ترجو ‍من محبوبك في “الحب”؛

ترجو ‍من محبوبك في “الحب”؛ ما لا تبذل معشاره لله!

تحاسبه إذا فرَّط في حقك؛ وأنت واسع التفريط بحق الله!

تُؤَنِّبه على لهوه إذ تحدِّثه؛ وأنت كثير السهو بين يدَي الله!

تعتب عليه ضَعف وصاله؛ وأنت شديد التفريط في الصلاة!

تؤاخذه على قليل ذِكره لك؛ وأنت قليل تلاوة القرآن وذكر الله!

تَعْذِلُه إذا آثر عليك خيرًا منك؛ وأنت تؤثر ما دون الله على الله!

تغار عليه أن يخطر على باله غيرُك؛ وقد حُشي قلبك بمكاره الله!

تَلْحَاه إذا أرضى غيرك بإسخاطك؛ وأنت تسخط الله بإرضاء سواه!

تُعَنِّفه إذا لم يغضب لغضبك؛ وأنت تَهَشُّ في وجوه ‍من يغضبون الله!

تلومه إذا لم يصالحك بعد جفائه؛ وأنت لا تؤوب بعد معصيتك إلى الله!

تُثَرِّب عليه إذ لا يسارع في هواك؛ وأنت تقوم كسلانَ ثقيلًا إلى عبادة الله!

تأسى على نكرانه جميلَك؛ وأنت غافلٌ عن شكر آلاءَ لا يحصيها فيك إلا الله!

ترى كل ذلك حقًّا لك بجميل مودتك له وجزيل برِّك به؛ ولا تؤدِّيه حقًّا عليك لله!

أنت لم تخلق محبوبك ولا أنت رازقه؛ وخالقك ورازقك ومولى كل نعماءَ فيك الله.

اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه؛ سبحانك.

عن ضرورة “لا إله إلا

عن ضرورة “لا إله إلا الله” أعقابَ الخطايا:

خير صِيَغ استغفارك بعد خطيئتك ما تضمَّن “لا إله إلا الله” أو ما في معناها من مقرِّرات التوحيد؛ فإن المعاصي كلها من شُعب الكفر والشرك كما أن الطاعات كلها من شُعب الإيمان والتوحيد، والمعصية إما أن تكون تركًا لمأمورٍ به أو فعلًا لمنهيٍّ عنه، فمن ترك مأمورًا لله فقد أطاع غيره في تركه، ومن فعل منهيًّا لله فقد أطاع غيره في فعله، وهذا كله من خوادش التوحيد الكامل وجوارح العبادة المطْلقة، فناسب قول “لا إله إلا الله” متضمَّنًا في الاستغفار عقب كل ذنبٍ.

كأنما يقول العبد بلا إله إلا الله لربه: إن كان قبيح فعلي قد خدش جميل توحيدي؛ فهذا صادق قولي يشهد لك بما اطمأن به قلبي من توحيدك، ولئن أطعت غيرك في طاعةٍ تركتها أو معصيةٍ اقترفتها فجرحت عبادتي؛ فهأنذا أجدِّد عقد عبوديتي بلا إله إلا الله في أَوْبتي؛ لا إله إلا أنت المستحق لإسلام قلبي وقولي وعملي.

كما أنه لا مُوجع للروح والقلب والعقل والجسد -في الحياة الدنيا كلها- كالخطايا، ولا مُريح لها -من بلاسم الدنيا والآخرة- كلا إله إلا الله معنًى ولفظًا. تأمل قول أبي الجوزاء رحمه الله: والذي نفسي بيده؛ إن الشيطان ليَلزم بالقلب حتى ما يستطيع صاحبه ذكر الله، ألا ترونهم في المجالس يأتي على أحدهم عامةً لا يذكر الله إلا حالفًا! والذي نفس أبي ‍الجوزاء بيده؛ ما له في القلب طَرْدٌ إلا قول: لا إله إلا الله. ثم قرأ: “وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا”.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست،

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”.

لا يصيب شيطانٌ من عبدٍ مرادَه كما يصيب بهذه العناوين، ولا تزال بصاحبها حتى يكون كذلك، وأبعدَ من ذلك، ولقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدَنا أن يقول: “خبُثت نفسي”، “وليقل: لَقِسَتْ نفسي”، مع أن الفرق بينهما يسيرٌ من جهة المعنى؛ لكنه عنوانٌ يسجن صاحبه في موضوعه.

“ما عدت ملتزمًا، لقد ‍انتكست، مات قلبي”؛ إذا كان ذلك كذلك؛ فلا عليَّ من كل طاعةٍ أفرِّط فيها، ولا عليَّ من كل معصيةٍ أقارفها، ولا عليَّ إذا هجرت الأبرار لئلا أدنِّسهم بآثامي التي لا يعرفونها، ولا عليَّ إذا صاحبت الفجار الذين صرت لهم شبيهًا، ولا عليَّ إذا لم أحمل للإسلام همًّا ولأهله قضيةً.

“ما عدت ملتزمًا، لقد ‍انتكست، مات قلبي”؛ هذه العناوين من جملة مداخل الشيطان “اليمينية” إلى قلوب المؤمنين، والمداخل اليمينية هي التي قال فيها اللعين قديمًا: “وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ”؛ أي من جهة الحق والخير والإحسان، وهي أضرُّ على العبد -لخداع فتنتها- من مداخل الشيطان “الشِّمالية” الصريحة.

“ما عدت ملتزمًا، لقد ‍انتكست، مات قلبي”؛ صورة يأسٍ خفيٍّ من رَوْح الله، وقنوطٍ مستترٍ من رحمته ومغفرته، مهما ألبسها صاحبها -واعيًا أو غيرَ واعٍ- لَبُوس الحَطِّ من نفسه وسوءِ الظن بها.

“ما عدت ملتزمًا، لقد ‍انتكست، مات قلبي”؛ إن إزراء العبد بنفسه من شواهد عبوديته؛ لكنه إذا بلغ ذلك كان سوءًا مستطيرًا، ومَرْكَبًا للشيطان من النفس إلى بلوغ الكفر بالله. ما الكفر بالله -هنا- دقَّ الصُّلبان، ولا إنكار وجود الرحمن؛ بل ركوب الموبقات جملةً، وترك الفرائض جملةً، مع موالاة الفاسقين فالظالمين فالكافرين على خطواتٍ متتابعاتٍ، ولقد سمعنا حتى وَجِعْنا وأبصرنا حتى أقصرنا.

“ما عدت ملتزمًا، لقد ‍انتكست، مات قلبي”؛ فأنَّى لغارقٍ مثلي أن يأمر بمعروفٍ أو ينهى عن منكرٍ! وجَهِل هذا المسكين أن من أوسع أبواب نجاته من ظلماته (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ودونكم هذه الدُّرة النادرة لشيخ الإسلام ابن تيمية يحكيها صاحبه ابن القيم -رحمهما الله- قال: “انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه؛ رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بلحية نبيٍّ مثلِه وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ورفعِه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه؛ لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدوٍّ له، وصَدَع بأمره، وعالج أمَّتَي القبط وبني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر. وانظر إلى يونس عليه السلام؛ حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرةً، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى”.

“ما عدت ملتزمًا، لقد ‍انتكست، مات قلبي”؛ يخبرك الإسلام عن زيادة إيمان عبدٍ حتى لكأنه يرى الله، وعن نقصان إيمان عبدٍ حتى لكأن الله -تعالت إحاطته- لا يراه؛ لكنه لا يقضي بهذه العناوين الكلية على عبدٍ قضاءً؛ إلا عبدًا تنكَّب سبيل الله باطنًا وظاهرًا، وأحاطت به بوائقه على القبول والرضا.

“ما عدت ملتزمًا، لقد ‍انتكست، مات قلبي”؛ تكشف وزن الخلل الشائع في معنى الاستقامة عند عامة المسلمين، وما الاستقامة -عند الله ورسوله- إلا جهاد العبد نفسَه باطنًا وظاهرًا على الثبات في الأمر، فإن فرَّط في طاعةٍ أو قارف معصيةً جاهدها في التوبة والإنابة، لا يضيره شيءٌ ما بقي كذلك.

“ما عدت ملتزمًا، لقد ‍انتكست، مات قلبي”؛ حيلةٌ نفسيةٌ غير واعيةٍ لمداراة القعود عن معالي الأمور، والرضا بالخسف، والتصالح مع البطالة، ولو فقه قائلوها ما قالوها. وبالله السلامة والسداد.

حدَّثني -يائسًا من الهدى- عن

حدَّثني -يائسًا من الهدى- عن أنواع خطاياه الجِسام، وعن كبائر تشيب لها نواصي الولدان، وأنه لا يظن توبة الله عليه وتجاوزَه عنه، وأنه جرَّب الأَوبة إلى الله مرارًا فأخفق عددَ ما جرَّب؛ فقلت له:

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً عن خطاياك كلها؛ عما ظهر منها وما بطن، عما كان بقلبك وما كان بلسانك وما كان بجارحةٍ جارحةٍ، عما جنيته في نفسك وما جنيت به على غيرك، عما حصل منها بالتَّرك وما حصل بالفعل، عما تذكر منها وما نسيت، عما انقطع منها وما اتصل.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً عن تعمدك لها، وعن إصرارك عليها، وكيف لم تعتبر بمواعظ الله التي والاك فيها، وعن كيفِها العظيم، وعن كمِّها الوفير، وعما لم تُحط به فيها خُبرًا.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً عن بواعثها الشنيعة، وعن زمانها الطويل، وعن أماكنها التي لا تحصيها، وعن حبائلها الباطنة التي مكرتها، وعن أسبابها الظاهرة التي أبرمتها.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً عمن أغرقتهم معك فيها من الناس؛ عمن عرَّفتهم بها وما كانوا يعرفونها، وعمن حببتها إليهم وكانوا من قبلُ يكرهونها، وعمن أعنتهم عليها بشيطانك.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً عن فتنتك أنت نفسِك بها، وعن سعيك الحثيث إلى مقارفتها، وعن تسويغ هواك ما قدمت يداك، وعن رضاك بها واطمئنانك إليها، وعما بين ذلك.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً بهذا جميعًا وبما فاتك سواه؛ سأظل أحدثك عن رحمة الله التي وسعت كل شيءٍ، ومهما بلغت ذنوبك بالعَرض قُرابَ الأرض وبالطُّول عنان السماء فإنها شيءٌ، وقد وسعت رحمة الله كل شيءٍ؛ حتى أن شيخ الجاهلية إبليس -لعنه الله- يطمع في الدخول فيها يوم القيامة، وأوسع من ذلك وأوسع.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً بهذا جميعًا وبما فاتك سواه؛ سأظل أحدثك عن مغفرة الله التي شملت كفر من تاب من الكافرين، وضلال من تاب من الضالين، وظلم من تاب من الظالمين، وفسق من تاب من الفاسقين؛ حتى جاء الله بهم -غنيًّا عن عذابهم- وجعلهم أولياء له ربانيين.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً بهذا جميعًا وبما فاتك سواه؛ سأظل أحدثك عن قدرة الله على كل شيءٍ، ومهما جلَّت آثامك كيفًا وجمَّت عددًا فإنها شيءٌ، وقد غلبت قدرة الله كل شيءٍ، وإني سمعت الله -تباركت رحمته- يقول: “من علم منكم أني ذو قدرةٍ على مغفرة ‍الذنوب؛ غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئًا”.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً بهذا جميعًا وبما فاتك سواه؛ سأظل أحدثك عن عقيدةٍ لا ظن فيها؛ ليس بينك وبين توبة الله عليك من كل ما قارفت من الخطايا؛ إلا لحظة صدقٍ في ذلٍّ في افتقارٍ تهتف فيها بسيد الاستغفار؛ “اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي، إنه لا يغفر ‍الذنوب إلا أنت”، فإذا اطلع الله على قلبك فوجد هذه العزمة على محبته وخوفه ورجائه؛ حرَّك من نفسك ما جَمَدَ، وأنعش من روحك ما خَمَدَ، وبعث من قلبك ما هَمَدَ، وبدَّل الخطايا عطايا.

حدث نفسك وحدثني وحدث العالمين مليون مرةً بهذا جميعًا وبما فاتك سواه؛ سأظل أحدثك بحق اليقين؛ نداءِ التواب لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه؛ “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”؛ كذب ظنك وصدق وعد الله.

كم يَحضر عقلي ذِكرُ سيدِنا

كم يَحضر عقلي ذِكرُ سيدِنا الشيخ صلاح أبو إسماعيل رحمه الله، ومولانا حازمٍ ولدِه نجَّاه الله؛ في ظلال هذه الآية العظيمة من كتاب الله: “وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا”!

وجهٌ صحيحٌ في تأويلها؛ أن من حاذَر السوء على ذريته من بعده؛ فليلزم التقوى بعامَّةٍ، وليتحرَّ قول الحق بخاصَّةٍ؛ فإن فعل كفاه الله أمورهم من بعده ثوابًا.

لعل ما غلب على الشيخ الصالح صلاح أبو إسماعيل؛ من تقوى الله التي أظهر لعباده في جمهرة أقواله وأفعاله وأحواله، ثم ما كان -قبل موته- من شرف القيام لله في الدين بالحق وجلال الشهادة في الأبرار بالقسط في قضية مقتل السادات ثأر الجبار منه؛ تلك الشهادة التي طيَّرها الرب الشكور كلَّ مَطيرٍ.

لعل تقوى الشيخ مولاه، ثم شهادته الصادعة قبل لُقياه؛ أعجبتا الله في عليائه.. فوق عرشه وسمائه، فبارك بهما على ولده العبد الرباني حازمٍ، فقضى بمِنَّته عليه ما قضى من الخير الوفير للإسلام وأهله في مدةٍ وجيزةٍ؛ دعوةً بفصل الخطاب إلى عقائده، وحِسبةً بالقصد والسواء في شرائعه، ومجادلةً عن محكَماته بالتي هي أحسن؛ حتى أوطأه ربُّه بالحق مواطئَ أغاظت المرتدين، وأَعجَب بروائع بدائع مفاصلته قلوب الموحدين؛ وذلكم القدوس إذا بارك!

“وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا”؛ اللهم اقسِم لنا من تقواك وسديد القول ما تعصم به ذريتنا بعدنا من الفتن والغواية. ذاك حقُّ التأمين عليهم لو كنا مستبصرين.

شِعرَ أمير المؤمنين علي بن

شِعرَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- راسخًا في قلبي، بصوت رئيس الصادعين بالحق عبد الحميد كشك -رفع الله درجته- شامخًا في سمعي؛ أُذكِّر نفسي وإياكم بين يدَي هذا المنشور؛ عسى الله أن يبارك بوَلِيَّيْه عليه.

لا تخضعنَّ لمخلوقٍ على طمعٍ ** فإنَّ ذلكَ نقصٌ منكَ في الدينِ

لنْ يقدرَ العبدُ أنْ يعطيكَ خردلةً ** إلا بإذنِ الذي سواكَ منْ طينِ

فلا تصاحبْ غنيًّا تستعزُّ بهِ ** وكنْ عفيفًا وعظِّمْ حُرمةَ الدينِ

واسترزقِ اللهَ مما في خزائنهِ ** فإنَّ رزقكَ بينَ الكافِ والنونِ

واستغنِ باللهِ عنْ دنيا الملوكِ كما اسْـ ** ـتغنى الملوكُ بدنياهمْ عنِ الدينِ

إنَّ الذي أنتَ ترجوهُ وتأملهُ ** منَ البريةِ مسكينُ ابنُ مسكينِ

لئن كنت شامتًا بمسلمٍ في بلاءٍ ابتُلي به وألوذ بمَنَعَة الله رجلًا أن أكون؛ فلا أشمت إلا بمسلمٍ! يُغري ظالمه بظلمه بقبيح الصبر عليه طوعًا واختيارًا، لا أشفق عليه شاكيًا ولا أرثي له باكيًا ما دام هو المُمْكِن للطغيان من نفسه، كأنما يحلف على ظالمه -بتعيس التطامُن إليه وبئيس التحاقُر لديه- أن يُثْخِن فيه بما شاء من جَوره، متعللًا كلما لِيمَ في ذلك بشديد حاجته إلى عملٍ وعظيم فاقته إلى مالٍ؛ أولئك أكاد أدعو الله عليهم أن يسلِّط عليهم ظالميهم مزيدًا، وإني لأُسَبِّح آيةً من قرآنٍ وأُقَدِّسُ حديثًا من سنةٍ أن أُذكِّرهم بهما؛ لكني أعظُهم -بما هم فيه غارقون من سُفلية الجاهلية الآخرة- بأبياتٍ عُلويةٍ لثلاثةٍ من شعراء الجاهلية الأولى.

قال الأول:

أصونُ عِرضي بمالي لا أُدنِّسهُ ** لا باركَ اللهُ بعدَ العِرضِ في المالِ

أحتالُ للمالِ إنْ أَوْدَى فأكسبهُ ** ولستُ للعِرضِ إنْ أَوْدَى بمُحتالِ

وقال الثاني:

لا تسقني ماءَ الحياةِ بذلَّةٍ ** بلْ فاسقني بالعزِّ كأسَ الحنظلِ

ماءُ الحياةِ بذلَّةٍ كجهنمٍ ** وجهنمٌ بالعزِّ أطيبُ منزلِ

وقال الثالث:

سأتركُ ماءكمْ منْ غيرِ وِرْدٍ ** وذاكَ لكثرةِ الوُرَّادِ فيهِ

إذا سقطَ الذبابُ على طعامٍ ** رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ

وتجتنبُ الأُسودُ وُرودَ ماءٍ ** إذا كانَ الكلابُ ولغنَ فيهِ

ويرتجعُ الكريمُ خَميصَ بطنٍ ** ولا يرضى مساهمةَ السفيهِ

أولى بك العزةُ فأولى، ثم أولى لك فأولى؛ “فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ”.

منشورٌ ينفعك أوله لعمومه، ولا

منشورٌ ينفعك أوله لعمومه، ولا يضرك آخره لخصوصه؛ فخذ ودَع.

من فرَّط في برائه فجعل أصله في طائفةٍ من المسلمين يبغضهم ويعاديهم؛ عاقبه الله في ولائه فجعل أصله في الكافرين يحبهم ويواليهم، ومن فرَّط في ولائه فجعل أصله في طائفةٍ من الكافرين يحبهم ويواليهم؛ عاقبه الله في برائه فجعل أصله في المسلمين يبغضهم ويعاديهم. سنةَ الله التي أرانا في المسطور والمنظور والمأثور، لا تبديل لسنة الله أبدًا، ونحن عليها من الشاهدين.

يا وُعاة المُراد؛ اشهدوا معي أدركتُ هذا بينكم أو لم أدركه؛ لئن لم ينته المسعور الحنبلي وطُحْلُب الجفري عن معاداة من لا يستحقون هذه العداوة من المسلمين -إلا قيامًا بالعلم والعدل فيهم كسائر الناس- ليعاقبنهم الديان الحسيب بموالاة الطواغيت كِفاحًا بَواحًا؛ كما عاقب صاحبيهما الحنفي! إذ فضح استعداءه الجاهلية على من سماهم الإرهابيين وقتله الله مخنثًا كذوبًا.

دينٌ لا أكثر منه جراحًا، والمسلمون مصدَّعون، والقُساة لا يرحمون.

قال: لئن تمذهبتُ فلعلِّي أن

قال: لئن تمذهبتُ فلعلِّي أن أكون كفلانٍ من الناس هنا.. كان مسدِّدًا مقارِبًا فضلَّ عن سواء السبيل؛ قلت: لا يُزهِّدنَّك في التمذهب الذي هو سبيل متفقِّهة الإسلام قاطبةً مثلُ هذا المجنون المفتون، زاده الله -بدورانه حول نفسه دورانَ الحُكم على العلة- فتنةً وجنونًا. ثم إنه لم يُضلَّه عن سواء السبيل تمذهبه فقد كان أيام ستر ربك الجميل كذلك؛ لكن الله إذا هان عليه عبدٌ شغله بنفسه، فإذا عظُم هوانه عليه هوَّن عليه الإسلام فتعلَّل به لعِلله، ودونك -إن تكُ صادقَ الهم سامقَ الهمة- فلانًا وفلانًا من الحنفية، وأمثالهما من المالكية، وأشباههما من الشافعية، ونظراءهما من الحنابلة، ممن بسط الرب الأكرم لهم في العلم والأدب جميعًا، فأحسنوا به في الإسلام وفي أهله صنيعًا، سلفيين -يُعلِّمونك الفقه- أو أشعريين؛ فإن الفتنة ليست في التمشعر مجرَّدًا وإن كان أهله به على بدَعٍ عظيمةٍ، ولم يزل من الأشاعرة أئمةٌ يهدون بالحق في أبوابٍ من الإسلام وفيرةٍ وبه يعدلون؛ إنما الفتنة أن يطمس الله بصيرة إنسانٍ وبصره فيرى طائفةً من المسلمين أهل السنة أعداءً له يجاهدهم الليل والنهار، ويُفني نفسه وأنفاسه في تصريف عداوة المؤمنين وبغضائهم لهم. واغوثاه رباه؛ لا تشغلنا بأنفسنا بآثامٍ استحققنا بها ذلك حتى نلقاك في المرحومين، وأعذنا أن نُلبس أسقام قلوبنا الدميمة أثواب الإسلام البهية فنذل ونخزى؛ لا إله إلا أنت البر الرحيم.

يا حبيبي؛ الخطايا لا تليق

يا حبيبي؛ الخطايا لا تليق بك، السيئات لا تنبغي لك.

لئن لم تجتنب مغاضب الله لأن اجتنابها حقٌّ له؛ فاجتنبها لأن اجتنابها حقٌّ لك.

وقل لمعصيةٍ اقترفتها مغلوبًا: ستظلين أجنبيةً عني.

تدبر مقالات الأنبياء وأتباعهم الأولياء، ثم قل قولهم: ما كان لي عصيان ربي.

محمدٌ صلى الله عليه وسلم: “مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي”.

عيسى صلى الله عليه وسلم: “مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍَ”.

يوسف صلى الله عليه وسلم: “مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ”.

شعيبٌ -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون به: “وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَا”.

أصحاب محمدٍ صلى الله عليه ورضي عنهم: “مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا”.

المعبودات من دون الله على غير رضاها يوم القيامة: “مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ”.

الله -جلَّ كبرياؤه- عن أنبيائه جميعًا: “وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ”.

الله -عزَّ ثناؤه- عن رسوله محمدٍ -صلى عليه وسلم- والذين هم به مؤمنون: “مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوآ أُوْلِي قُرْبَى”.

الله -تقدَّست أسماؤه- عن أصحاب مجتباه صلى عليه ورضي عنهم: “مَا كَانَ لِأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ”.

الله -تباركت آلاؤه- عن المؤمنين به حقًّا: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً”.

يا هذا؛ مهما حدَّث الشيطانُ نفسَك: أنتِ للآثام أهلٌ؛ فحدِّثها حديث الرحمن نحوَ ما ألهمه أنبياءه وأصفياءه: ما كان لي.. ما ينبغي لي.. ليست السيئات مني مهما قارفت منها.. لم ينشرح لها صدري.. فإن كان فلم يطمئن بها قبلي.. فإن كان فلم يسكن إليها عقلي.. أنا لطاعة ربي وطاعة ربي لي.. لها خُلقتُ ولي شُرعتْ.. لئن بعُدتُ لأقتربن.. ولئن فرَّطتُ لأستدركن.. قد بقي ربي ربًّا.

في ظلال اليقينية الإسلامية: “شَرْطا

في ظلال اليقينية الإسلامية: “شَرْطا قبول العمل من الله عزَّ ثناؤه؛ الإخلاص لوجهه في الباطن، والمتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في الظاهر”؛ سألت مرةً شيخنا رفاعي سرور -رفعه الله مكانًا عليًّا، وسرَّه سرورًا رَضِيًّا- وكنت بداره: هل تتصور اجتماع إخلاصٍ تامٍّ في القلب وخذلانٍ تامٍّ في العمل؟ قال: لا.

حملني على سؤال الشيخ -وقتئذٍ- ما شهدته كثيرًا من جماهير أتباع المبتدعة الضُّلال من اعتقادهم إخلاص رؤوسهم ومتبوعيهم لله فيما هم فيه مبتدعون، وليست بدَع القوم أعنيهم من الذي يختلف فيه الربانيون اختلافًا سائغًا؛ بل هي البدَع الضلالات المحدَثات التي ينكرها عامة السلف لو كانوا لها من الشاهدين.

إن الذين تتحرى قلوبهم بديع الإخلاص لوجه ربهم؛ هم الأقربون إلى توفيقه في أعمالهم وتسديده، الأبعدون عن خذلانه فيها غاية الخذلان، فإن فاتهم بعض التوفيق في بعض أمرهم -بجهلٍ أو ظلمٍ- لم يخذلهم الله في سائره، فأما الغارقة أعمالهم في الخذلان؛ فمجروحةٌ قُصُودهم مقروحةٌ نياتهم. احفظ اللهم أعمالنا على الإخلاص والإحسان حفيظًا كريمًا، واغفر لنا ما دون ذلك غفورًا رحيمًا.