عن شِرك القصور وشِرك القبور،

عن شِرك القصور وشِرك القبور، وعن أهليهم لعنهم الجبار لعنًا كبيرًا:

شِرك القصور: هو اعتقاد الحاكمية (حقُّ الحُكم والتشريع) للطواغيت نظرًا، أو التحاكم لهم في جاهليِّ حُكمهم بشيءٍ عملًا. وشِرك القبور: هو صرف ما لا يُصرف إلا لله من عبادات القلوب أو الجوارح للموتى أولياءَ كانوا أو غير أولياءٍ.

لا تكاد تجد قبوريًّا إلا وهو قصوريٌّ يعبد الطواغيت من دون الله أو معه، ولا قصوريًّا إلا وهو قبوريٌّ يعبد المقبورين من دون الله أو معه؛ غير أن عامة القصوريين أشرف في إعلان قبوريتهم يتمسحون بدينها؛ من كثيرٍ من القبوريين الذين يُخفون قصوريتهم يأكلون العيش بالجُبن. حتى إذا كان قدَرٌ فاصلٌ في مقاتلة الطواغيت؛ أبى الأعز الأعظم -علا وتعالى- إلا أن يهتك للمفتونين بهم أسرارهم، وأن يفضح بعد حِلمه أخبارهم، وإن أخذ الربِّ غضبانَ أليمٌ شديدٌ.

إلهَنا الحَكم الحق المبين؛ عجِّل -بكِبريائك وجِبريائك- قضاءً من لدنك في كل قبوريٍّ يوالي الطواغيت جيوشَهم أو جُندًا لهم.. لا يُبقي منهم عورةً مستورةً؛ وضعًا عن جسد دينك من أورامهم التي أنقضتْ ظهرَه المجيد، ولطفًا بالغافلين من عبادك الذين لا توقظ بصائرَهم إلا مَرَزَبَّات المقادير، وتوفنا مسلمين.

اليأس من رحمة الله كفرٌ،

اليأس من رحمة الله كفرٌ، ولا تبلُغه -أعاذك الله- حتى تيأس من نفسك، ولا تيأس من نفسك حتى تكون بهذه العقيدة جاهلًا، فالآن تعلمها من سلفك الصالح:

قيل للحسن رحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود، ثم يستغفر من ذنوبه ثم يعود! فقال: “ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه؛ فلا تملوا من الاستغفار”.

‏قال بكر المُزني رحمه الله: ‏”إنكم تكثرون من الذنوب؛ فاستكثروا من الاستغفار؛ فإن الرجل إذا وجد في صحيفته بين كل سطرين استغفارًا سَرَّه مكان ذلك”.

قال الغزالي رحمه الله: “وكما اتخذت الذنب والعَود إليه حِرفةً؛ فاتخذ التوبة والعَود إليها حِرفةً، ولا تكن في التوبة أعجز منك في الذنب، ولا تيأس، وتذكر قول الله سبحانه: “وَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا”.

قال ابن تيمية رحمه الله: “ليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأً مغفورًا لهم، ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة”.

هي عقيدةٌ علَّمهم إياها سيدهم الأكبر صلى الله عليه وسلم، قال: “قال إبليس: وعزتك لا أبرح أُغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادِهم. فقال الله: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني”. فاملأ بها قلبك مسنَدًا إلى رسول الله.

سلفيٌّ قديم العَته لا يكتفي

سلفيٌّ قديم العَته لا يكتفي بمُقايَسَة السلفيين المعاصرين بسيد الدنيا الإمام النووي رضي الله عنه؛ حتى يرفع طائفةً منهم عليه لأشعرية الإمام في قليلٍ أو كثيرٍ. أما والله لولا أثارة حياءٍ في النفس لشتمتُ الأبعد بمَثلٍ يقال في مِثله؛ لكن لا أوفى مما قاله في وليِّ الله سبًّا من نفسه لنفسه، وما عادى المرءَ مِثلُ نفسه، ولو أن جمهرة فُحَّاشٍ اجتمعوا عليه يسبُّونه ما بلغوا فيه ما بلغ هو من نفسه.

يا قوم؛ نحن لا نرجو الله أن يبلِّغنا عمل النووي؛ بل نرجوه أن يبلِّغنا حبه وأمثاله من أوليائه الصِّدِّيقين؛ ربنا فنستغفرك مما أحدث هذا الغلام فينا؛ أن تصيبنا بعذابٍ من عندك إذا بِتنا عليه من الساكتين. ألا فاقرعوا التافه بنعالكم لا تبالوا.

دخلت مرةً على سيدي الشيخ عبد الباسط هاشم -قدَّس الله روحه- فوجدته متهللًا مسرورًا، فسألته في هذا، فقال: “لسه شايف سيدنا النووي في المنام، قال لي: يا عبد الباسط عايز أسانيدك في القرآن، قلت له: هأ هأ هأ.. انسى يا سيدنا.. لما تدِّيني أسانيدك في السنة الأول (وهو يضحك ضحكةً تضحك لها الدنيا)، فقال لي سيدنا النووي: ماشي يا عبد الباسط.. خد أسانيدي أهي”.

وَهَبَ الله عبدَ الباسط للنووي يوم يلقيانه، ووهبنا لهما مستورين في الظلال.

اللهم انفع بهذا المنشور خلقًا

اللهم انفع بهذا المنشور خلقًا كثيرًا.

يا كلَّ ذوي الآمال والآلام في العالمين؛ حدِّثوا اللهَ أخبارَكم.

تدبروا من هذه الآيات معنًى واحدًا.

هذا الذي تقرؤون ليس دعاءً كالذي ندعو الله به إذا دعونا.

هؤلاء لا يكلمون الله بالذي نتكلم به.

هذه أحاديث تامةٌ مع الله، هؤلاء قومٌ يكلمون الله بكل شيءٍ، يناجونه بحاجاتهم كافةً، يشكون إليه فاقاتهم جميعَها، يبثُّونه آمالهم وآلامهم وما بينهما، يَفُوهُون في حضرته بما لا يُفاهُ به بين يدَي أحدٍ.

“رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ”؛ هذا سؤال محبٍّ بلغ الغاية في حبه، فقيهٍ بصفات محبوبه ربِّه. هل سألت الله يومًا ما يَطمئن قلبك به في شبهةٍ، أو تَسكن نفسك به في شهوةٍ، أو سألته في معنًى ربانيٍّ أو بشريٍّ أو ماديٍّ، أو في قدَرٍ لا تظهر لك حكمته، أو في داءٍ بنفسك أو جسدك لا تعرف له كُنهًا ولا دواءً!

“رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا”؛ إنها لا تقول: نذرت لك ولدي؛ بل “مَا فِي بَطْنِي”؛ بطني الذي أنت بما فيه عليمٌ، نوعِه وحالِه ومآلِه، بطني الذي به أملي وألمي؛ نذرته عتيقًا لك من كل ما سواك.

“رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ”؛ وضعتها أنثى يا رب، وأنت بحال الإناث خبيرٌ، وعلى نذري شهيدٌ؛ فسدِّدني وأعنِّي. أيُّنا يحدِّث الله قبل كل أحدٍ بما حصل له من الخير؛ مع يقينه بأن الله الذي تصدق عليه بما يحدِّثه به!

“وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ”؛ هذه -والله- حروف المحبين التي أذاقنا الله حلاوتها منا لمن نحب وممن نحب لنا؛ كما يحدِّث أحدنا أحبَّ من يحبُّ بأحبِّ ما يحبُّ، نعشق سرد التفاصيل إصدارًا وإيرادًا. هل تنعَّمت روحك بهذه اللذة مع الله يومًا! أن تقول: رب إني قائلٌ كذا.. فاعلٌ كذا.. تاركٌ كذا.. حائرٌ في كذا.. مترددٌ في كذا.

“قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ”؛ يخبرها الله بشيءٍ يحصل لها، فتقول لله -بما لا يناقض عبوديتها، ولا يتجاوز بشريتها-: كيف هذا يا رب! أولئك العارفون بربهم، وأولئك هم المقرَّبون.

“قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ”؛ لقد وصلْتني بالكلام يا رب؛ فهل تضاعف الغوث وتبسط في الرضا فأراك! أنا أسألك رؤيتك يا رب. عبدٌ يغتنم ساعة فيضٍ ما له من نفادٍ وعطاءٍ بغير حسابٍ، فيرجو الله ما لا يكون في هذه الدنيا؛ ونحن لا نكلم الله -حتى في ساعات إنعامه وإكرامه- برجاء ما يكون.

“وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي”؛ أوَلا يعلم الله أن ابنه من أهله! أوَلا يعلم نوحٌ أن أهله هم المؤمنون! وما في ذاك! غلبته أُبُوَّته فوجد شيئًا في نفسه فكلم الله به، ومن أولى من الله بأحاديث النفوس!

“قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ”؛ هذه ضراعةٌ عجبٌ! إنها -لِمَن تدبر- صورة تفويضٍ تامٍّ من عبدٍ إلى سيده، يا رب هأنذا أضع بين يديك -في فتنتي- كل ما أحس في نفسي من ربانياتٍ وبشرياتٍ؛ فما أنت صانعٌ بي!

“قَالَ رَبِّ إِنِّي لَآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي”؛ كثيرًا ما نكون كذلك في شدائد الحياة، لا يبقى لك في محنةٍ إلا نفسُك وسببٌ يتيمٌ من الأسباب، الفرق بيننا وبين نبي الله موسى -عليه السلام- أنَّا -وقتئذٍ- نشكو الله إلى الناس (الذين فقدناهم والذين خذلونا)! أما هو فشكى حاله والناس إلى الله؛ أن افعل كذا لي يا رب.

“قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا”؛ هذه شكوى عبدٍ إلى ربه فيما ضعُف من جسده؛ كيف تقول أنت فيما ضعُف من نفسك! ونفسُك ألطف من جسدك، لا تطيق لطيفةً ما يطيق جسدك كثيفًا. كأني بك -الآن- وقد فقهت كيف تكلَّم الله تقول: رب وهن قلبي.. وهن عقلي.. وهن علمي.. وهن إيماني.. وهنت عزيمتي.. وهنت أسبابي؛ فأسندني إلى قوتك.

“قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى”؛ إن الله لم يسألك عن ذلك كله يا موسى؛ بل سألك: “وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ”، فجوابك الأوحد “هِيَ عَصَايَ”؛ لكن ما حيلة حبيبي والله -تبارك- يكلمه بذاته! إنه لا يملك إلا أن يقول كل ذلك، وأكثرَ من ذلك، ثم يقول المحب: “وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى”؛ لعل الله أن يقول له: وما مآربك ذي! فيأخذ موسى في الكلام حتى تنتهي روحه إلى الله. إنها ساعة وصال ذي الجلال -كثُر خيرُه- فلا يليق بها غير ذلك.

“وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا”؛ هذا نبيٌّ موصولٌ بالسماء رأسًا يشكو إلى الله وحدته! كم كنتَ فردًا -يا مسكين- فلَمْ تُناج الله بغربتك! كأني بالمجاهد الآن يقول: رب لا تذرني في ثغري فردًا فيمدُّه الله، وبالأسير يقول: رب لا تذرني في سجني فردًا فيحرِّره الله، وبالمريض في فراشه يقول: رب لا تذرني في وجعي فردًا فيشفيه الله، وبالعَزَب يقول: رب لا تذرني في نفسي فردًا فيزوِّجه الله، وبالعقيم يقول: رب لا تذرني في أهلي فردًا فيَهَبُه الله، وبذي الحاجة الخاصة في قلبه لا يجد لها في الناس قضاءً -بل لا يقدر على البوح بها- يقول: رب لا تذرني في علةٍ -تشهدها وحدك- فردًا فيغيثه الله، فإذا لم يقض المقدم المؤخر عليمًا حكيمًا لهم شيئًا من حاجاتهم هذه ادِّخارًا لأضعافها من لدنه يوم القيامة؛ فقد شرَّفهم بسؤاله، وأغنَمَهم التضرع إليه، وكفى بالشكوى له شرفًا.

“قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ”؛ هذا كلام من يعرف الرب والحب أعظم المعرفة؛ فإنه لا يُشكر محبوبٌ بأعظم من ذلك، لقد أحدثت لي يا رب ما أحب؛ فلا أكون ظهيرًا لغيرك على ما تكره.

“فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ”؛ تعرفون الشيء الذي نسميه بعاميتنا المصرية “التمحيك”؟ هذا الذي يفعل هنا نبي الله -صلى الله عليه- مع ربه وله المثل الأعلى، إنه فعل -الساعة- شيئًا يحبه الله؛ فما عليه أن يتعرض لله بسؤاله شيئًا يحبه هو! وكان له ما سأل.

“قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ”؛ لقد فعلت كذا وكذا وإني خائفٌ يا رب. أيها الخائفون؛ حدِّثوا الله بخوفكم، لا يؤْمِنُكم مثل الله أحدٍ، ولا يُسَلِّمكم مثله أحدٌ، قل: أخاف الفقر يا رب.. أخاف عدوي يا رب.. أخاف الوحشة يا رب.. أخاف الفشل يا رب.. أخاف أن أبقى بلا ذريةٍ يا رب.. أخاف أن يُهتك ستري يا رب.. أخاف أن أظل مطارَدًا يا رب.. أخاف من مجهولٍ يا رب.. خائفٌ يا رب.

“قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي”؛ أنا يا رب أريد شيئًا من الدنيا لا يناله أحدٌ بعدي. يا الله! نبيٌّ يوحى إليه -وما أدراك ما يوحى إليه!- يسأل الله شيئًا من الدنيا ويكون له وحده! إنها البشرية في أجلى صراحتها ومكاشفتها مهما وُهب صاحبها النبوة وخُلعت عليه الرسالة. وما يضره ذلك! وهل تُكتم عن الله سريرةٌ هو باريها!

“رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ”؛ هذا دعاءٌ نسائيٌّ بامتيازٍ؛ فإن سؤال النجاة من فرعون يجب أن يتقدم على سؤال بيتٍ في الجنة؛ باعتبار تقدم الإزاحة على الإحلال وباعتبار الزمان وبغير ذلك؛ لكنَّ المرأة هي المرأة، وإن كانت وَلِيةً مَهديةً مَرضيةً كامرأة فرعون فإنها لا تنفك عن أنوثتها بحالٍ، إنها تفقد “البيت” معنًى وإن كانت تعيش في القصر مبنًى، “البيت” السكن والأمان والستر والمِلك، فاللهم “البيت” قبل النجاة من فرعون، ثم إنها تفقد من قبلُ “الزوج” حقيقةً وإن كانت تعيش مع فرعون صورةً، “الزوج” الدفء واللطف والعطف والسكن، فقالت: “عِندَكَ” قبل أن تقول: “بَيْتًا”، إنها الحاجة إلى الرفيق قبل الطريق، وإلى الجار قبل الدار. طوبى لمن فقه النساء.

“قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ”؛ من أنتم وما أنتم! أنا لا أشكو إليكم.. بل أشكوكم، أبثُّ ربي كل شيءٍ مني، لا يعلم أحدٌ منكم ما يعلم ربي عني، وإني بالله عليمٌ ما لا تعلمون؛ فذروني وربي.

الآن وحسْبُ أفقه عن أعلم العالمين بالله -صلى الله عليه وسلم- قولَه: “ليسأل أحدُكم ربَّه حاجته؛ حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شِسْع نعله إذا انقطع”؛ الملح الذي هو الملح، والنعل الذي هو النعل.

اللهم إني أشهد في هذا المقام لوالدتي بما فتحتَ لها في دعائك فتحًا عجبًا؛ كما أشهدتنيها كثيرًا تسألك كل شيءٍ، على كل حالٍ لها وحينٍ، قد كنت أسمعها مُذ أكثر من عشرين سنةً تسأل الله -في قيام الليل- أن يتعود أخي الصغير -يومئذٍ- قضاء حاجته بنفسه. تقبل الله عن أمي دعاءها، وعنا.

ربُّكم الذي لا يُعَيِّر، ربُّكم الذي يستر الستر الجميل، ربَّكم ربَّكم.. حدِّثوه أخبارَكم.

#في_حياة_بيوت_المسلمين. يقولون كأنهم حكماء: لا

#في_حياة_بيوت_المسلمين.

يقولون كأنهم حكماء: لا يُطلب الاهتمام من المحبوب؛ سواءٌ الولد والزوج والصديق وذو الرحم؛ حتى باتت عقيدةً كبر عليها الصغير وهرم عليها الكبير.

وأقول: بل يُطلب الاهتمام ما طُلب الحب؛ لكن إلى أهله الذين هم أهله حقًّا، لا إلى الذين نتسول منهم الحب كلما جاعت قلوبنا خَبْطَ عَشْوَاءَ، فنطلب إلى من يليق بنا الطلب إليهم غير ندامى ولا آسفين؛ تذكيرًا بحق الحب، وإعانةً على حفظ القرب، فيكون حينئذٍ تحقيقًا لا تخليقًا؛ تحقيقًا لكمال المودة لا تخليقًا لأصلها.

محبوبك مِثلك إنسانٌ، مجبولٌ على الجهل والضعف والنسيان، ومن ثبتت مودته بيقينٍ حرُم التفريط فيه بظنٍّ، ولم يزل الله -وهو الودود الأعظم- يذكِّر عباده -حتى أنبياءه- بما له عليهم من حقوقٍ؛ لعلمه ببشريتهم باطنًا وظاهرًا، وخبرته بأحوالهم انقباضًا وانبساطًا؛ كيف بمن دون “الودود” وكل من دونه دونٌ!

يا هذا؛ ما لم يكن عتابك عَرَض “مرض التملُّك والاستحواذ”؛ فعاتب حريصًا رفيقًا جميلًا، وما ابتغى محبوبك الخروج من سخطك بعذرٍ؛ فافتح له سبيلًا، وما كان حَرَمُ الحب آمنًا فادخله بسلامٍ. أولم تُحْرِمْ نفسُك عند ميقاته بثياب القاصدين الصادقين! فما عليها أن تقف بعرفاته إذن من سبيلٍ، ولا جُناح على روحك التواقة أن تطوف بكعبته، ولا على فؤادك الهائم من بأسٍ أن يسعى بين صفاه ومروته. يا هذا؛ الحب كالحج عبادةٌ؛ فأتمَّه لله وكن فيه لرسولك من المتبعين.

صرخة نذيرٍ عريانٍ! اتقوا القبوريين

صرخة نذيرٍ عريانٍ!

اتقوا القبوريين الجدد، اجتنبوهم أن يصيبوا ما خُلقتم لأجله من التوحيد وأنتم لا تشعرون، لا فرق بينهم وبين قدامى القبوريين إلا في نوع الخبث ودركة التعالم.

أولئك الساطون على توحيدكم بزخرف القول غرورًا يطعنونه لا يبالون؛ يقرِّبون إليكم الشرك بالله في المقبورين ويزيِّنونه. ما فرغ الإسلام من فتنة الناس بشرك القصور يُعَبِّد كُهانُه الناسَ للطواغيت ترغيبًا وترهيبًا؛ حتى أصيب بهؤلاء القُساة لا يرحمونه في أبنائه. لئن أشفقت جهنم على من يسوقونهم إليها كل حينٍ بصُنوف الشرك في العبادات؛ فإنهم لا يشفقون، ولِمَ يشفقون والغاية أن يطؤوا مواطئ تغيظ السلفيين كيدَ الضرائر! كأنما صيانة التوحيد عن لوثات الإشراك في العبادات دين السلفيين، وكأن دواء إغلاق جمهرة السلفيين الأبواب كلها -وكان- أن تُخلع الأبواب عن بيت التوحيد بابًا بابًا. إلى الله شكايات الإسلام.

سمعت بعض أشياخي يقول -وصدق-: حركة المبتدع كحركة بندول الساعة؛ إما إلى أقصى الميمنة وإما إلى أقصى الميسرة، ينتقل أحدهم من السلفية إلى الأشعرية فينقل بانتقاله الإمام ابن تيمية -قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه- من مشيخة الإسلام إلى التوقف في إسلامه، ألا إنه لو تحول جنسيًّا من الذكورة إلى الأنوثة لكان أصْوَنَ له وأزْيَنَ، يقول الأبعد: أنا متوقفٌ في إسلام ابن تيمية.

كل مشتغلٍ بمحاربة طائفةٍ مسلمةٍ -مهما بلغ سوءهم وسيئاتهم- ما لا يشتغل بالكافرين؛ كالطواغيت، والملاحدة، واليهود، والصليبيين؛ فهو دجَّالٌ مفتونٌ؛ وإن حلف بين الركن والمقام على ابتغائه الحقَّ. كذِّبوهم بالحق لتُصدِّقوا الله.

المنفاخ والشفاط؛ ما يٌشفَط بالشفاط من هواءٍ في جهةٍ يُنفَخ بالضرورة في الجهة المقابلة، وما يُنفَخ من هواءٍ بالمنفاخ في جهةٍ هو مشفوطٌ بالضرورة من الجهة المقابلة. كذلك الولاء والبراء؛ لا يزال يعادي السلفيُّ الأشعريَّ والأشعريُّ السلفيَّ معاداةً جائرةً؛ حتى يواليا الطاغوت جميعًا نكالًا من الله، وكم شهدنا!

اعرفوا من الأشاعرة وأنكروا، واصحبوا منهم واهجروا، أكثرهم متأولون ومنهم دون ذلك، كان الخلاف بيننا وبينهم في أبوابٍ من الفلسفة والاعتقاد ولم يَزل، لا يُقضى عليه من لطيفٍ ظريفٍ فيموت ما بقيت السنن والبدع تتدافعان؛ لكنَّ وصية الله لنا ولهم أن نقوم جميعًا فيه لوجهه بالقسط شهداء لله بالعلم والعدل، فأما من سوَّغ لكم الاستغاثة بالمقبورين ودعاءهم من دون الله أو معه؛ فامقتوه في الله ورسوله، وجاهدوه بألسنتكم، وشنِّعوا عليه بما يستحق؛ حتى يشفيه الله من زندقته إن شاء، أو يشفي صدور الموحدين بإهلاكه، ليس الخلاف بينكم وبينه من جنس الخلاف النظري في الدرس العقدي؛ بل هو كالذي بيننا وبين أنصار الطواغيت، لا يفرِّق الإسلام بين المتماثلات كما لا يساوي بين المختلفات.

أئمة الإسلام السادة الضِّخام أبو حنيفة ومالكٌ والشافعي وأحمد -رضي الله عنهم- في الجنة بيقينٍ لا ريب فيه، وإن كان موتهم بعد انقطاع الوحي الذي يشهد -وحده- في ذلك؛ فإن قطعيَّ الثبوت من الوحي قضى بقطعيِّ الدلالة في الحُكم أن إجماع الأمة -الذي هو إجماعها- معصومٌ من الخطأ والضلال، ولقد أجمعت الأمة على إمامتهم في الدين -عقيدةً وشريعةً- لا على مجرَّد إسلامهم، وإنما الخلاف بين أهل الإسلام في منازلهم في الإمامة أيُّهم أرفع فيها قدْرًا.

ألا إنهم لو بُعثوا من أجداثهم مجتمعين فسوَّغوا لكم -وأجارهم الله أن يفعلوا- ما يرى الله والمؤمنون في القبور والمشاهد والأضرحة من أنواع الشرك بالله القطعية وألوانه اليقينية؛ لكانوا كرؤوس المشركين زمانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا يزينون للناس إشراكهم بالأصنام، لا فرق بين هؤلاء وبين أولئك في حُججهم عند الله وعند الذين آمنوا. جلَّ مقام السادة الأربعة أبدًا.

في التوسل بذات النبي -صلى الله عليه وسلم- المشرَّفة وبجاهه العظيم تفصيلٌ واختلافٌ، وفي التبرك تفصيلٌ واختلافٌ؛ لكن ليس في دعاء الأموات والاستغاثة بالمقبورين تفصيلٌ ولا اختلافٌ؛ إلا في مستوى الحكم على الفاعلين من جهة العلم والجهل ورعاية الأزمنة والأمكنة، فأما الصورة المُركَّبة المشهودة عند القبور -أولياءَ وغير أولياءَ- يُصرَف فيها لهم ما لا يُصرَف إلا لله الواحد الأحد؛ فهي وثنيةٌ محضةٌ، ولو أن أصحاب محمد بن عبد الله -صلى عليه الله ورضي عنهم- نُشروا من قبورهم؛ لما وجدوا بين عُبَّاد القبور وبين عُبَّاد الأصنام فرقًا كبيرًا مما يتخايله الأفَّاكون ويزعمون؛ بل لو أُشهِد إبليس -لعنه الله- عن تلك الفروق المدَّعاة بين الفريقين لأنكرها وهو الموحِي بها جميعًا، ولئن أقر عُبَّاد القبور حديثًا لله بأركانٍ في الربوبية؛ فقد أقر بها عُبَّاد الأصنام قديمًا، وأما الإقرار النظري لله باستحقاق العبودية وحده؛ فلا يغني عن أصحابه شيئًا إذا هم نقضوه بالعمل نقضًا، كمن يتلو “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” لا ينكرها علمًا، ثم هو يتحاكم إلى الطواغيت في حكم الجاهلية التحاكمَ الاختياريَّ عملًا. نواقض الإسلام واحدةٌ.

ليكن السيد البدوي صدِّيقًا؛ ذلك أحب إلينا وآثر لدينا وأكرم علينا، ليست هذه بالقضية؛ القضية فيما هو معلومٌ بالاضطرار للقاصي والداني مما يحصل عند ضريحه تركيبًا لا إفرادًا، فمن سوَّغ هذا بتفكيكٍ متمَحَّلٍ؛ فقد هان التوحيد في قلبه ورخُص عليه، وإنه لمِن أغلظ الناس على الناس -بما يفتنهم في دينهم- من حيث يُسَوِّق نفسه موسى جديدًا يستنقذ المظلومين من فرعون السلفية.

حروفٌ عن حتوفٍ؛ رابعة والنهضة

حروفٌ عن حتوفٍ؛ رابعة والنهضة وما إليهما في قاهرة أهلها من ميادين.

ظللتُ مدةً من الزمان طويلةً لا أمرُّ ألبتة بأرض رابعة ولا بما قرَّب إليها من أرضٍ؛ حتى مررت بها يومًا -غيرَ قاصدٍ- فذكرت قول ملك الملوك: “يَوْمَئِذٍ تُحِدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا”، فتسلَّيت كثيرًا.

أيها المسلمون دينهم لله؛ إنكم تخوضون معركتكم مع عدوكم في الحياة الدنيا؛ لكنكم توقنون أن ميقات فصلها في الآخرة، “ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ”، فابذلوا أسبابكم وأنتم مؤمنون.

العنوا الدولة الحديثة قبل أن تلعنوا طواغيتها؛ إنْ هي إلا ربُّ القوم الأكبر وإلهُهُم الأعظم؛ الذي يدْعون الشعوب إلى شرائعه، ويُعبِّدونهم لسلطانه، ويقاتلون في سبيله، وهو الذي إذا سفك من الدماء ما سفك، واستبدَّ بالثروات ما استبدَّ، واستذلَّ من الأحرار من استذلَّ؛ لم يجد -بفرط تغوُّلِه في القلوب والعقول- عند أكثر الناس حرجًا من شيءٍ؛ بل يقول قائلهم أدبارَ الجرائم: إن الذي يفعل ذلك كله هو الدولة، يراه -وقد طمسوا بطُول الذلة بصيرته وخسفوا بهوان المسكنة فطرته- حقًّا لها، بما أوتيت من أسحار المُلك واسترهاب النظام.

العنوا جنود الطواغيت قبل لعنكم ساداتهم؛ لولاهم ما تحرك من كيدهم ساكنٌ.

العنوا خِرَقَ الطواغيت كُهَّانَ الفراعين شيوخَ السوء لِحَى الرِّجس عمائمَ الزور؛ قبل أن تلعنوا سائر الجنود؛ فإن سلطانهم على القلوب، والقلوب الملوك، من استرقَّها استرقَّ سائر أصحابها؛ كيف بمن يسترقُّها على اسم الله والرسول!

اكفروا برموز الجماعات الإسلامية كلها؛ أن يَبقوا للناس رؤوسًا وقد أظهر الله لكم عِلَلَهم صدقةً منه عليكم، أولئك الذين يعلم الله الحق وأولو النهى من عباده -لا الجهلاء ولا الضالون- أن لكل امرئٍ منهم كفلًا من الدم، بما اقترفوا -قبلُ وبعدُ- من المخازي في الدين وأهله، فمن استبقى ريادتهم فقد رضي خذلان الملة.

أقول هذا وأنا ممن شهد رابعة؛ لكن ما خطرت لنا شرعيةٌ ببالٍ، ولا طافت لنا بخيالٍ، فلله الحمد على القصد والاعتدال، والعَوذ به من الإفراط والتفريط.

فرَّج المليك عن أسرانا أجمعين؛ من الإخوان وغيرهم، وشوى في جهنم من آذاهم في قليلٍ أو كثيرٍ، لكنَّ الحق أحق أن يُتَّبع؛ فأما عامتهم فمساكين طيبون رأف الرحمن بهم ولطف، وأما رموزهم فما رجاؤنا الله فكاكَ أسرهم ليحكموا البلاد والعباد! بل ليخرجوا من قبضة الكفر بالله، وليعيشوا أحرارًا كما ولدتهم أمهاتهم، وليَنعموا وأهلوهم بالعافية سالمين، ثم يكون حسابهم على المؤمنين.

علِّموا أبناءكم أن الحاكمية (التي هي حقُّ الحكم)؛ لله أحكم الحاكمين وحده لا شريك له؛ لا لنظامٍ عالميٍّ أو محليٍّ أو بينهما، ولا هو لعامة الناس أو خاصتهم، وأن التوحيد الذي خلقهم الله لأجله؛ إفراد الله الأحد بالطاعة والحكم في الباطن والظاهر، وألا يشركوا بالله أصحاب القصور كما لا يشركون به أصحاب القبور، وأن قبائح أمراض الرؤوس والنفوس تهزم ما لا يهزم غيرها من أسباب الفشل، وأن اعتصامهم بدين الله -مجتمعين عليه لا متفرقين فيه- هو الحبل المتين الذي يُوثِق الله به أمرهم، وأنه لا وحي بغير سيفٍ ولا سيف بدون وحيٍ، وأن المُلك عقيمٌ، وأن سنن الله جارياتٌ بأمره في خلقه لا تحابي أحدًا من العالمين.

يا فاطر الحُب؛ لا تُذِق

يا فاطر الحُب؛ لا تُذِق أعداء الحب فيك شيئًا من حبك أبدًا.

يا أللهُ الحقُّ؛ زد الطواغيت عذابًا فوق عذابهم بما فرَّقوا بيننا.

صباحُ موتى المسلمين في أجداثهم غفرانٌ ونورٌ، ورحمةٌ وحُبورٌ.

لا إله إلا الحي لا يموت؛ فجَعَني البارحةَ موتُ جارٍ قديمٍ، فواغوثاه!

كان والدًا وأخًا وصاحبًا وحبيبًا؛ خَبَرَ ربي ما أصاب قلبي من أليم الوجع بقضاء نَحْبه، ولولا إيمان القلوب باجتماعٍ ثانٍ لتفطَّرت لفراق المحبين المرائرُ كما يقول سيدنا أبو الوفاء بن عقيلٍ يرحمه الله، وإن من أشد جرائم الطغاة التي لا يبالون بها -إذ عَدِموا كل كِفْلٍ من أسرارها- التفريقُ بين المحبين؛ فالعنهم يا ديَّان.

تالله ما كان أحدٌ أولى بشريف مواساتك قبل موتك، وكريم تغسيلك وتكفينك ودفنك -بعد أهلك- مني حبيبي؛ فغضبُ الجبار على من حال بيني وبينك.

لست وحدك الذي فقدتُ من الناس أحياءً وأمواتًا؛ تجمعنا الجنة برحمة الله.

موجود يا حمزة؟ (قبل شيخنا وأخواتها.. أنساها الله الناس أن ينادوني بها).

– موجود يا أستاذنا.

هعدِّي عليك نشرب شاي مع بعض، وعايز اتكلم معاك شوية كده.

في يومٍ ثانٍ: فينك كده؟

– في مشوار يا أستاذنا.

طيب خلَّص وتعالى، وشوية هزار لطيف وتريقة جميلة على مشاويري الكتيرة.

في أيامٍ كثيرةٍ: اعمل حسابك؛ (فلان مريض.. واحد في مشكلة.. فيه جنازة).

كان في نفسه رجلًا وما أقل الرجال في الذُّكران! وكان مع الله -أحسبه اللهم لا أزكيه عليك- حَسن التوحيد (لا قٌصوريٌّ يعبد الطواغيت، ولا قُبوريٌّ يعبد الموتى)، محافظًا على الصلوات، كثير تلاوة القرآن، واسع النظر في كثيرٍ من أبواب العلم وإن لم يكن من طلابه، وكان مع الناس ودودًا وصولًا، لطيف المعشر، ليِّن الكبد، خفيف الظل، واسع الإيناس، سَمْح الصدر، لا أحفظَ منه للقَصص في كل شيءٍ ولا أقدرَ على روايتها -فيمن رأيت- إلا الدكتور عمر عبد الكافي هداه الله وأصلحه، وكان بأنماط الخبثاء من الناس خبيرًا، لا ينطلي عليه دَجَلٌ ولا ينبغي.

كان ككثيرٍ من محبي الله والرسول والإسلام؛ يفوته الشيء من الخير أو يقارف شيئًا من الشر؛ لكنه كان ممن إذا ذُكِّر تذكر، لا يستنكف ولا يُصِر، وذلك المؤمن.

كان يحبني ويحب أخي الأكبر المريض حذيفة حبًّا شديدًا، وكان كثير السؤال عنه وأقلُّ الأحبة يفعلون ذا؛ فإن حذيفة لطُول مرضه نسيه الناس، فكان سؤاله عن حذيفة واعتناؤه بشأنه ومزاحه بحكاياته التي كنت أحكي عنه؛ يزيد محبتي له.

رآني بعد خروجي من بيتي مرةً واحدةً على غير ترتيبٍ، فعانقني عناق من أسكنني الله بين مودَّاتهم ومروءاتهم منذ برأني، فصار عناقه عهدًا جديدًا أحفظه فيما أستحفظ بالله من آثار رحمته في الأرض؛ جعلني الله لحُسن العهد أهلًا.

عرفته في خير الزمان وخير المكان على خير الطاعات، في معتكَفٍ بمسجدٍ في شهر رمضان المعظَّم، كان يسقي الناس بين ركعات التراويح ماءً ويسارع في خدمتهم ليس في وجهه الصَّبيح شيءٌ من سواد الرِّئاء، فأكبرت هذا منه وأجللته؛ ذلك بأنه لا عبادة أحب إليَّ من بر الخلق ومواساتهم، ثم عرفت بعد ذلك أن خدمة المسلمين والسعي في قضاء حوائجهم عاداته التي لا يتكلف لها؛ في المساجد وفي عمله وحيث يسكن، ومن قبل ومن بعد في أهله المطيَّبين.

كان شديد المَقت للطغاة، حَسن الموالاة للمستضعفين، شهد مشاهد نصرةٍ للإسلام والمسلمين وفيرةً، وكم جادل عن الحق والعدل كثيرًا من حلاليف الطواغيت الذين كنا نبتلى بوجوههم كثيرًا؛ أيام الحوادث العِظام فأحسن!

يقولون: فاقد الشيء لا يعطيه، وأقول: إلا النبلاء؛ كلما ذاقوا مرارات الفقد تفنَّنوا في حلاوات العطاء، ولقد كان الرجل من أصرح الشواهد الإنسانية الكاملة دلالةً على هذا المعنى، من دنا منه عرف شدة فاقته إلى الجبر والمواساة، وهو على ذلك أنشط الناس للجبر والمواساة، بالقول والفعل، ليس أسعدَ بلطفه وعطفه من القريب إلا البعيد، لا يفرِّق بين أحدٍ منهم، أشهد له بهذا في الشاهدين.

مات حبيبي ليلة الجمعة مصابًا بفيروس كورونا، فنرجو الله الحنَّان المنَّان أن يصيبه مما وعد -ورسولُه- على هذا وذاك أوفى الحظِّ وأكرم النصيب؛ اللهم أنت الرحمن الرحيم ذو الرحمة الواسعة خير الراحمين وأرحمهم؛ ارحم عبدك ما بقي مقبورًا ثم يوم يلقاك وإلى أن تزحزحه عن النار وتدخله دار الرحمة الكبرى، واغفر له بأنك أنت الغافر الغفور الغفار خير الغافرين؛ ما تقدم من ذنبه وما تأخر، واعف عنه بأنك أنت العفو الذي تحب العفو، ونوِّر قبره بأنك أنت نور السماوات والأرض، واربط اللهم على قلوب البررة الكرام أهله ليكونوا من المؤمنين، وارزقهم من برِّه ميتًا أضعاف ما رزقتهم منه حيًّا أنت البر الرحيم، واشغلهم في مصيبتهم عن الحزن والأسى بما ينفعه وإياهم عندك أنت اللطيف الحكيم.

لقد أدخلني الرحمن جنات إخواني صغيرًا، وقلَّبني في روضاتهم كبيرًا، شملوني بجمالهم وتَحنانهم عنايةً ورعايةً، وأفسحتْ لي قلوبهم موضعًا كريمًا، وبجَّحوني حتى بجِحَت إليَّ نفسي، فأنا بأنوالهم أوفى الناس بختًا وأرضاهم حظًّا؛ ربِّ بما أدخلتني جناتهم في الدنيا أمدًا؛ فخلِّدني بينهم في فردوسك أبدًا، وبما سَقوا روحي من سلسبيل هواهم حُبورًا؛ فاسْقهم من مِزاج الكافور والتسنيم طَهورًا.

إني -وخبيرِ ذاتِ القلوب- لأجوع إلى أحبتي وأظمأ، ويضيق صدري بفراقهم ضيقَ من لا يَبلغ من الهواء بلاغه، وما نزل بي بلاءٌ أفتكُ من عجزي عن وصالهم كما أشتهي، وإني لا أَعْدِل بالأنس بهم -من الدنيا وما فيها- شيئًا، ربنا من فرَّق بيننا في الحياة الدنيا من أعدائك؛ فلا تنظر إليه -يوم القيامة- ولا تكلمه ولا تؤنسه؛ حتى تُغرقه في الوحشة -بإبعاده عنك وحرمانه منك- إغراقًا لا يفنى.

تشهد اللهم حنين قلبي إلى كل من صحبته في عِيشتي حنينًا شديدًا؛ بل إلى من عرفته في سبيلك بُرْهَةً من نهارٍ، ولقد نظرت ربي إلى شفاء علة قلبي هذه في الدنيا فلم أجده؛ إن ذَكَر القلبُ شُغلت الجوارح، وإن فرغت الجوارح ضاقت الحال، وإن وَسِع مكانٌ لم يسع زمانٌ، ثم إن من هؤلاء من فارق الحياة، ومنهم مهاجرون، ومنهم أسرى، ومنهم من لا أعرف اليوم عنه شيئًا؛ فاللهم بصرًا وصبرًا يُعزِّياني.

تعرفون أحبتي ما شفاء ذلك! جنات الخلد الشفاء والبلسم والترياق، وحدَها لا شريك لها دواء هذا الوجع؛ الجنة شفاء الأرواح العليلة بتباريح الفراق، الجنة رواء الأفئدة الظامئة لهوًى لا مقطوعٍ ولا ممنوعٍ، الجنة غوث نفوسٍ ولهانةٍ لهفانةٍ تتعشق ظلالًا سرمديةً بمن تهوى، الجنة المشتهى والمنتهى. اللهم اللهم.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”. لدغتْ

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

لدغتْ أفئدتَهم وحشةُ البعد عن سيدهم؛ فآبوا إلى بابه سراعًا، وهل يطيق المحبون!

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

كآحاد الأنام قارفوا الآثام، وقد يعمَدون إليها؛ لكنْ أنَّى يصرُّون عليها! هم الراغبون.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

مولاهم ربهم؛ علموا ألا ملجأ من صفات جلاله إلا إلى صفات جماله، فآوَوا إلى كهفه.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

قد تُجعل عقوبتهم في الطاعات والمعاصي؛ لكنَّ عادة المنَّان هُداهم، “وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ”.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

علموا أن ربهم يفرح بهم إذا تابوا؛ فقالوا: نتعجَّل فرحَ الله، لئن أغضبْنا ربنا لنُفرِحَنَّه.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

عصيانهم جهالةٌ، لا مُحَادَّةٌ ولا ضلالةٌ، غيرُ أجرياء على الله، يتملَّقون -حِثَاثًا- رضاه.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

أقلعوا وندموا، وعلى الإصلاح عزموا، وأدَّوا الحقوق تامَّاتٍ، فبُدِّلت سيئاتُهم حسناتٍ.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

أسرعَ بتوبتهم تعريفُ الله وتخويفُه؛ عرَّفهم ثواب المبادرة، وخوَّفهم عقاب التسويف.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

قالوا: حسْبُ الإسلام جراحاتُ أعدائه، لا يُؤتَى من قِبَلنا، لنتوبنَّ قريبًا ابتغاءَ عافيته.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

ذكروا مسارعة نفوسهم إلى زائلات المعاش؛ فاستحيَوا من إبطائها عن خالدات المعاد.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

لما جهلوا موعد غرغرة الأرواح؛ سابَقوا إلى الله بتطبيب الجراح، ومن لها إلا الله!

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

كيف يسارع الله لهم في الخيرات غنيًّا عنهم؛ ولا يسارعون إليه بالإياب فقراءَ إليه!

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

يغتنمون شبابًا قبل هِرمٍ، وصحةً قبل سَقمٍ، وغنًى قبل فقرٍ، وفراغًا قبل شغلٍ؛ فنِعِمَّا.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

لما ثقُلت أقدامهم عن الله بالمعصية؛ خفُّوا إليه عجِلين بالتوبة؛ لتمحو صورةٌ صورةً.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

إذا قال التلكُّؤ عن القُرُبات: تالله ما غنمنا؛ قال الهَرَع بالتوبة: ما شهدنا إلا بما علمنا.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

“فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ”؛ العظيمو الحبِّ الصادقو القربِ، مَن يغيثهم التواب بالتوبة.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

“وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا”؛ عليمًا بالتائبين وأحوالهم، حكيمًا أين يجعل توبته في عباده.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

“ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ”؛ لكنه جعله كذلك؛ حنانًا من لدنه وزكاةً، وهو البر الكريم.

“ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ”.

لبيك اللهم رُجْعَى؛ أفمَن هرول إلى الرحمن بها؛ كمن أبطأ خَطْوَ أسبابها! لا يستوون.

أين فلانٌ؟ – بعُد عن

أين فلانٌ؟

– بعُد عن الله كثيرًا.

لا أسألك: كيف هو؟ أسألك: أين؟

– بعُد، فبعُدت عنه.

ويحك! من علَّمك هذا! أخوك أحوج إليك بعيدًا.. كيف أخوك نبِّئني؟

– رجع إلى صحبة السوء القديمة.

وما الجديد! لا بد للإنسان من عادته، ولا بد للشيطان من سُنته.

– وما عادة الإنسان؟ وما سُنة الشيطان؟

عادة الإنسان بحثه -واعيًا وغيرَ واعٍ- عن مجالٍ لإشباع حاجاته الباطنة والظاهرة؛ فلما فقد أخوك مجالكم -بتفريطٍ منه أو منكم- هرول إليه الشيطان بسُنته.

“بلَغني أن صاحبك قد جفاك، ولستَ بدار مَضْيعةٍ ولا هوانٍ؛ فالحَقْ بنا نُواسِك”؛ هل طرق سمعَك هذا القول يومًا! فإنها رسالةٌ بعث بها ملك غسَّان إلى سيدنا كعب بن مالكٍ -رضي الله عنه- لما هجره المسلمون بأمرٍ من الله ورسوله بعد تخلفه عن غزوة تبوك؛ فتنةً لا يحيط بهَوْلها خُبرًا إلا الله.

كذلك يمكر الشيطان دُبُرَ كل جفوةٍ بين المؤمنين؛ يَبعُد أحدنا عن الأبرار فيُقرِّب الشيطان منه الفجار، يُذكِّره بهم ويُذكِّرهم به، يُجمِّل الأخبثين إذ يُقبِّح الأطيبين.

– لستُ على حمل نفسي قادرًا؛ فأنَّى لي أن أحمل أخي!

أو لم تعلم أنك إن حملت أخاك؛ حملك الله؟

– قد جربتُ ذلك كثيرًا؛ فإذا أنا أَضيع مزيدًا.

“هَلْ جَزَآءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ”! لستَ على أخيك بأكرمَ من الله عليك، أفتسارع أنت إلى إنقاذ أخيك من أسباب غضب الله؛ ولا يسارع الله في إنقاذك بأسباب رضوانه وهو الأحمد الأشكر! لقد أتانا عن الله أن شَطْر معاملته عبادَه في الدنيا والآخرة؛ معقودٌ بنوع ما بينهم من المعاملة، إنا إذا صدَّقناك يا هذا كذَّبنا الله.

– فبيِّن لي ما وراء عجزي عن عون أخي.

لعلك ضعيف التزود من الطيبات التي هي مراكب الأحمال في السَّير إلى الله، أو أنك لم تخلص لوجه الله قصدك على الكمال والتمام، أو أنه فاتك من دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة نصيبٌ، أو أنك لم تكن بنفس أخيك خبيرًا.

– أليس صرفُ الله أخي عن سبيله لا يكون إلا بما كسبت يداه!

عملُه السبب الأول، وعليه أصالةً المُعَوَّل؛ لكن لعلي وإياك في بعض هذا أسبابٌ، وليس المقصود التثريبَ عليك ولا وضْعَ اللائمة عنه؛ لكني وَجِلٌ على نفسي وإياك غدًا في صورة صاحبنا اليوم، وإنما سُمِّي القلب قلبًا من تقلبه، فالصورة ردُّه إلى الله والحقيقة تثبيت أقدامنا نحن، ومن يأمن!

– فهل كلامٌ آخر يقال في المقام قبل السلام؟

قد لا يَقدُرُك الله في هداه سببًا ويَقدُر سواك، وإذا عرفت آيات الله في هداه عرفت منتهاك، وهاكَ موعظةً في تقلب القلوب أحْرَزَني الله وإياك.

“يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي الرجل مؤمنًا ويصبح كافرًا”.

“يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في مساجدهم يصلُّون؛ ليس فيهم مؤمنٌ”.

“إن الضلالة حقَّ الضلالة؛ أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف”.

لم يكن زمانٌ قطُّ عظُمت به الفتن، وكثُرت، وتتابعت، وتشابكت؛ كهذا الزمان.

هذا بعض ما علَّمنا الله ورسوله من سؤال الثبات؛ نرجو الله ربنا دوام اللهج بهن.

“اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتد”.

“اللهم إني أسألك الثبات في الأمر”.

“اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا”.

“رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا”.

“رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا”.

“يا مقلِّب القلوب؛ ثبت قلبي على دينك”.

“اللهم إني أعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر”.

“اللهم إني أعوذ بعزتك -لا إله إلا أنت- أن تضلني”.

“يا وليَّ الإسلام وأهله؛ مسِّكني بالإسلام حتى ألقاك عليه”.

“يا مصرِّف القلوب والأبصار؛ صرِّف قلبي على طاعتك”.

“اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني به قاعدًا، واحفظني به راقدًا”.

“اللهم لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا؛ فأنزلنْ سكينةً علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا”.

يا عباد الله؛ تدبروهن، واحفظوهن، وحفِّظوهن أهليكم، والهجوا بهن صادقين.

ذلك؛ وإنه لا أعظَم سببًا للثبات من أمرين؛ اتقاء الفتن “إن السعيد لَمَنْ جُنِّب الفتن”، وأن يفعل العبد ما أُمر به ويترك ما نُهي عنه “وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا”؛ نسأل الله صَوْنًا عن الفتن، وعَوْنًا على الطاعة، وتوبةً من قريبٍ إذا فرَّطنا في هذا أو ذاك، وتوفَّنا ربنا مسلمين.