يا عباد الله ووقاكم الله

يا عباد الله ووقاكم الله السوء والفتن جميعًا؛ الشاب الذي يُوقف من الشرطة في مصر المخطوفة ببعض المخدرات معه؛ لماذا يحاسبه البُعداء البُغضاء عليها!

قاتل الله المخدرات وأهلها، لا نرى لواحدٍ منهم عذرًا في شيءٍ منها طرفة عينٍ ما بقي ميزان الله موضوعًا؛ لكن هنا أسئلةٌ مفروضةٌ عقلًا فشرعًا؛ من يغطِّي أم الدنيا من الإسكندرية إلى أسوان بالمخدرات غير النظام! من يتحكم في نوعها وكيفها وكمِّها ومواقيتها الزمانية والمكانية غير النظام! من يدير دولتها إدارةً تسعى للهيمنة عليها هيمنةً تامةً -وإن للمخدرات في بلادنا دولةً؛ عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها- غير النظام! إذا كانت الخمر في شريعة الرب -عزَّ جلاله- أمَّ المخدرات، وكان مربَّع الخمر في مصر وقفًا كله على النظام (زراعةً وصناعةً وتجارةً واستيرادًا)؛ فلماذا تُمنع المخدرات -ولو في الصورة- هذا المنع، وتُرخَّص الخمور أيسر ما يكون الترخيص وتزداد كل يومٍ دكاكينها الملعونة! من يغطِّي سجون مصر التي يحاسَب فيها الصغار على المخدرات بالمخدرات بما لا يخفى على الصُمِّ البُكْم العِميان!

الحقَّ أقول لكم وإنكم به موقنون: محاسبة صغار أصحاب المخدرات مصدرٌ عظيمٌ من مصادر مال النظام الحرام لا غنى له عنه؛ من أول الرشوة التي يلهطها الضابط بنفسه أو بوكالة أمينه من الشاب المُوقَف، إلى عقوبات النيابات والمحاكم التي لا تنتهي حتى تبدأ تارةً أخرى، مرورًا كل دورةٍ بما ينالهم من أهليهم من فوق الترابيزات ومن تحتها من مغصوب الأموال، ولذلك يحاسَبون.

تُناول الشرطة الكبارَ المخدرات بأيمانهم، ثم تتناولها من الصغار بشمائلهم.

ما بقي حكم الجاهلية بطاغوتيته في الدين وطغيانه في الدنيا قائمًا؛ فلا بد لبقائه من أنواع المخدرات للشعوب جميعًا؛ المعنوية والمادية، لكل مواطنٍ ما يخدره.

اللهم إني لا أسألك هنا لعن الشرطة؛ بل أسألك لعن المدافعين عنها لعنًا كبيرًا.

أيها المحزونون بإعراض الناس عنكم

أيها المحزونون بإعراض الناس عنكم إذ تُمَسِّكون بالإسلام؛ هلمُّوا إلى هذه:

“فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”.

هذه أربعٌ أمَر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقولها؛ إذا انصرف عن شِرعته المنصرفون، وأعرض عن منهاجه المعرضون، لا أنْجَعَ منها دواءً؛ جلَّت كلمات الله.

ما علاقة الحَسْبَلَة والتهليل والتوكل والعرش؛ بالتولي والإعراض!

أستعين بك اللهم سيدي ومولاي الأكبر الأكرم على الجواب:

“حَسْبِيَ اللَّهُ”؛ إن توليتم عني؛ فإن الله هو كافيَّ وحدَه؛ يكفيني بذاته وأسمائه وصفاته وأقواله وأفعاله، يكفيني في نفسي وفي دعوتي وفيمن آمن بي، يصدِّقني فلا يضرني تكذيب المكذبين، وينصرني فلا يحزنني خذلان الخاذلين. “حَسْبِيَ اللَّهُ”؛ كفى بربي وليًّا وكفى بربي نصيرًا. “حَسْبِيَ اللَّهُ”؛ من وجد الله فماذا فقد!

“لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ”؛ إن توليتم عني فكفرتم بالله؛ فإن الله هو الذي “لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ” في نفسه، و”لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ” في خلقه وكونه، و”لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ” بأمره وشرعه، و”لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ” عقيدة المؤمنين به من البرايا كلها، و”لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ” عقيدتي كذلك؛ فما تكونون أنتم إذ كفرتم بالله!

“عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ”؛ إني لم أكن معتمدًا عليكم في شيءٍ من أمري قطُّ، بل كان على الله اعتمادي، وإليه تفويضي، وبه ثقتي، وفيه يقيني، ومنه طُمأنينتي. “عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ”؛ ما كنت قبل تولِّيكم عني مُعَوِّلًا على حَولكم وقوتكم؛ فأنَّى أعبأ بكم اليوم أو أبالي! “عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ”؛ في البدء والمنتهى، كفى بالله وكيلًا.

“وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”؛ إن توليتم عني أيها الفقراء الحُقَراء؛ فإن معي رب العرش، ومن أنتم إذا ذُكر العرش! إذا كنتم لا تساوون في خلق السماوات والأرض شيئًا: “لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ”، ولم تكن السماوات والأرض في جنب الكرسي إلا كحلقةٍ في فلاةٍ: “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ”، ولم يكن الكرسي في جنب العرش إلا كحلقة في فلاةٍ؛ فمن أنتم في جنب العرش!

“وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”؛ إن توليتم عني أيها السافلون في حضيض الأرض ودنايا الدنيا؛ فإن معي رب العرش، وإن العرش هو قُبَّة العالم، وسقف الخلائق، فكلهم تحته مقهورون، حتى إن الشمس -على عِظم خَلقها وعُلوِّ موضعها- لتستقر تحته وتسجد، عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: “وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا”، قال: “مستقرها تحت العرش”، والفردوس الأعلى -الذي هو سماء الجنة- سقفه العرش؛ فكيف عُلوُّ من على العرش استوى!

“وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”؛ إن توليتم عني فكنتم بذلك من المتأخرين؛ فإن معي رب العرش، وإن العرش أول المخلوقات، فلا يضرني مع أوَّليته تأخرُّكم؛ كيف بأوَّلية رب العرش نفسه في أمري!

“وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”؛ إن توليتم عني أيها الخِفاف الفارغون؛ فإن معي رب العرش، وإن العرش أثقل المخلوقات، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عند زوجِه جُويرية -رضي الله عنها- بُكرةً حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، فقال: “ما زلتِ على الحال التي فارقتكِ عليها!”، قالت: نعم، قال: “لقد قلت بعدكِ أربع كلماتٍ، ثلاث مراتٍ، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن؛ سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِِنَة عرشه، ومداد كلماته”، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فهذا يبين أن زِنَة العرش أثقل الأوزان”؛ فبأي شيءٍ بعد العرش تُثْقِلونني شيئًا!

“وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”؛ إن توليتم عني فلم تؤمنوا بي؛ فإن معي رب العرش، وإن العرش تحمله الملائكة وتحفُّه مِن حوله، ولا أعظم من الملائكة في المؤمنين خَلقًا وإيمانًا، قال الله في إيمانهم: “الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا”، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم- في صفة خَلق بعضهم: “أُذِن لي أن أحدِّث عن ملَكٍ من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عامٍ”؛ فكيف بهم جميعًا! أم كيف بربي الأعظم بارئ العرش وملائكته!

“وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”؛ إن توليتم عني فكان تولِّيكم زوالًا؛ فإن معي رب العرش، وإن العرش لا يزول، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأما العرش؛ فلم يكن داخلًا فيما خلقه الله في الأيام الستة، ولا يشقُّه، ولا يفطره، بل الأحاديث المشهورة دلَّت على ما دلَّ عليه القرآن من بقاء العرش”، وإذا كان العرش المخلوق لا يزول بمشيئة الله؛ فأنَّى تزول معية الله! لا يضرني تولِّيكم شيئًا ما بقي الله.

سبحان الحي الذي لا يموت

سبحان الحي الذي لا يموت وتبارك!

لا أكثر من أخبار الموت في صفحتي هذه الأيام.

اليوم نقرأ عنهم، وعمَّا قليلٍ يٌقرأ عنا؛ فلا إله إلا الله، واغوثاه ربَّاه.

حقٌّ علي الدعاء لموتاكم أجمعين، وليتني كنت على مواساة كلٍّ بنفسي قادرًا.

اللهم ارحم موتى أحبتي هنا وموتانا أجمعين؛ بأنك أنت الرحمن الرحيم خير الراحمين وأرحمهم ذو الرحمة الواسعة كلَّ شيءٍ السابقةِ غضبَه، واغفر لهم بأنك أنت الغافر الغفور الغفار خير الغافرين، واعف عنهم بأنك أنت العفوُّ الذي يحب العفو، ونوِّر قبورهم بأنك أنت نور السماوات والأرض حجابُك النور، وافتح لهم إلى الجنة أبوابًا بأنك أنت الفتاح ما تفتح من رحمةٍ فلا مُمسك لها، واشكر لهم يسير العمل بأنت الشاكر الشكور، واربط على قلوب أهليهم ومحبِّيهم ليكونوا من المؤمنين، واجمعهم بهم وإيانا بمن نحب في جنات النعيم؛ لا إله إلا أنت.

اللهم إني أختص بالضراعة إليك عبدَك الشيخَ الكريمَ موسى القرني قتيلَ طواغيت السعودية -لعنتَهم وأمكنتَ منهم- في محبسه بعد خمسة عشر عامًا، وعبدَك الشيخَ محمد حافظ المصريَّ مولدًا الشاميَّ مهاجَرًا المجاهدَ في سبيلك ميِّتَ كورونا؛ فاستجب فيهما دعائي ودعاء كل داعٍ لهما بغفرانك ورضوانك، وتوفَّنا برحمتك على الإسلام أجمعين، غير خزايا -ربَّنا الحفيظَ- ولا مفتونين.

غيرَ متفكِّهٍ كتبت هذه المَقامة،

غيرَ متفكِّهٍ كتبت هذه المَقامة، غيرُ ملومٍ من رآها فاستطالها؛ امض عنها بسلامٍ وأنت حبيبي.

هو مُسْنَدٌ في القراءات العشرة الكبرى، قد عزم يوم طَرَقَها أن يُحيط بها خُبْرًا، فحفظ لها متونًا وتحريراتٍ، وأتقن بها شروحًا وتقريراتٍ، إسناده فيها أعلى الأسانيد، وتجويده إياها أحكمُ التجويد، قد تلقَّاها من مشايخَ مشاهيرَ عِدَّةٍ، وصَبَر نفسَه في حَذْقِها أطولَ مدةٍ؛ حتى صار يشارُ إليه فيها بالبَنان، ويقصده طلابها النُّجباء من كل مكانٍ؛ لكنَّ شيوخه الدراويش لم يُعرِّفوه الجاهلية التي ما نزل القرآن إلا لحربها، ولا الطواغيتَ المانعين مساجدَ الله أن يَحكم فيها القرآنُ سُعاةً في خرابها، إذا رأيته يُحَرِّر قراءتها ويُحَبِّر تلاوتها أتبعتَ بصرَك السماع، فإذا تحقَّقتَ جهلَه بحقائق القرآن الكونية والشرعية توليتَ عنه بإسراعٍ، لا تعزُب عنه قراءةٌ عَشْريةٌ في النساء والمائدة والأنعام؛ لكنه جهولٌ بأنها معاقد الحاكمية والحُكم والأحكام، قد أحصى ما في “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ” من رواياتٍ متواترةٍ، وغفل عما فيها من فرائض التوحيد الفارقة ونواقضه الظاهرة، وكم تبصَّر ما في “أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ” من طُرُقٍ صحيحةٍ! وتعامى عما فيها من براهين تكفير المبدِّلين الشرائعَ الصريحة! غيرُ سائغٍ نظرًا فيما درَّسوه وضعُ وجهٍ مكانَ وجهٍ في بعض آيةٍ؛ لكنْ سائغٌ عملًا إحلالُ دينٍ جاهليٍّ مكانَ دين الله أجمعَ بلا نهايةٍ، يسمع مُلَفِّقًا بين القراءات في آيةٍ واحدةٍ فتثور منه الخوامد، ثم يرى المبدِّلين عقائدَ الإسلام الطامسين شرائعَه فتراه الجامد الهامد، قد ذاكر طالبًا صغيرًا ألفَ باءَ هذا العلم الشريف فميَّز بين الأصول والفُروش، واليومَ شيخًا كبيرًا لا يميِّز في المعركة بين المَطاهر والحُشوش، لو خطر على بال الشاطبي وابن الجَزَري أن مثله يحفظ مُتونهم ما نظموها؛ بما وَرِث عن أشياخه الدراويش التفريقَ بين القرآن فمبانيَه أتقنوها ومعانيَه ضيعوها، ألا ليت شيوخه إذ عرَّفوه بالإمام “قنبل” راوي ابن كثيرٍ المكي عرَّفوه ضرورة القنابل، وليتهم حين فرَّقوا له بين خَلَفٍ راويًا وإيَّاه قارئًا فرَّقوا له بين الحابل والنابل، يضحك مِلْءَ شِدْقَيه إذا خلط خالطٌ بين رَاوِيَيْ أبي عمرٍو البصري “الدُّوري والسُّوسي”، وتضحك منه الثكالى وهو يؤصِّل بالأدلة لحاكمية خنثى الطواغيت السيسي، ألا إنه لو لقي الله يَتَتَعْتَعُ في القرآن وقد جاهد في سبيله وإنْ باللسان؛ لكان خيرًا له من أن يلقاه ماهرًا به ضالًّا عن غاية إنزاله بالإثم والعدوان، لقد رضي رسولُ الله من رجلٍ عَجْزَه عن القراءة في الصلاة جميعًا؛ لكنه إذا لقي يوم الحشر قارئًا بالعشر مواليًا عدوَّه سَخط عليه صنيعًا، لعل المكاثر بالقراءات لم يَبلغه “أكثرُ منافقي أمتي قرَّاؤها” وعيدُ الرسول المَهيب، فلم ترعبه حروفه كما أرعبت السابقين الصِّدِّيقين حتى باتوا بها في نحيبٍ، ألم يأت البعيدَ نبأُ “أولُ من تُسَعَّر بهم النارُ” وأولهم قارئٌ للقرآن! وأي شيءٍ أوجبُ لعذاب صاحب القرآن من موالاة أعداء الرحمن! حسبُنا “يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا” من كتاب الله كله لنفقه الصراع؛ كفى بإظهارنا القرآنَ جُرمًا يُسْحِتُنا به أعداؤه بكل مستطاعٍ؛ يا هذا إنك إن تركتهم لا يتركونك؛ يعيدونك في ملتهم إذا ظهروا عليك أو يقتلونك.

هذه مقامةٌ لا تُزَهِّدك في هذا العلم الجليل، ولا تُرَغِّبك عن أهله السادة الأكابر؛ لكنها تُخَوِّفك عُرَى القرآن الثلاثة هذه؛ (حاكمية القرآن، والموالاة والمعاداة به، والجهاد في سبيله)؛ أن تُنْقَضَ من قِبَلِك وأنت له طالبٌ، وبقراءاته ورواياته وطُرُقه ووجوهه مكاثرٌ؛ إنها بإيجازٍ تقول: “خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ”.

يا كلأكم الرحمن؛ مصابةٌ عينا

يا كلأكم الرحمن؛ مصابةٌ عينا أخيكم بالجُلُوكُوما (المياه الزرقاء)، فضغطُهما مرتفعٌ عادةً وأعصابُهما معتلَّةٌ، مع حساسيةٍ مزمنةٍ فيهما، يزيد ارتفاع ضغطهما إصابتي بالضغط في الدَّم، مع داء السُّكَّري الودود وأسقامٍ صديقةٍ أخرى.

ليس هذا من البلاء في شيءٍ بجزيل حمد الله وجميل الثناء عليه، وفي الناس من صنوف المكاره وأنواع النوائب التي أشهدُها كل ساعةٍ ما يمنع خُطُور هذا الحديث على قلبي طرفة عينٍ بعزةٍ من الله. أعوذ بك اللهم من قَلْب السرَّاءِ ضرَّاءَ أُوهم بذلك نفسي كُنُودًا، أو أن أُشْعِر عبادك بالزَّيف أني ذو إعسارٍ وعَنَتٍ وقد بسطت علي فضلك وفيرًا، أو أن أُبَدِّل سابغ أنعُمك كفرًا سُنَّةَ أهلِ البوار.

إنما أكتب هذا ليغفر لي الأحبة ضعف اعتنائي بالماسنجر عما كنت عليه قبل ذلك معهم؛ فإني الآن لا أكاد أنظر فيه، خبيرًا ربي ما بنفسي من أليم الاغتمام لعجزي هذا. فإن غفرتم لصاحبكم فأنتم للغفران أهلٌ، وإلا فحقُّكم ومُحِقُّون.

أيها الداخلون في الإسلام كافةً؛

أيها الداخلون في الإسلام كافةً؛ صباحكم وحيٌ وسيفٌ، لا يفرِّق بينهما إلا منافقٌ.

“بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ”؛ كذلك مضت سنة الله في الحق ألا يفعل في الباطل أفعاله إلا مقذوفًا به، ولا يزهق الباطل إلا مرميًّا بالحق في دماغه؛ لا تبديل لكلمات الله.

“وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”؛ قالت طائفةٌ: الحق القرآن، وقالت أخرى: الحق الجهاد؛ لأنهم كانوا أهل قرآنٍ وجهادٍ جميعًا فلم يفرقوا بينهما، وكما جمع الله بين إزهاق الباطل وتنزيل القرآن علمًا؛ جمعوا هم بينهما عملًا.

إن الذين يدعونكم اليوم إلى دينٍ لا سيف له؛ كالذين تمنوا بالأمس قرآنًا لا يحضُّ على قتالٍ؛ “وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ”؛ هؤلاء أبناء أولئك البررة؛ لُعنوا أجمعون.

تالله ما كانت عقيدة (الوحي والسيف) إلا فطرةً يُستدلُّ بها لا يُستدلُّ لها؛ حتى خَسفتْ خلائق الجُبن بحُثالةٍ من عبيد الأرض فباتوا يتطلبون لها البراهين العقلية والآيات الشرعية؛ أُفٍّ وتُفٍّ.

ليس بين الإيمان بالوحي والكفر بالسيف إلا النفاق، واقرؤوا -مأمورين- قول ربكم: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”؛ جعل -تعالى- بين إيمانهم وبين جهادهم هذه الصفة السالبة ” ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا”؛ لأن الشك في الوحي هو المُقعد عن الجهاد، كما حكى الله عن المنافقين الأوائل؛ “إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ”، فلا ينفي الشك عن الإيمان ويُثْبت اليقين فيه إلا الجهاد.

“وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا”؛ قال ابن تيمية رحمه الله: “قِوام الدين كتابٌ يهدي، وسيفٌ ينصر”.

“لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ”؛ قال الغزالي رحمه الله: “إن الله لما علم أن في الناس من لا ينفعه الكتاب الذي أنزله الله هدًى للناس؛ أنزل مع الكتاب الحديد فيه بأسٌ شديدٌ؛ لعلمه أنه لا يُخرج المِراء من أدمغة أهل اللِّجاج إلا الحديد”؛ التوحيد والحديد؛ عقيدةٌ أطبق السالفون عليها، ثم خلَفتْ من بعدهم خُلوفٌ عِزِينَ.

“وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ”؛ لما جمع الله لنبيه داود -عليه صلاتُه- بينهما؛ كان من شأنه ما كان.

“هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ”؛ فإن تسَل عن ذلك الظهور الذي هو غاية إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن جوابه سُوَر هذه الآية الثلاثة؛ التوبة والفتح والصف؛ فأما التوبة فقد نزلت في الذين خانوا الوحي والسيف، وأما الفتح والصف فحسبك من اسمَيهما ما أراد الله بالوحي والسيف شرعًا، وما حقَّت به سننه الكونية فيهما قدَرًا.

نبيٌّ أتانا بعدَ يأسٍ وفترةٍ ** منَ الرسلِ والأوثانُ في الأرضِ تُعبدُ

فأمسى سراجًا مستنيرًا وهاديًا ** يلوحُ كما لاحَ الصَّقيلُ المهندُ

يُشبِّهه شاعره الأجلُّ حسان بن ثابتٍ -رضي الله عنه- بالسيف؛ إذ يحمده بالهدى ويمدحه.

“وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ “؛ تحسبون إحقاق حقكم وقطع دابر عدوكم؛ يكون بوحي ربكم في غير أسباب عزكم! فلقد أراد الله شريعةً تُصان بالسيف، وسيفًا يُزان بالشريعة، لا تفريق بينهما -بلا مساواةٍ- في الأذهان ولا في العِيان.

“إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ”؛ ما كان تثبيت المؤمنين في الجهاد إلا وحيًا يُوحى، وما كان وحي الله ليذَر المؤمنين يقاتَلون بلا تأسيسٍ لعقائد القتال وشرائعه وأخلاقه.

قال الرافعي رحمه الله: “إن للسيوف في الإسلام أخلاقًا”؛ قلت: مبصرةٌ سيوفُنا لا تَخبط عشواء، صارمةٌ تحسم العلل والأدواء، حكيمةٌ هي في الابتداء والانتهاء.

يا صاحبَ الحقِّ الكبيرِ عرفتَهُ ** وبسطتَهُ في حكمةٍ وأناةِ

وضربتَهُ مثلًا لكلِّ مكابرٍ ** لا يستوي حقٌّ بغيرِ حُماةِ

“وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ”؛ قضى الله ألا تقوم (لا إله إلا الله) في الأرض تامةً؛ إلا بجهاد أهلها في سبيلها كاملًا غيرَ منقوصٍ.

والرأيُ لمْ يُنْضَ المهندُ دونهُ ** كالسيفِ لمْ تضربْ بهِ الآراءُ

الحربُ في حقٍّ لديكَ شريعةٌ ** ومنَ السمومِ الناقعاتِ دواءُ

قد جمع الله لرسله بين القوتين النظرية والعملية، فقال فيهم: “أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ”.

قال سيد قطب رحمه الله: “والشر جامحٌ والباطل مسلحٌ، وهو يبطش غير متحرجٍ، ويضرب غير متورعٍ، ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له؛ فلا بد للإيمان والخير والحق من قوةٍ تحميها من البطش، وتقيها من الفتنة، وتحرسها من الأشواك والسموم، ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلًا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل؛ اعتمادًا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفِطَر وعمق الخير في القلوب؛ فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتُزيغ الفِطَر، وللصبر حدٌّ وللاحتمال أمدٌ، وللطاقة البشرية مدًى تنتهي إليه، والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم، ومن ثَم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة؛ إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيؤون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد؛ وعندئذٍ أذن لهم في القتال لرد العدوان”.

قالوا غزوتَ ورسلُ اللهِ ما بُعثوا ** لقتلِ نفسٍ ولا جاؤوا لسفكِ دمِ

جهلٌ وتضليلُ أحلامٍ وسفسطةٌ ** فتحتَ بالسيفِ بعدَ الفتحِ بالقلمِ

قال رفاعي سرور رحمه الله: “اعتبار القوة وسيلةً؛ ليس فيه تجاوزٌ على وسيلة الإقناع بالكلمة”.

قال محمد رشيد رضا رحمه الله: “كن قويًّا بالحق؛ يعرف لك حقَّك كلُّ أحدٍ”.

إن الذين قالوا لموسى وقعدوا: “فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَآ”؛ خيرٌ ممن جاء بعدهم فقعد قعودهم وضل عن القتال سبيلًا؛ إنهم -على سوء أدبهم مع الله ورسوله- كانوا بُصراء بالمخرج، لم يُلبسوا جبنهم فلسفةً.

ما كان دواء داء طغيان الجبارين في الأرض قطُّ؛ إلا الجهاد، ولا يكون إلى يوم القيامة إلا كذلك، سنة الله في الحرب التي لا تتبدل ولا تتحول، ألا من عجز عن الجهاد عملًا؛ فلا يَضل ويُضل عنه نظرًا.

والحقُّ ليسَ وإنْ علا بمؤيَّدٍ ** حتى يُحوِّطَ جانبَيهِ حسامُ

“وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا”؛ قال قتادة رحمه الله: “إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- علم ألا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطانٍ؛ فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله؛ فإن السلطان رحمةٌ من الله جعله بين أظهُر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعضٍ؛ فأكل شديدُهم ضعيفَهم”.

والبيتُ لا يُبتنى إلا لهُ عُمُدٌ ** ولا عمادَ إذا لمْ تُرْسَ أوتادُ

فإنْ تجمَّعَ أوتادٌ وأعمدةٌ ** وساكنٌ بلغوا الأمرَ الذي كادوا

لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سَرَاةَ لهمْ ** ولا سَرَاةَ إذا جُهَّالُهمْ سادوا

إن سورة “اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ”؛ هي سورة “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ”؛ فمن دعا إلى هذه وصد عن تلك؛ لم يكُ إلا كافرًا بهما جميعًا، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلمٌ.

قال الغزالي رحمه الله: “والمُلك والدين توأمان؛ فالدين أصلٌ، والسلطان حارسٌ، وما لا أصل له فمهدومٌ، وما لا حارس له فضائعٌ”.

وما هوَ إلا الوحيُ أوْ حدُّ مُرْهَفٍ ** تُميلُ ظُباهُ أَخْدَعَيْ كلِّ مائلِ

فهذا دواءُ الداءِ منْ كلِّ عالمٍ ** وهذا دواءُ الداءِ منْ كلِّ جاهلِ

قال علي الطنطاوي رحمه الله: “سنة الله في هذه الدنيا أن الحق إن لم تكن معه القوة؛ سطا عليه الباطل حينًا، وللباطل جولةٌ ثم يضمحل، ونحن لما تركنا سنة الله ولم نَحْمِ حقنا بقوتنا؛ كان ما كان”.

والحقُّ والسيفُ منْ طبعٍ ومنْ نسبٍ ** كلاهما يتلقَّى الخَطْبَ عُريانا

قال عبد العزيز الطريفي فك الله أسره وأمكن من الكفرة آسريه: “الحق بلا قوةٍ ضعفٌ، والقوة بلا حقٍّ ظلمٌ، وإذا اجتمع الحق والقوة تحقق العدل”.

سُقنا الأدلةَ كالصباحِ لهمْ فما ** أغنتْ عنِ الحقِّ الصُّراحِ فتيلا

منْ يستدلَّ على الحقوقِ فلنْ يرى ** مثلَ الحُسام على الحقوقِ دليلا

إِنْ صُمَّتِ الآذانُ لنْ تسمعْ سوى ** قصفِ المدافعِ منطقًا معقولا

لغةُ الخصومِ منَ الرُّجومِ حروفُها ** فليقرؤوا منها الغَداةَ فصولا

لما أبَوا أنْ يفهموا إلا بها ** رُحْنَا نرتلها لهمْ ترتيلا

أدَّتْ رسالتَها المنابرُ وانبرى ** حدُّ السلاحِ بدَورهِ ليقولا

قال عتبة بن أبي سفيان رحمه الله: “اعرفوا الحق تعرفوا السيف؛ فإنكم الحاملون له حيث وضعُه أفضل، والواصفون له حيث عملُه أعدل”.

قديمًا؛ قبل أن يفترق القرطاس والسيف؛ كانا على الحق أخوَين حميمَين، متساندَين لا متعاندَين، كان القرطاسُ صفحةَ السيف، وكان السيفُ ريشةَ القرطاس، لا يضرب السيفُ إلا بنور القرطاس، ولا يُسْطَرُ القرطاسُ إلا بظل السيف، أجلْ لم يقلِّد رسولُ الله أبا هريرة سيفَ خالدٍ، ولم يناول خالدًا قرطاسَ أبي هريرة؛ لكنه علَّم الشيخ صَفَّ قدميه في الجُند؛ حين يَثني القائدُ ركبتيه في الحلَقة.

قال: فأنت كالذي يقول: لا يُدفع عن الإسلام وأهله ضرٌّ ولا يُجلب إليهما نفعٌ؛ إلا بالسيف! قلت: من زعم أن مجد الأمة موقوفٌ على القتال؛ فقد ضل وأضل، والجهاد أعمُّ من القتال، وأعظمُه البيان بالوحي؛ وهو المُوَطِّئ للقتال ابتداءً، والمُظِلُّ لحركته أثناءً، والحافظ لثمراته انتهاءً، وإنما السيف خادم الوحي وغلامه، لا يُسَكِّن متحركًا ولا يحرِّك ساكنًا إلا بإذن سيده ومولاه، وكلٌّ من عند الله.

“فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا”، “يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ”، بالقرآن وبالسيف أمر الله رسوله بجهاد الكافرين؛ لا يفرق بينهما إلا أصَمُّ عن القرآن أعمى.

التمكين درجتان؛ درجةٌ دنيا ودرجةٌ قُصْوى؛ تمكين مِنَّةٍ وإزاحةٍ واختبارٍ هو الذي في الأعراف والقَصص، وتمكين غلبةٍ وإحلالٍ واقتدارٍ هو الذي في الحج والنور، الأول يكون من الله مَنًّا على عباده المستضعفين -كلَّ انسدادٍ تامٍّ في شرايين الحياة- يبتليهم بسعته بعد ضيقهم لينظر كيف يعملون، والثاني جعل الله له جُملتين من الأسباب عرَّفها أُولي العلم والنُّهى؛ جُملة أسبابٍ كَسْبيةٍ بشريةٍ، وجُملة أسبابٍ وَهْبيةٍ ربانيةٍ، وقد يستوفي المؤمنون الجُملة الأولى بتوفيق الله ثم لا تصيبهم الثانية بحكمة الله فلا يُمكَّن لهم، وقد يستوفونها -أو يقاربون- فتصيبهم برحمة الله فيُمكَّن لهم، ولا يكون ‍التمكين الأعلى حتى يكون الأدنى، وبين الأدنى والأعلى ما شاء الله من درجاتٍ في أزمانٍ على أحوالٍ بأسبابٍ شَتَّى.

قال: يرحمك الله؛ فهل التمكين غايةٌ أم وسيلةٌ؟ أعني العمل لإقامة حاكمية الإسلام وحكمه.

قلت: ورحمك ورحم بك حبيبي؛ التمكين غايةٌ لما قبله، ووسيلةٌ إلى ما بعده؛ ألم تر إلى ربك كيف قال: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ”! فجعله وسيلةً لإقامة الإسلام بأقصى درجةٍ في أعمِّ مساحةٍ، وما كان كذلك فهو غايةٌ لما قبله؛ فتبصَّر.

يا حبيبي؛ قد ضل في هذه المسألة -من الإسلاميين- طائفتان؛ طائفةٌ جعلت قصدها وأقوالها وأعمالها في سبيل ذلك وحده؛ حتى فرَّطت في عقائدَ وشرائعَ ومعاملاتٍ تفريطًا شنيعًا، وإنما جُعل التمكين لإقامة الدين؛ فكيف يُتوصَّل إليه بما يُحادُّه ويُشاقُّه! وطائفةٌ عصف بنفوسها متواتر الهزائم؛ حتى انفسخ في قلوبها ماضي العزائم، فباتوا لمعنى التمكين الدعوي الجهادي السياسي منكرين، ويقرِّرون في ذلك تقريرات العلمانيين نفسَها في تبعيض الإسلام وتَعْضِيَة عقائده وشرائعه؛ غير أن هؤلاء أشد جنايةً على الإسلام وأهله؛ لما يُعرَفون به في الناس من الانتساب إلى الحق؛ فالقصدَ بين الطائفتين تُهدَى.

يا حبيبي؛ إياك وصراط المقتسمين؛ “الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ”، فقالوا: “نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍٍ”، ولقد ورث هؤلاء اليوم طائفةٌ أقلُّ منهم شرفًا بانتسابهم إلى الإسلام ودعوتهم إليه وقد جعلوه أحاديثَ ومزقوه كلَّ ممزقٍ؛ ففرَّقوا -جهلًا- بين جوانب الإسلام في النظر، وعارضوا -ظلمًا- بين نواحيه في العمل، جعلوا لله مما أنزل من الشرائع والأحكام نصيبًا؛ فقالوا: “الصراع السلطوي” للجاهلين الحماسيين الفارغين بزعمهم، وتبيين الوحي شرائعَ ومقاصدَ لأمثالنا؛ فما كان لغيرهم شنَّعوه بتصريحاتٍ وتلميحاتٍ وبشَّعوه، وما كان لهم فحِمًى عزيزٌ حَرِيزٌ مصونٌ، لأشباههم وما ملكتْ شمائلُهم كهنوتٌ مكنونٌ، وعمَّن خالفهم محظورٌ مجذوذٌ ممنونٌ؛ ألا ساء ما يحكمون.

يا حبيبي؛ إن العلم بالوحي هو العلم؛ بصائرُ الله الحافظاتُ عبادَه؛ لكنَّ طالب علمٍ لا ينازل الجاهلية ولدٌ لها وإن ادَّعى لغيرها، وغاية علمه أن يُعَمَّمَ جاهلًا بالله، مهما فاق في فنونه طُولًا ومَهَرَ عَرضًا، وإن النسك هو النسك؛ حكمة الحق من الخلق، لكنَّ استدبار العابدين مقارعة الكافرين صلواتٌ في محاريب الشياطين، وشيوخه دجالون، وإن طالت لحاهم إلى السُّرر، وقصُرت قُمُصُهم إلى الرُّكب، وإن الإصلاح هو الإصلاح؛ قِبلة رسالات السماء؛ لكنه بإذنٍ من فرعون خرابُ الأرض، وكلُّ ناقةٍ لا تكيد الجاهلية لعقرها فليست بناقة “صالحٍ”، وإن نعق في الناس: إني رسولٌ من رب العالمين.

وقالَ اللهُ قدْ أرسلتُ عبدًا ** يقولُ الحقَّ إنْ نفعَ البلاءُ

وقالَ اللهُ قدْ سيَّرتُ جندًا ** همُ الأنصارُ عُرضَتُها اللقاءُ

“وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ ۖ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا”؛ لولا قراءة أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه ورضي عنهم- وحي الله بيِّنًا تامًّا على أعدائهم؛ ما سعوا في البطش بهم، ولو كتموا ونقصوا -يومئذٍ- لتركوهم، فأما اليوم فقد رضي الطواغيت بجماعاتٍ من المسلمين! تقرأ القرآن على الناس .. لكنْ غير بيٍّن وغير تامٍّ؛ فلتقرؤنَّ القرآن كله على طواغيت الزمان جميعهم لا تستثنون منه ما يغيظهم؛ أو لتدخلنَّ في دين الطواغيت وأنتم لا تشعرون.

يا معشر من أسند ظهره إلى الإسلام جميعًا يبتغي به عز الدنيا ونجاة الآخرة؛ لا تُزَيِّلوا بين قوة حقه وحق قوته مثقال ذرةٍ فما دونها، سلفيين وأشاعرة وصوفيةً وسواكم؛ إلا تأخذوا الكتاب بقوةٍ جميعًا يعاقبكم الله بما عاقب به أسلافكم المفرِّقة؛ “فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ”؛ الجزاء من جنس العمل؛ فرق أولئك بين آيات الله ففرق بينهم، وعطل أكثركم الجهاد نظرًا أو عملًا؛ فجعل الله شقاقكم بينكم وقاتل بعضكم بعضًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومتى جاهدت الأمة عدوها؛ ألَّف الله بين قلوبها، وإن تركت الجهاد شَغل بعضَها ببعضٍ”.

بالتعليقات بضعة عشر منشورًا أرجو الله بهن تمام المرام؛ واغوثاه رباه من التفريق بين كتابك؛ أن نستقبل ما يريحنا ونستدبر ما يتعبنا؛ فتحقَّ علينا كلمتك في المفرقين، واغفر لنا وثبتنا أجمعين.

ألم يُعَوِّدك رحمته! ألست الغادي

ألم يُعَوِّدك رحمته!

ألست الغادي الرائح في آلائه!

متى كنت بدعائه شقيًّا!

فيم سوء الظن به وما أَلِفْت سوى لطفه! أم أن إيلافك اللطف بجَّحك!

ألست الناقم على كل من أحسنت إليه بالنَّقير والقِطمير؛ فلم يشكر لجلال نَعمائك! أين نقمتك على نفسٍ كَنودةٍ تعدُّ يسير المصائب وتنسى وفير الأنعُم!

تذكُر يوم صبَّحك راضيًا مجبورًا؛ وقد بِتَّ بمعصيته مسرورًا!

كم كشف عنك من ضرٍّ وهمٍّ! وأذهب عنك من بأسٍ وغمٍّ!

ألست محوطًا بأنعُمه باطنةً وظاهرةً؛ في نفسك وفي أهلك ومن تحب!

كم يشتاق لحُرِّيتك أسيرٌ لا يرجو عليها مزيدًا! ويتمنى عافيتك سقيمٌ قرَّح جلدَه طولُ الرُّقاد! ويشتهي مخطئ سَترٍ يلفُّك عبدٌ أصابته الفضيحة!

كم تبغَّضت إليه -جافيًا- بما يكره؛ فوالاك -متوددًا- بما تحب!

هل فرَّط في هدايتك الكونية والشرعية من شيءٍ؛ فتعتب عليه بشيءٍ!

لو لم يجعل محلَّك أوسع العافية؛ ما أعانك لسانك على شكواه إلى خلقه.

من علَّمك أن لك عنده شيئًا وأن عليه فعله لك! عزَّ الفعال لما يريد وتبارك.

ساعةَ أثنى عليك أحدهم خيرًا ولم تغسل يدَك بعدُ من فسوقٍ؛ كيف نسيتها!

كم دلَّك عليه، وعلَّمك من لدنه، وعرَّفك سبيله، ووصلك بهُداه!

كم أقامك في مراضيه حين قام غيرُك في مساخطه؛ يختصُّك بالعناية!

أرأيت كيف جعل إمهاله إلهامًا وإنظاره إنذارًا؛ فهو يتابع لك بين آياته لتؤوب!

أفلما شرح للطاعات صدرك من بعد سعيك في المعاصي؛ كان شكره نسيانه!

الساعة التي تصلِّي فيها هي هي ساعة إشراك مشركٍ، وابتداع مبتدعٍ، وظُلم ظالمٍ، وفجور فاجرٍ، وشرود شاردٍ، وإلحاد مطرودٍ عن الطريق كلها.

ما لك من سوابق الخير معه حتى يعصمك من فاحشةٍ قارفها أقرب الناس منك! وينجِّيك من ظلمٍ لابَسَه جارٌ ليس بينك وبينه غير جدارٍ! ويسلِّمك من غوايةٍ أشهدك احتراق العامة بها! أم تحسب أنه أحرزك من هذا كله بما تستحق!

أي حسنةٍ لك عنده حتى يَنْظِمَكَ في صفوف الموحِّدين حقًّا؛ تعادي أعداءه وتوالي أولياءه! ولو شاء جعل عقوبتك في معاداة أوليائه وموالاة أعدائه.

هذا الإسلام الذي أنعمك به؛ ضل عنه كافرٌ يود يوم التغابن لو أنه أسلم، هذه السُّنة التي ترغد فيها حُرِمَها مبدِّلٌ يُذاد عن الحوض غدًا، تلك الفتن التي تُصَد آناء الليل وأطراف النهار عنها؛ هو الذي أنقذك برأفته ورحمته منها.

لماذا لم تكن في صفاته معطِّلًا أو مجسِّمًا! وفي الإيمان خارجيًّا أو مرجئًا! وفي القدَر نافيًا أو غاليًا، وفي الإمامة شِيعيًّا أو ناصِبيًّا!

لولا أن منَّ عليك بمنهاج أهل السُّنة تتقلَّب في ساجديهم؛ لخسف بك.

لماذا جاء بك أنت من العدم -دون من لم يجئ- ليُعرِّضك لسعادة العبادة في الدنيا، ثم لعبادة السعادة في الجنة، تخلد في رضوانه الأكبر محبورًا بلذة النظر إلى وجهه الأكرم! ولو شاء لم يأت بك فلم تتعرَّض لهذا جميعًا.

كم باعدَت ألطافه بين ذرَّات بلائك الكثيف؛ حتى أخرجتك إلى براح العافية!

كم يسَّر لك عسيرًا، وقرَّب إليك بعيدًا، وفتح عليك مغلَّقًا، وجمع لديك مفرَّقًا!

كم قطَعته -فقيرًا إليه، وهو الغني الحميد- فوصلك!

كم بعدُت عنه -لا حول لك ولا قوة إلا به- فأدناك منه!

كم استدبرت رحمته فاستقبلك بها تلقاء وجهك؛ يقول لك: لا تُعرض عني!

كم أعميت عينك عن رسالةٍ أرسلها إليك، فأقرأها قلبَك فوعاها؛ فصلُح بها شأنك، ومشيت بها سويًّا على صراطٍ مستقيمٍ!

السماوات والأرض، الليل والنهار، الشمس والقمر، البر والبحر والجو، الماء والرياح والتراب، المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراقد والملابس والمراكب والمنابت والمحاضن والمداخل والمخارج، هذه وسواها من عطاءات الربوبية؛ ما جعلها الله إلا لك.

القرآن آيةٌ آيةٌ، الملائكة ملَكٌ ملَكٌ، الأنبياء نبيٌّ نبيٌّ، عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه، العُبَّاد والعلماء والحُفَّاظ والمصلحون والمجاهدون، هذه النعم وغيرها من عطاءات الألوهية؛ ما جعلها الله إلا لك.

كيف صارت عطاءات الربوبية وعطاءات الألوهية نعمًا مألوفةً مغفولًا عنها لا تكاد تُذكر فتُشكر! كأنما هي حقٌّ لي ولك، وكأن على المنعم بها شُكر قبولنا لها.

نعمٌ ما كان حق الواحدة منها؛ إلا سجود القلب الحياةَ كلها يحاول بعض الحمد وبعض الشكر وبعض الوفاء، وما هو ببالغٍ شيئًا من ذلك ولا يستطيع.

تأمَّلْ سُطورَ الكائناتِ فإنها ** منَ المَلكِ الأعلى إليكَ رسائلُ

وقدْ خطَّ فيها لوْ تأمَّلتَ نقشَها ** ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ

أتراه يستكثر بك من قلَّةٍ، أو يستعز بك من ذلَّةٍ؛ فهو يسارع في هواك!

لم يقل ربك: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”؛ حتى قال في عقبها: “مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ”؛ ليُعْلِمك أنه لا يكلِّف أحدٌ أحدًا بشيءٍ إلا وهو غانمٌ به منتفعٌ منه، إلا هو، فإنه بصفات الكمال وكمال الصفات كلَّف، وما كلَّف المكلَّفين إلا لِمَا هو عائدٌ عليهم هم من عوائد الخير في دُورهم الثلاثة، وما كانوا أجمعون ليَبْلغوا نفْعه فينفعوه شيئًا.

ذلك الله؛ هو ربك وأنت صنعته، ولا يصنع صانعٌ حكيمٌ من الناس شيئًا ليُتلِفه؛ كيف بالحكيم الخبير واسع الرحمة والمغفرة! ما خلقك إلا للرحمة، ولا أنزل إليك الكتاب لتشقى، فما أصابك بعدُ من تلفٍ فمن نفسك.

من بصَّرك ما بصَّرك به أجمل الجُملاء من آيات كونه وشرعه!

من أسمعك ما أسمعكه أكرم الكُرماء: “يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ”!

لم لا تشهد من نعمه إلا ما منعك منه أو أجَّله عنك؛ عليمًا بك رحيمًا!

لم يُثيبك على صبرك في المصائب؛ وما أصابتك إلا بما كسبت يداك!

تسوؤوك ساعاتٌ من البلايا ما كان لها أن تخلو من لطف الله ورحمته؛ وأنت محوطٌ بالعافية قبلها وبعدها! ثم إنه ليس للبلايا غايةٌ إلا تأهيلك للغفران والرضوان، وهي أعون أسباب دنيا العبد على دينه لو كان من الفاقهين.

كيف أطعت من أخرج أباك من الجنة في شهوةٍ زيَّنها لك! أم كيف صدَّقته في شبهةٍ أدخلها عليك! أم كيف كنت سببًا في “وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ”!

كيف إذ أعرضت لم تُقبل! أم كيف حين عثرت لم تنهض! ألا تستوحش بعيدًا!

ألم تعلم أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه! ألم يأتك أن رُجْعاك إليه يومًا قريبًا!

قد أحبَّ لك أن تلقاه آمنًا مرحومًا؛ فلم يزل يُحَبِّبك ويُرَغِّبك ويُقَرِّبك مما تكون به يوم لقائه كذلك، لم يضرب عنك الذِّكر صفحًا أن كنت من المسرفين.

قد أعد النار يوم أعدها لغيرك؛ ففيم ركضُك أنت إليها وإصرارك عليها! أحالفٌ أنت بين الرُّكن والمقام أن تدخلها؛ فأنت آخذٌ في الوفاء بقسمك!

أليس عجيبًا أن فرض عليك حُسن الظن به والاستبشار برحمته؛ وإن عصيت!

أليس غريبًا أن جعل قنوطك من رحمته وإن كنت لذلك أهلًا؛ كفرًا به أكبر!

عبادٌ أعرضوا عنا ** بلا جُرمٍ ولا معنى

أساؤوا ظنهمْ فينا ** فهلَّا أحسنوا الظنا

فإنْ خانوا فما خُنا ** وإنْ عادوا فقدْ عُدنا

وإنْ كانوا قدِ استغنَوا ** فإنا عنهمُ أغنى

“وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا”! خالعةٌ هذه القلوبَ تُطَيِّرُها. آهٍ وأوَّاه وأوَّتاه وأوَّه!

لا إله إلا الله العفُوُّ؛ العفوَ يا مولى الموالي، العفوَ إنك تحب العفو، العفوَ إنك أهل العفو، العفوَ إنك كريم العفو، العفوَ إنا محاويج العفو.

يا من لا تنفعه طاعة من أطاعه كما لا تضره معصية من عصاه؛ اقبل منا ما لا ينفعك وإن كان قليلًا، واغفر لنا ما لا يضرك وإن كان كثيرًا.

أفلَح الفارٌّون إلى سريع العفو والمعافاة، قد أيقظت أفئدتهم هذه الموعظة؛ “مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ”! اللهمَّ اللهمَّ، إنا نحبك.

إلى متى تحسب البلاء شيئًا

إلى متى تحسب البلاء شيئًا عابرًا في حياتك!

متى تنقضي دهشتُك من دارٍ لم يكتمك الله فيها سرًّا!

مِن المحسوس، أم مِن المعقول، أم مِن الخبر؛ اعتقدت ذلك!

ما حقُّ عاقلٍ عضَّته هذه الدنيا عضَّتين؛ إلا أن يبيت بها خبيرًا.

كيف لم يزدك صريحُ قبحها إلا حُسنَ ظنٍّ بها؛ غيرَ أن تكون مجنونًا!

إن أنكد الناس في الدنيا عَيشًا؛ أولئك الذين يتوهمون البلاء فيها أمرًا محتمَلًا.

الحقَّ أصْدَعُك به (من الشرع والقدر) في كلمتين: إنما الحياة البلاء، أنت هنا لتُبتلى.

هل أتاك أن شهوةً عارضةً لامرأةٍ أمْكَثَتْ نبيًّا ابنَ أنبياءَ في السجن بِضْعَ سنين! أم لم يأتك أن نبيًّا ابنَ نبيٍّ ذبحه ملكٌ وأهدى رأسه الشريف فاجرةً لقاءَ رضاها بزواجٍ حرامٍ! صلى الله على رسولَيه يوسف ويحيى وسلم؛ أفإنْ لقيتِ الدنيا أكرمَ العباد على الله بهذا الوجه فظاعةً؛ لقيتك أنت بوجهٍ صَبيحٍ!

إن اليقين الذي لا يعْتَوِرُه شكٌّ أن لأبي هريرة حافظِ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأعظمِ حظًّا من الجلال في قلبك! وأن لحذيفة بنِ اليمان أمينِ سرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأكرمِ نصيبًا من الإكبار في نفسك! فهذان الضخمان وعشراتٌ من أصحاب محمدٍ -رضي الله عنهم- كانوا من أهل الصُّفة، وما أدراك ما الصُّفة! الصُّفة: ظُلَّةٌ في آخر مسجد الرسول يأوي إليها أهلُها وقد عدموا الأهل والمال والدار جميعًا، طعامهم وشرابهم وكساؤهم مما تجود به النفوس عليهم، إن الله في عليائه لشهيدٌ ما يصيب قلبي من الوجع الأليم؛ كلما تصورت أبا هريرة وحذيفة وأضرابَهما ينتظرون في صفٍّ من الناس صدقات المؤمنين عليهم؛ أفإنْ جاع هؤلاء في الدنيا وظمئوا؛ ابتغيت فيها أنت شِبعًا ورِيًّا!

لقد كنت أظن قديمًا أنه لا أدَلَّ في القرآن على قِدَمِ شأن ابتلاء الإنسان؛ من هذه الآية: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ”، وأقول لنفسي وإخواني كالأستاذ: تأملوا كيف قرن الله بين الإنسان -وهو ماءٌ مهينٌ في رحِم أمه- وبين الابتلاء! حتى بدَّدتْ ظني آيةٌ تقول: إن ابتلاء الإنسان مقرونٌ بخلق الأرض من قبله: “إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”، ولم يكد عقلي يسكن إلى هذا الميقات حتى فاجأته آيةٌ تقول: إن ابتلاء الإنسان مقرونٌ بخلق الموت والحياة قبل خلق الأرض من قبله: “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”، لتبْهتني من بعدها آيةٌ تقرن ابتلاء الإنسان بعرش الله ذاته: “وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”؛ حتى انقضى كلُّ ما دون اليقين في قلبي بآيةٍ تحكي ابتلاء الإنسان فعلًا ثابتًا من أفعال الله: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ”.

كأني بك الآن تلعن كل دجالٍ نهش من عمرك ونفسك وعقلك ومالك ما نهش؛ ليقول لك في نفسك وفي الحياة عكسَ ما قال باريها وباريك؛ لكنْ يواسيك أن هؤلاء لم يكذبوا عليك حتى كذبوا على الله.

عن الدنيا؛ يصارحك الله بحقائقها على وجهها، يقول لك: ستفقد من أمانك وسلامك، ويذهب من طعامك وشرابك، وتخسر من عملك ومالك، ويفارقك أشدُّ من أحببت حبًّا إلى آخر الحياة؛ “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ”؛ هذه هي الدنيا .. لا إبهامَ ولا إيهامَ.

عن الدين؛ يكاشفك الله بحق أمره قبل توقيعك عقدَ العبودية معه، يقول لك: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ”، ويقول لك: “لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوآ أَذًى كَثِيرًا”؛ هذا هو الدين .. لا تلبيسَ ولا تدليسَ.

عن المعركة الوجودية المستعرة بين عبيد الدنيا وأولياء الدين؛ يواجهك الله بواقعها أخبارًا وأسرارًا، يقول لك قبلها: “وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ”، ويقول لك بعدها: “وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ”؛ هذه هي الحرب .. لا مُواراةَ ولا مُداراةَ.

إذا قال ربك في شيءٍ قولًا فهو حَسْبُك من معناه حتى تلقاه، قل: كفى بالله، وأصمَّ أذنيك عما سواه.

لعلك توهمت الحياة كلَّها مكاره ومصائب ودواهي! بل ابتلاء الله الناسَ فيها بالرخاء أوسع من ابتلائهم بالشدائد وأعظم، وإنما البلاء بَلْوُ البواطن في السراء والضراء لاستخراج فجورها أو تقواها، يمتحن الله عباده بالخفض والرفع لينظر كيف يعملون! “وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً”، “وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”، يُقلِّب من شاء فيما شاء كيف شاء متى شاء عليمًا بنا حكيمًا؛ “إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا”؛ هو المستعان على الشكر والصبر جميعًا.

أنا ونحن وأنتَ وأنتِ وأنتما وأنتم وأنتنَّ وهو وهي وهما وهم وهنَّ؛ (أنا) ذو حاجةٍ مَطويةٍ في صدري تلدغني لسعاتُها لا أجد لها قضاءً، (نحن) أمة “الإيغور” يسُومنا ملاحدة الصين سوء العذاب فوقَ ما خطر لفرعونَ بني إسرائيل على بالٍ، (أنتَ) بلغت الأربعين ولم تظفر بتاء تأنيثٍ إلى ياء مخاطَبةٍ من نون نسوةٍ، (أنتِ) متزوجةٌ منذ عشر سنين تشتهين طفلًا تستبردين به لَوَاعِجَ أمومتك، (أنتما) مريضان لا تستطيعان مع المرض المُزمن ما يستطيع الأصحاء، (أنتم) قومٌ من “بورما” يحرق أجسادكم بالنار شر كفار الأرض لا يبالون بكم، (أنتنَّ) نساءٌ تقاسين في بلادكن غربة الإسلام عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا، (هو) مسكينٌ مهما كَدَحَ إلى وظيفةٍ بعلمٍ وعملٍ لا يَقرُّ له فيها قرارٌ، (هي) ذات زوجٍ فظٍّ غليظٍ لا يَرقُب فيها إلًّا ولا ذمةً، (هما) أسيران لا تُعرف لهما بعد خطفهما من نظام بلدهما الفاجر حياةٌ ولا موتٌ، (هم) شبابٌ يقاتِلون في “إدلب” بغير خبرةٍ ولا عُدةٍ رؤوسَ الطواغيت وأذنابَهم وقد خذلهم القريب والبعيد، (هنَّ) بناتٌ تسلط عليهن أباؤهن في خاصة شؤونهن بجاهلياتٍ ما أنزل الإله بها من سلطانٍ.

والله وبالله وتالله؛ لو بقينا أجمعون في هذه المصائب أعمارَنا كلَّها؛ ما كان ذلك في جَنْب القيامة شيئًا؛ فإن هذه الدار بكل ما فيها إلى زوالٍ، وإن لُطف الله محيطٌ بنا على كل حالٍ؛ ليس هذا من كِيسي؛ بل من كِيس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: “لو أن رجلًا يُجَرُّ على وجهه من يوم وُلد إلى يوم يموت، هرمًا في مرضاة الله؛ لحقَّره يوم القيامة”، وقال: “يودُّ أهل العافية يوم القيامة -حين يُعطى أهلُ البلاء الثوابَ- لو أن جلودهم كانت قُرضتْ في الدنيا بالمقاريض”؛ صدَق الله وصدَق الرسول.

أنا ونحن وأنتَ وأنتِ وأنتما وأنتم وأنتنَّ وهو وهي وهما وهم وهنَّ؛ ليس بلاء أكثرنا -بحمد الله- في شيءٍ من هذا؛ بل أكثر بلاء أهل هذا الزمان مُصنَّعٌ رأسماليًّا، “بلاء السوق”، الشعور الكاذب الخاطئ بالنقص والضعف والعجز عن إدراك معروضات المادة التي تحاصرنا إغراءاتُها من كل جانبٍ.

“الدنيا سجن المؤمن”؛ فهو يتقلب بين زنازينها ما بقي فيها، لا فضل لزنزانةٍ على زنزانةٍ إلا بفَضْلَةٍ من سعةٍ ورفاهيةٍ؛ مَن فقه هذا لم يكن همُّه إلا الخروج منها جميعًا، ولا يُستطاع ذلك إلا بالله.

“اللهم فرحًا لا يَعقبه حُزنٌ”؛ كتبه مسكينٌ في ضرٍّ قارصٍ، بخَمس ساعاتٍ تحصد خمسة ألفاظٍ خمسة آلاف إعجابٍ؛ رجوت له حين قرأت دعاءه وللراجين رجاءه -معجبين ومعلِّقين ومشاركين- دخول الجنة أجمعين؛ ليقول وإياهم في أهلها: “الْحَمْدُ لِلَهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ”؛ لكنه لا جواب لهذا الدعاء -وإنْ صرخ به الصارخون- قبل أعتاب الجنات مكانًا، ولا انتهاء لأحزانهم -مهما فتكتْ بأفئدتهم- قبل مُكثهم لحظةً في الفردوس زمانًا؛ هناك يشهدون بين صدق السرور وحق الحبور زيفَ كل فرحةٍ سلفتْ، وتلهج أرواحهم بعد طول صبرهم (في الطاعات وعن المعاصي وعلى البلايا) بحمد الله.

على صفحته وفي صحيفته؛ كتب

على صفحته وفي صحيفته؛ كتب كذابٌ لا يعلم علم اليقين أن الله يحصي عليه ما يكتب؛ أني لا أُصاحب هنا إلا الذين يصدعون بالحق في الطواغيت لا يُبالون!

سبحان ربي الحق الديان وأستغفره! بل أكثر من شرَّفوني بالإضافة الكريمة في صفحاتهم العزيزة هنا لا يفعلون، وهم عبادٌ صالحون أحسبهم والله حسيبهم، لا أرى لنفسي مثقال ذرةٍ من الفضل على أحدكم في باطن الأمر ولا في ظاهره؛ بل إني لأتملَّق غفران ربي ورضوانه بودادكم ووصالكم أجمعين، مستغفرًا إياه من شديد التفريط بحقوقكم الجليلة علي في العامِّ والخاصِّ، ولم يفرض الله على ذي صفحةٍ هنا أن يكتب فيها من هذا شيئًا؛ فأَنَّى لعُبَيْدٍ جُوَيْهِلٍ مثلي أن يفرض!

حسْب المسلم أن يكفر بالطواغيت ويعاديهم ويبغضهم ويتبرأ منهم، بقلبه وقوله وتركه وفعله، في نفسه وأهله ومن استطاع من الناس، فإن قدَر على إظهار هذا هنا فهو خيرٌ، وإلا فلا حرج عليه، والله رقيب كل عبدٍ وحسيبه، وليس المكلَّفون في علمهم ولا في قُوَاهم ولا في أحوالهم سواءً، ورُبَّ ساكتٍ هنا خيرٌ عند الله من متكلمٍ، والظن بالمسلمين الخير، وما على المحسنين من سبيلٍ؛ إنما السبيل على إنسانٍ أظهر الله لنا موالاته البيِّنة لهم، فشرْع الله فيه أن يُعادى.

برحمتك الواسعة السابقة ربي؛ أعوذ من الخذلان في الولاء والبراء حتى ألقاك، إن كنتُ للخذلان في هذا أهلًا؛ فأنت أهل العفو والمغفرة، سلِّم يا مولاي سلِّم.

قديمًا كنت أدعو على البراهمة

قديمًا كنت أدعو على البراهمة والمداخلة ومن ماثلهم من عبيد الدنيا وإمائها؛ أن يتسلط الطغاة عليهم، ثم أمسكت عن هذا لأمرين؛ الأول: أن الطغاة مسلطون عليهم تسلطا أعظم من تسلطهم علينا؛ فإن تسلطهم علينا بالرَّهَب لثورتنا عليهم بعزة الإسلام، وتسلطهم على هؤلاء بالرَّغَب لخضوعهم لهم طوعًا واختيارًا، ولم تزل فتنة الرَّغَب أشد من فتنة الرَّهَب عند المؤمنين جميعًا. الثاني: أن تسلط الطغاة عليهم بالرَّهَب شيءٌ يحبونه ويتعشَّقونه، حتى إنهم ليذودون عنهم كلما هتكوا الأعراض وسفكوا الدماء وحبسوا الأحرار، ولم أقل: وحاربوا عقائد الإسلام وشرائعه؛ فإن هذا مما لا يعنيهم في قَبِيلٍ ولا دَبِيرٍ كما يشهد القاصي والداني، فدعاؤنا عليهم بتسلط الطغاة عليهم بالرَّهَب دعاءٌ لهم بالشيء يحبونه ويشتهونه، ويركضون إليه ويطوفون حواليه ويخرُّون للأذقان بين يديه، فلم يبق لنا إلا أن ندعو عليهم جبار السماوات والأرض أن يعذبهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة وفي برازخهم بما يُسْحَتون به ويُدْحَرون، وكفى بالله محيطًا.