#في_حياة_بيوت_المسلمين.
إلى جمهرة النساء، ومن أشبهَهُن من الرجال (في جنون الحب):
استيفاء الحقوق في الحرب أهون من استيفاء الحظوظ في الحب، ولئن كابَد محاربٌ في استيفاء حقوقه من عدوه فربح أقصاها؛ فإن المحب كلما دأب في استيفاء حظوظه من محبوبه خسر أدناها، وما مكر بمجانين الحب مثلُ نفوسهم الطائشة الحمقاء، لا تزال تُرَسِّخ فيما بطن من عقولهم مقياسًا للحب فاسدًا وميزانًا له مفسدًا؛ أن الحب إشباع كل جوعٍ للقلب وإرواء كل ظمأٍ للجسد، فإذا قلوبهم به لا تشبع وأجسادهم منه لا تُروى، مهما أمكنهم محبوبوهم -بالجهل والسَّفه- من أنواع الهيمنة وألوان الاستحواذ وصنوف السيطرة عليهم، يحسبون أنفسهم رُؤفاء بهم رُحماء لهم، وما هم إلا جُناةٌ عليهم لا يشفقون، وإن التراضي على الظلم بين الظالم وبين المظلوم لا يقلبه عند الله عدلًا؛ فهل يكون رحمةً!
لا ترجوا من الحب كل ما ترجون، ولا تُكلِّفوا من تحبون جميع ما تحبون.
أكثرُنا يحب بعد جوعٍ قلبيٍّ شديدٍ، وصبرٍ على الظمأ مديدٍ، فإذا أحب أسرف في الرجاء، وأسرف في الوصال، وأسرف في الكلام، وأسرف في الفِعال، فيُكلِّف محبوبه كل مشتهَيات الحب؛ عاجلةً غيرَ آجلةٍ، مجموعةً غيرَ مفرَّقةٍ، تامةً غيرَ منقوصةٍ، بلسان مقاله حينًا، وبلسان حاله أحيانًا، وهو داءٌ خفيٌّ واسعٌ مكينٌ.
يُعظِّم هذا الداءَ أمران؛ وقوعه من صاحبه -أكثرَ الأحوال- بغير وعيٍ به وقصدٍ له؛ فأنَّى يعافى منه! الثاني: أن المسرف يُغلِّف سَرَفَه بغِلاف الحب (تفسيرًا وتبريرًا وتمريرًا)، وليس من احتال بالحب كمن احتال بغيره، المحتالون بالحب ظافرون.
يزيد داءَ المحبوب علةً قبولُه طمعَ المحب وجشعَه بل استمتاعُه به في بدايات الحب اللاهبة المُلهِبة؛ لشدة افتقاره إلى الحب، ويزداد طينُ المحب بِلَّةً إذا كان خفيف الديانة والعقل والمروءة جميعًا، ولو ثقُل فيها لكان عند الله لطيفًا.
يا رِقاق الأفئدة؛ لا جَرَم أن الله خلق أفئدتكم للحب؛ لكنه نوَّع المحبوبين لها؛ لتَقسم بينهم حبَّها، وجعل محبته أولى محبةٍ، فمن بدأ بها فجعل محبته لله أعظم محبةٍ؛ لم يَشْقَ بما بقي من الحب في قلبه للمحبوبين جميعًا، وإن الحب قوتٌ؛ يشبه سائر الأقوات في معانٍ، ويُخالفها في أخرى، وإن له فقهًا؛ منكم من يكتسبه، ومنكم من يُلهَمه، “نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم”، “وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا”.