر منها، فعجِّل به أدبارَ الخطايا لا تؤخره حتى تتوب التوبة النصوح، التي هي: الإقلاع، والندم، والعزم ألا تعود، والإحسان بعد الإساءة من جنسها، ورد الحقوق إلى أهلها إن تعلق الذنب بحق آدميٍّ.

الاستغفار: طلب مغفرة الله، وإنما يخاطَب الله بالقلوب أصالةً، فاجعل طلبك المغفرة منه بلسان قلبك، وليكن لسانُك آلةً مبينةً عما بقلبك؛ ذلك حقُّ طلب المغفرة، لا أن يكون قولًا بالأفواه لا حقيقة له، وكم عبدٍ أبكم يسمع الله من قلبه ما لا يسمع من لسانٍ فصيحٍ! وتأمل قول الله كثيرًا: “ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأَفْوَاهِكُمْ”، “يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ”، “قَالُوآ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ”، “يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ”، “ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ”.

هذا حرفٌ لا يحضُّك على إرجاء التوبة فإنها واجبةٌ على الفور، وإنها اللائقة بالله ربًّا وبك عبدًا، ومن يطيق طول الشرود عن مولاه! لكنه حرف أخٍ محاذرٍ عليك أن يدْهَمَك الموتُ من قبل أن تستغفر وتتوب. غفر الغافر الغفار الغفور خير الغافرين لي ولك ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر، وتاب علينا توابًا رحيمًا.

في صدقٍ من الباطن، وحكمةٍ

في صدقٍ من الباطن، وحكمةٍ في الظاهر، وهَمٍّ يَزِينُ لا يَشِينُ، وتوفيقٍ من الرب الأكرم ناظمٍ بين كل ذلك؛ يعلِّمك أخوك الشيخ محمد سالم بحيري من الشافعية، وأخوك الشيخ كريم حلمي من الحنابلة -نحسبهما كذلك، ولا نزكي على ربٍّ خبيرٍ أحدًا- يعلِّمانك كيف تكون متمذهبًا ومؤدَّبًا مع الله والإسلام والأئمة، ويعلِّمك فلانٌ الشافعي وصِنْوُه الحنبلي كيف تكون متمذهبًا وسافلًا أجارك الرحمن.

اللهم ربنا فزِد عبدَيك الأولَين توحيدًا ونُسُكًا ونورًا وهدًى وقنوتًا، وانفعهما بالإسلام راشدَين وانفع المسلمين بهما، واغفر لهما ما لو كان نَقَصَهما من فضلك ورحمتك في الدارين شيئًا، وأدرِجهما في حواشي الأئمة ما عليك بعزيزٍ، وتوفهما مسلمَين بأحسن الخواتيم، واهد عبدَيك الآخرَين إلى حق العلم والأدب، فإن كان سبق في علمك أنهما غاويان لا يهتديان؛ فقِ الإسلام شرَّهما، وأزِل عن المسلمين خبثهما؛ لا إله إلا أنت بيدك الخير وأنت الله على كل شيءٍ قديرٌ.

قاصدًا لم أشأ أن أشير إلى الشيخين الفاضلين؛ لئلا يتحملا شيئًا من كلامي هما عن تبعاته في شغلٍ بالخير إن شاء الله؛ بل لعلهما لا يرضيانه وذلك لهما، فلا يفعل أحدٌ منكم هذا فضلًا، ولا يُسَمِّ أحدٌ الغلامين الآخرين؛ من عرفهما منكم فقد عرف، ومن جهلهما لم يضره ذلك شيئًا، وربُّنا المحيط على كل شيءٍ شهيدٌ.

اللهم اجمع لنا بين نافع العلم وبين صالح العمل مِزاجُهما الإخبات لك والتواضع لدينك والأدب مع عبادك، واغفر لنا ما لعله يخسف بنا عندك فنكون على غير ذلك شيئًا، وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتوفنا برحمتك مسلمين.

أيها المستعينون بالقهوة على الرَّوقان؛

أيها المستعينون بالقهوة على الرَّوقان؛ هلمُّوا فاحتسُوا الآن:

لا جديد في معاداة الإسلام والمسلمين.

ما بقي إبليس شيخًا للجاهلية يُمْلي -وحدَه- عليها؛ فلا جديد.

إنما الجديد في الحرب التركيب والتراكم.

الأقوال بحذافيرها، الأفعال بشَراشِرها، كل المكر قديمٌ قديمٌ.

“مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ”، “أَتَوَاصَوْا بِهِ”، “تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ”.

حتى النظام العالمي الحديث لا جديد فيه؛ إنْ هو إلا حشْد الجاهلية كلَّ خبراتها التاريخية الجغرافية في رُكْنَي الحرب (التصورات والتصرفات)، ونظْمها في منظومة فلسفيةٍ قانونيةٍ؛ سعيًا في الهيمنة على عُمُد الحياة البشرية كلها.

ما كل ما تراه عيناك وتسمع به أذناك في حربك اليوم؛ إلا تطويرٌ لما اقترف إبليس في حرب أبيك آدم أول يومٍ. هُو هُو؛ أنت الذي قرأت القرآن فكأنْ لم.

ما إباء الجاهلية العالمية -اليوم- الشهادةَ للمسلمين -زرافاتٍ ووحدانًا- أينما كانوا بالسبق في شيءٍ سبقوا فيه حقًّا واستكبارهم عن ذلك؛ إلا امتدادٌ لإباء شيخها إبليس قديمًا السجودَ لأبيهم آدم -عليه السلام- واستكباره عن ذلك.

ما تعليل الجاهلية العالمية -اليوم- امتناعَها هذا، بما بينها وبين شعوب المسلمين من فروقٍ عنصريةٍ؛ إلا اتساعٌ في تعليل شيخها إبليس قديمًا امتناعَه عن السجود لآدم بما بين النار وبين الطين -في رأسه- من فروقٍ عنصريةٍ.

ما سعي الجاهلية العالمية -اليوم- حثيثًا في إخراج المسلمين من ديارهم -إما حقيقةً بإجلائهم عنها، وإما حُكمًا بالسيطرة على مقاليدها- إلا استطالةٌ في سعي شيخها إبليس قديمًا في إخراج أبويهم من دارهما (الجنة).

ما طواحن الجاهلية العالمية -اليوم- لإشقاء المسلمين بالفقر والجوع والإمراض والتجهيل بكل وسيلةٍ وحيلةٍ؛ إلا تحقيقٌ غائيٌّ لغاية شيخها إبليس قديمًا في إخراج أبويهم من الجنة، التي كتب الله لهما فيها من الغنى والشِّبع والصحة والمعرفة ما يليق بساكنيها؛ ليكون الفقر والجوع والمرض والجهل أشدَّ أعوانه على مراده.

ما إغراء الناس -اليوم- بلذائذ الشهوات الطاغية (نوعًا وكيفًا وكمًّا)، التي تخسف بها الجاهلية العالمية فِطَرهم وعقولهم لكي لا يجد الإسلام فيهم أصولًا يؤسِّس عليها بنيانه؛ إلا تحديثٌ شديدٌ لإغواء شيخها إبليس قديمًا أبويهم آدم وحواء في إخراجهما من الجنة إذ قال لآدم: “هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى”.

ما تبلُّغ الجاهلية العالمية -اليوم- في فَتْن المسلمين عن دينهم بوسائل من دينهم نفسِه، (كمساجد الضِّرار، والمؤسسات الدينية الرسمية، وشيوخ القصور والقبور)؛ إلا تمديدٌ لتبلُّغ شيخها إبليس قديمًا بنفس الوسيلة الدينية في فَتْن أبويهم آدم وحواء؛ إذ قاسمهما (بالله) إنه لهما لمن الناصحين.

ما ابتغاء الجاهلية العالمية -اليوم- الهيمنة الكاملة على الناس أجمعين -باستغراق أنواعهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأوضاعهم وأحوالهم- في صرفهم عما خُلقوا لأجله؛ إلا إنفاذٌ لعَزمة شيخها قديمًا: “ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ”.

ما مؤسسات الجاهلية العالمية -اليوم- العسكرية والثقافية والأمنية والسياسية والإعلامية، المُنشأة لصد الناس عن سبيل الله تبغيها عِوَجًا؛ إلا التجسيد الأعظم لتهدُّد شيخها إبليس العبادَ قديمًا بالقعود صراطَهم المستقيم.

ما الإباحية الوفيرة التي تفجِّرها الجاهلية العالمية -اليوم- تفجيرًا لحَيْوَنَة بني آدم بإغراقهم في شهوات الأجساد المُخْلِدَة لهم إلى الأرض؛ إلا تطويرٌ أخيرٌ لما سعى فيه شيخها إبليس قديمًا من إبداء عورات أبويهم آدم وحواء في الجنة.

ما اتكاء الجاهلية العالمية -اليوم- استراتيجيًّا على عنصر الوقت واستنزاف المسلمين فيه (فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا)؛ إلا ترجمةٌ بليغةٌ لطلب شيخها إبليس قديمًا من الله -في إغواء عباده- إنظارَه إلي يوم الدين.

ما طاغوتية الجاهلية العالمية -اليوم- في أبواب التشريع من دون الله، منازعةً له -سبحانه- في الحاكمية والحُكم؛ إلا تصديقٌ تامٌّ لظنون شيخها إبليس قديمًا؛ “لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ”، “لَأُضِلَّنَّهُمْ”، “وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ”.

ما اجتراء الجاهلية التاريخية على الله -في كثيرٍ من فلسفاتها وأفكارها- تزعم أنه من وراء شرور العالم بالسلب والإيجاب؛ إلا زيادةٌ في كفر إبليس قديمًا إذ قال لربه: “فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي”، فجعل غوايته من الله لا من نفسه.

ما أحقاد الجاهلية على الإسلام وأهله -اليوم- وتنفيسها في استئصال عقائده وشرائعه وآدابه، والاستيلاء على أهله؛ إلا الإنجاز الأكبر لتوعُّد شيخها إبليس قديمًا: “قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا”، والاحتناك: الاستئصال والاستيلاء، وما كان سببه من إبليس إلا ما تجلى له من اجتباء آدم عليه، فكأنه قال: لأهلكنهم كما هلكت، وهو خُلقٌ قديمٌ ورثه عنه كل شياطين الغاوين في العالمين، كما يشهدون به على أنفسهم عند الله يوم القيامة: “رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا”.

لا جديد في الصراع بكل حالٍ، وليس للجاهلية غير منوال شيخها الملعون منوالٌ.

أفكلما غشيت بعيبٍ ذنبًا أو

أفكلما غشيت بعيبٍ ذنبًا أو غشيك بذنبٍ كربٌ؛ قلت: ليت الله ما خلقني!

ها قد خلقك الله، وعليمًا خبيرًا لم يستشرك في هذا ولم يكن عليه أن يفعل، وعليك أنت ما دمت تعتقد وجودك مصيبةً أن تسترجع، وسواءٌ فيك أسْترجعت أم لم تكن من المسترجعين؛ لن تكون معدومًا لم يُخلق، فقد خُلقت كما ترى.

الآن وقد خُلقت لحكمةٍ، لم تُوجَد عبثًا ولن تُترك سُدًى؛ تعلَّم ما خُلقت لأجله، واسْعَ له سعيه، واستعن بالله. سيصيب تعلُّمَك مِثلُ الذي سيصيب سعيَك مِثلُ الذي سيصيب استعانتَك من الجراحات ما دمت حيًّا؛ لكن عليك المجاهدة في الثلاثة؛ في العلم وفي العمل وفي الاستعانة عليهما. هذا وحده هو العقل.

لم يكن بدؤك اختياريًّا؛ قدَّر الله وما شاء فعل، وكما لم يكن بدؤك اختياريًّا؛ لن يكون موتك اختياريًّا، ولن يكون بعثك بعد موتك اختياريًّا، ولن يكون حسابك بعد بعثك اختياريًّا، ستموت قهرًا وتُبعث جبرًا وتُحاسب كَرهًا، لا قيمة لتحسرك.

إذا كان ذلك كذلك؛ فلا بد من المجاهدة، هذه هي العبادة التي خُلقت أنت لأجلها، عبادة النوع الإنساني المجاهدة. قد كان عند الله خلقٌ قبلك اختار ألا يختار؛ السماوات والأرض “قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ”، وكان عند الله ملائكةٌ لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فأراد الله أن يخلق خلقًا بعد هذا وذاك يعبده بنوعٍ جديدٍ من العبادة، ولم يكن إلا عبادة المجاهدة؛ أن تكون لك إرادةٌ في الكفر ثم لا تكفر، وإرادةٌ في الابتداع ثم لا تبتدع، وإرادةٌ في الظلم ثم لا تظلم، وإرادةٌ في الفسق ثم لا تفسق، وإرادةٌ في العصيان ثم لا تعصي، فإذا فعلت شيئًا من هذا كله بقيتْ لك إرادةٌ ألا تتوب فتتوب؛ فذاك نوع عبادتك التي خُلقت لأجلها.

هذا الوجود الذي تكرهه -بسبب ذنوبٍ أو عيوبٍ أو كروبٍ- هو فرصة السحب على الجنة، على السعادة الروحية الأبدية، واللذات الجسدية السرمدية، ومخالطة الملائكة والنبيين والصديقين متى تشاء كيف تشاء، ورضوانٍ من الله أكبر!

هذه الثلاثة نفسُها ليست شرًّا محضًا يدعوك لمَقْت وجودك هنا؛ الذنوب والعيوب والكروب تضيء لك في نفسك مثلما تُظلم منها إن أنت فقهتها، تُشهدك من طبيعتك الإنسانية العامة ومن طبيعتك الخاصة ما لولاها لعلك لم تشهده، وتُشهدك من آثار صفات جمال ربك وجلاله ما لولاها لعلك لم تشهده، وتُشهدك من معارف الدنيا والآخرة القريبة والبعيدة ما لولاها لعلك لم تشهده. لقد كادت الثلاثة -لمن فقه- أن تكون سببًا من أسباب تعشُّق هذا الوجود.

قال صديقٌ: قد كرهت الحياة

قال صديقٌ: قد كرهت الحياة الدنيا كُره العمى.

لو غير صديقي هذا قالها؛ لعلي كنت له من المصدِّقين.

لم تزل جديرةً هي من وجوهٍ لا تُحصى بهذه الكراهية وأشدَّ منها، لعلك يا صديقي لم تعقل هذا إلا الآن لضعفٍ ما؛ ضعفٍ في بصرك أو في بصيرتك أو فيما سواهما، ثَمَّ ضعفٌ فيك حال بينك وبين شهود هذه الحقيقة بهذه القوة حتى الساعة، بكل حالٍ خيرٌ؛ أن تعقل متأخرًا خيرٌ لك من ألا تعقل. فكان ماذا!

كل الذين حُبسوا ليلةً واحدةً لا شريك لها في قعور أبنية “أمن الدولة”، فعاينوا في أنفسهم وفي غيرهم شيئًا يسيرًا من أهوال الجحيم هناك؛ كرهوا هذا الجهاز اللعين؛ كرهوا ضُباطه وعساكره وما بينهما من ضباعٍ، كرهوا شارعه وحَيَّه ومحافظته وبلده وقارَّته. وإني مُذْ عرفت هذا الكُره لم أتصور ما دونه كُرهًا.

هل هذا الذي وجدت في نفسك -الآن- من الدنيا بُغضٌ لها حقًّا يا صديقي! أخشى بعد الذي رأيته من تلهفك اليوم على أحقر مما فقدت منها بالأمس؛ أن يكون الذي بك عشقًا خفيًّا لها، فلم يعد لائقًا بك بين الناس وقد شَجَّتْ وجهك بحضرتهم إلا أن تُظهر لهم لعنك إياها، على أن تظل مُخادِنًا لها في السر.

يقول أحدكم: كيف أستغفر الله

يقول أحدكم: كيف أستغفر الله وأسترحمه؛ وأنا من أنا ذنوبًا وعيوبًا!

يا هذا؛ نحن لا نستغفر الله ونسترحمه لاستحقاقنا شيئًا من مغفرته ورحمته؛ إنما نستغفره ونسترحمه لأنه هو الغفور الرحيم، هذه أكرم أسماء ذاته، وأوسع جميل صفاته، ونستغفره ونسترحمه لأنه ربنا لا رب لنا سواه، وما يدريك ما الربوبية! ونستغفره ونسترحمه لأنه المستحق كمال عبوديتنا في القلوب والأعمال، ولا جابر لكسورنا فيهما إلا استغفارُه واسترحامُه، ونستغفره ونسترحمه ولو كنا من أوليائه الذين شهد لولايتهم بنفسه في كتابه، ونستغفره ونسترحمه لأنه لا ملجأ لنا منه إلا إليه، فنستشفع بصفات جماله عند صفات جلاله، ونستغفره ونسترحمه لافتقارنا إلى مغفرته ورحمته كل طرفة عينٍ فما دونها وإن لم نكن لهما أهلًا، ونستغفره ونسترحمه لأنه جعل استغفاره واسترحامه مَنْقَذًا لنفوسنا من مهاوِي القنوط، ونستغفره ونسترحمه لنستعين بمغفرته ورحمته على النور في دياجير الدنيا، ونستغفره ونسترحمه لأن استغفاره واسترحامه عبادتان إذا فرَّطنا في أسبابهما فلا ينبغي لنا التفريط فيهما، ونستغفره ونسترحمه لأن رُجْعَانا إليه وحسابنا عليه، فإن لم يغفر لنا ويرحمنا لنكونن من الخاسرين.

عن منشور السلفيين والأشاعرة؛ ليس

عن منشور السلفيين والأشاعرة؛ ليس إلا للمُعْتنين بالشأن وكلٌّ على رأسي:

– لم أمْحُ غير تعليقين اشتملا على سبٍّ صريحٍ لي؛ غفر الله لي ولصاحبَيهما وتجاوز عنا أجمعين، ولعل غيرتهما على ما يظُنَّانه حقًّا هي الدافعة لهما على ذلك، ولولا شرف النفس اللائق بآدميتي وإسلامي لم أمْحُهما؛ فإنه يشقُّ على نفسي مَحْوُ تعليقٍ جادت به يمين مسلمٍ في صفحتي إلا في معصية الله.

– أبقيت سائر التعليقات ما لان منها وما غلُظ، مقسمًا بالله أني إلى مخالِفكم أحوج مني إلى موافِقكم، عادةَ المُنَقِّحين الأفكارَ كتبني الله وإياكم فيهم. ذلك.. وإني أُحَرِّج على الأحبة الفظاظة على مخالفٍ مهما فظَّ هو؛ إلا في منكرٍ جَلِيٍّ لا شبهة فيه ولا تأويل، غيرَ متجاوزين فيه مع ذلك مكارم شمائل الإسلام.

– السائلون عن شرك القبور؛ هو “صَرف ما لا يُصرف إلا لله الواحد الأحد؛ من عبادات القلوب أو الجوارح للمقبورين؛ أولياءَ أو غيرَ أولياءٍ”، والمنكرون وجوده إما جهلاء بالتوحيد وإما جهلاء بالواقع وإما جهلاء بهما جميعًا، أو هم من ضالين مضلين يكتمون الحق وهم يعلمون؛ فأولئك عليهم من الله ما يستأهلون.

– المستنبئون عن عِلل السلفيين المنهجية؛ هي دعواهم فقه الدليل، ونبذهم التمذهب، واشتغالهم بكثيرٍ من صور العلوم عن كثيرٍ من حقائقها، وإيثارهم كبارهم المعاصرين على جملة السلف الذين يتبجَّحون بالنسبة إليهم، والتزامهم معيارًا انتقائيًّا في كثيرٍ من اختياراتهم؛ إلا طائفةً منهم تزداد كل يومٍ عددًا.

– الظانون أني أُهَوِّن الخلاف السلفي الأشعري أصولًا فلسفيةً وعقديةً وفروعًا مقاليةً، أو أني جاهلٌ بما يُراد ببعضه من بعضهم؛ هؤلاء لم يقرؤوا كلامي في المسألة كله ولا يلزمهم؛ غيرَ أني أعوذ بجلال الله وجماله أن أنفخ فيه نوعًا أو كمًّا أو كيفًا لأُرضي إخواني السلفيين عني؛ رضوانُ الله أكبر جعلنا الله له أهلًا.

– الذامُّون أخاهم بالعاطفية؛ جنَّب الله الإسلام الذي لا تَنقصه جراحٌ والمسلمين الذين لا يَعُوزُهم تمزقٌ شرَّ حكمتكم، وحفظ علينا عاطفةً نلقاه بها سُعاةً في تطبيب جراح الإسلام بترياق القسط وتطييب أهله بأرائج المرحمة، لا نرى تعارضًا بين إحقاق الحق وبين الإشفاق على الخلق فنرجِّح أحدهما عُورَ البصائر.

– قيل لمحمد بن شمس الدين: تُقايِس بين هؤلاء -وذُكِر له جماعةٌ من السلفيين فيهم محمد سعيد رسلان لعنه الله- وبين الإمام النووي، فكتب بشماله -سخط الله عليها-: “لا يساوي النوويُّ أيًّا منهم”! مِثل هذا يريد مني بعض إخواني الثقة في شيءٍ من أمره؛ فأعِذ اللهم بمَحْض رحمتك عقلي أن يفعل ذا فيَخزى.

– بالعجز أبوء وأُقِرُّ وأعترف للمعتقدين الأشاعرة شرًّا من الطواغيت أو أنهم يُقايَسون بهم في قليلٍ أو كثيرٍ، أنتم الظافرون عليَّ، لا قِبَل لمَكِين جهلي بمتين علمكم ولا طاقة؛ غير أني أستمطر جبار السماوات والأرض على أشياخكم غضبه في الدارين لقاءَ ما علَّموكم ذلك، وأجِرني والمساكين يا ذا الجلال والإكرام.

– أيها المعتقدون التوحيد أقسامًا ثلاثةً وإني منكم؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية؛ الطواغيت ينازعون ربكم -كفرةً فجرةً- أقسام التوحيد كلها، ويحاربونه ورسوله ودينه وأولياءه بأنواع الحروب جميعِها، فأما الأشاعرة وغيرهم من طوائف المسلمين؛ فمؤمنون بالله وله يُقدِّسون.

– ألا ساء يومٌ ليتني متُّ قبله فكنت نسيًا منسيًّا أُعرِّف المسلمين بأعدى أعدائهم؛ فإن من المعضلات شرح الواضحات، وكما قال الطُّوفي -رحمه الله- ذاتَ وجعٍ: “هَدْم المهدوم تعبٌ، وتحصيلٌ للحاصل يورث النَّصَب؛ فإن الأمر على ما قال القائل السابق: فأيُّ طلاقٍ للنساءِ الطوالقِ”. بالله الغوث بَقِيَّتُه أَشفى وأَكفى.

– أرأيت كيف أنكر الله على أصحاب محمدٍ صلَّى عليه ورضي عنهم؛ اختلافهم في المنافقين على رأيين يقول لهم: “فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ”! مع أن الاختلاف فيهم سائغٌ بشريًّا من جهة ظهور إسلامهم في عامة أمرهم. ما عسى الله يقول في المختلفين في رُتبة عداوة الطواغيت وهم المُباهون بالكفر وبه يقاتلون!

– ليس السلفيون والأشاعرة الذين أُقرِّب بينهم -بعلمٍ وعدلٍ- على المتفَق عليه من معاقد الإسلام وقواعده؛ هم المستقوِين بطواغيت العرب كالمداخلة من السلفيين، أو بطواغيت العجم كأكابر مجرمي مؤتمر الشيشان من الأشاعرة؛ بل أعادي هؤلاء وأولئك معاداةً واحدةً، تشابهت الخنازير وإنا من كلٍّ متطهرون.

رب اجعل هذا الحرف لي

رب اجعل هذا الحرف لي ولأحبتي فيك هدًى ورحمةً وضياءً؛ لا إله إلا أنت.

تحسبون محمدًا الأزهري الحنبلي وغلامَه وأمثالهما من المفتونين بمُنازلة السلفيين دون الطواغيت، ومحمدَ بن شمس الدين وغلمانه وأمثالهم من المفتونين بمُنازلة الأشعريين دون الطواغيت؛ تحسبونهم يحسبون أنفسهم مصلحين في الأرض! بل يعلمون أنهم ضالون مضلون، ويُشهدهم الذي له الحجة البالغة على أنفسهم بأنفسهم -آناءَ الليل وأطرافَ النهار- أنهم مفسدون.

يا عباد الله ورُحِمتم في الدُّور الثلاثة؛ من شغلكم عن معاداة الطواغيت الذين لا أعدى على الإسلام وأهله منهم -يشهد لذلك الله والملائكة وصالحو الجن والإنس ودوابُّ الأرض- بمعاداة طائفةٍ من المسلمين -مهما ضلَّت وأضلَّت- فاعلموا أنه دجالٌ مفتونٌ، وإنْ حلف لكم بين الركن والمقام بكل أسماء الله الحسنى وجميع صفاته المُثلى أنه يريد بالإسلام وبكم خيرًا؛ أولئك الذئاب قلوبًا.

ما كان السلفيون على عِلَلهم المنهجية، ولا الأشاعرة على عِلَلهم العقدية، ولا غيرهما من طوائف الإسلام كلها؛ بأشد ضررًا على المِلَّة المحمدية والمساكين أهلها؛ من الطواغيت الذين ينازعون الله ربوبيته وأسماءه وصفاته وألوهيته، ويفسدون في الأرض بأنواعٍ من الإفساد لم تخطر لإبليس على بالٍ يوم “لَأُغْوِيَنَّهُمْ”، ويسوقون الناس برَغَب الجاهلية ورَهَبها إلى جهنم كل ساعةٍ زُمَرًا.

أخي السلفي؛ خالف أخاك الأشعري الذي أخالفه مثلك في طائفةٍ من أصوله العقدية؛ لكن لا تجعل عداوتك وبغضاءك فيه.. إلا أشعريًّا يُعبِّد الناس للقبور، فذلك لو رآه سيدنا أبو الحسن الأشعري -رضي الله عنه- والأئمة المهديون من الأشاعرة بعده؛ لسبقوك إلى البراء منه، واعلم أنه لا تلازم بين الأشعرية وبين ضلالات القبوريين مهما كثر هؤلاء في أولئك، “وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا”.

أخي الأشعري: خالف أخاك السلفي الذي أخالفه مثلك في طائفةٍ من قواعده المنهجية؛ لكن لا تجعل عداوتك وبغضاءك فيه.. إلا سلفيًّا يُعبِّد الناس للطواغيت؛ فذلك لو رآه السادة أبو حنيفة ومالكٌ والشافعي وأحمد -رضي الله عنهم- لرجموه قبلك لا يبالون، واعلم أنه لا تلازم بين السلفية وبين زندقات القصوريين مهما كثر هؤلاء في أولئك، “وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ”.

تالله لو بُعث أئمة السلفيين والأشعريين من قبورهم اليوم -وربُّهم أرأف بهم وأرحم لهم من أن يفعل- ما عرفوا من هؤلاء وأولئك إلا صراخ النسبة إليهم، فأما روائع العلم وبدائع العمل التي بسط الله للأولين فيها؛ فالكافة -اليوم- عنها أجانب إلا من عصم الله منهم وما أقلَّهم! وأما جهاد عامة الأقدمين أعداء الله.. فلو بلغ المحدَثين من أدعيائهم؛ ما عرفوه إلا قليلًا منهم. لك الله يا دين محمدٍ.

قال قائلٌ منكم: ألا يغضب هؤلاء وأولئك لفظائع الطواغيت في الإسلام وأهله مثلما نغضب بحمد الله! قلت: ليس أحدٌ فيكم بأقلَّ غضبًا من أحدٍ؛ لكن الله إذا هان عليه عبدٌ جعل قوته الغضبية في طائفةٍ من أوليائه، ولا يزال به كذلك حتى يجعل رضاه في أعدائه. ألا إن الطواغيت وسائر الكفرة الفجرة أولى بعداوتكم وبغضائكم فأولى، ثم أولى بذلك منكم فأولى. نعوذ بك اللهم من حَوَل البراء.