#في_حياة_بيوت_المسلمين. إلى جمهرة النساء، ومن

#في_حياة_بيوت_المسلمين.

إلى جمهرة النساء، ومن أشبهَهُن من الرجال (في جنون الحب):

استيفاء الحقوق في الحرب أهون من استيفاء الحظوظ في الحب، ولئن كابَد محاربٌ في استيفاء حقوقه من عدوه فربح أقصاها؛ فإن المحب كلما دأب في استيفاء حظوظه من محبوبه خسر أدناها، وما مكر بمجانين الحب مثلُ نفوسهم الطائشة الحمقاء، لا تزال تُرَسِّخ فيما بطن من عقولهم مقياسًا للحب فاسدًا وميزانًا له مفسدًا؛ أن الحب إشباع كل جوعٍ للقلب وإرواء كل ظمأٍ للجسد، فإذا قلوبهم به لا تشبع وأجسادهم منه لا تُروى، مهما أمكنهم محبوبوهم -بالجهل والسَّفه- من أنواع الهيمنة وألوان الاستحواذ وصنوف السيطرة عليهم، يحسبون أنفسهم رُؤفاء بهم رُحماء لهم، وما هم إلا جُناةٌ عليهم لا يشفقون، وإن التراضي على الظلم بين الظالم وبين المظلوم لا يقلبه عند الله عدلًا؛ فهل يكون رحمةً!

لا ترجوا من الحب كل ما ترجون، ولا تُكلِّفوا من تحبون جميع ما تحبون.

أكثرُنا يحب بعد جوعٍ قلبيٍّ شديدٍ، وصبرٍ على الظمأ مديدٍ، فإذا أحب أسرف في الرجاء، وأسرف في الوصال، وأسرف في الكلام، وأسرف في الفِعال، فيُكلِّف محبوبه كل مشتهَيات الحب؛ عاجلةً غيرَ آجلةٍ، مجموعةً غيرَ مفرَّقةٍ، تامةً غيرَ منقوصةٍ، بلسان مقاله حينًا، وبلسان حاله أحيانًا، وهو داءٌ خفيٌّ واسعٌ مكينٌ.

يُعظِّم هذا الداءَ أمران؛ وقوعه من صاحبه -أكثرَ الأحوال- بغير وعيٍ به وقصدٍ له؛ فأنَّى يعافى منه! الثاني: أن المسرف يُغلِّف سَرَفَه بغِلاف الحب (تفسيرًا وتبريرًا وتمريرًا)، وليس من احتال بالحب كمن احتال بغيره، المحتالون بالحب ظافرون.

يزيد داءَ المحبوب علةً قبولُه طمعَ المحب وجشعَه بل استمتاعُه به في بدايات الحب اللاهبة المُلهِبة؛ لشدة افتقاره إلى الحب، ويزداد طينُ المحب بِلَّةً إذا كان خفيف الديانة والعقل والمروءة جميعًا، ولو ثقُل فيها لكان عند الله لطيفًا.

يا رِقاق الأفئدة؛ لا جَرَم أن الله خلق أفئدتكم للحب؛ لكنه نوَّع المحبوبين لها؛ لتَقسم بينهم حبَّها، وجعل محبته أولى محبةٍ، فمن بدأ بها فجعل محبته لله أعظم محبةٍ؛ لم يَشْقَ بما بقي من الحب في قلبه للمحبوبين جميعًا، وإن الحب قوتٌ؛ يشبه سائر الأقوات في معانٍ، ويُخالفها في أخرى، وإن له فقهًا؛ منكم من يكتسبه، ومنكم من يُلهَمه، “نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم”، “وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا”.

من قال: خلَق الله الإنسان

من قال: خلَق الله الإنسان للسعادة؛ كمن قال: خلَق الله الإنسان للعبادة.

أليست العبادة في الدنيا هي السعادة الحقَّة الخالصة، وفي الآخرة هي الوسيلة الماضية الوحيدة للسعادة الآتية الوحيدة! فليست حكمة خلق الإنسان إذن إلا إسعاده، لا شريك لها من الحِكَم. فإذا هو فرَّط في عبادته ففرَّط في سعادته؛ فليَلُم نفسَه المفرِّطة لا ربَّه الذي ما فرَّط في إسعاده بشيءٍ سُبُّوحًا قُدُّوسًا.

ابتدأ خلْقك من العدم لأجل السعادة، وعرَّفك بنفسه معبودًا وبالعبادة، وأرسل إليك رسولًا صنعه لك على عينه هو بابُها، بكتابٍ يكلِّمك فيه بذاته حَشْوُهُ أسبابُها، وفَطَرَك عليها فهيَّأك لقَبول شرائعها جميعًا، ولم يناقض عقلَك بعقائدها فأحسن به صنيعًا، ولئن خلَق الشيطان والدنيا أعداءً لك يصدُّونك عنها؛ فقد جعل الملائكة وصالحي المؤمنين أولياءَ يقرِّبونك منها، وجعل كل ضعفٍ يبتلي به جسدك وسيلةً لتخفيف أحكامها عنك، وكل خطيئةٍ تجاهد نفسك في اجتنابها ذريعةً لقربه منك، ولو شاء أن تعبده عبادةً لا تخرقها الذنوب لقهرك بالجَبْر عليها؛ لكن أراد منك عبادة المجاهَدة تغالب أعداءه مستعينًا به حتى يُوصِلك إليها، وجعل يأسك من رحمته كفرًا به مهما عظُمت الخطايا، وألزمك حُسن الظن به ووعدك عليه أجزل العطايا، وأخبرك قبل عصيانك إياه أن ذلك كائنٌ منك لا محالة؛ لكن لا تعمد إليه ولا تُصِرَّ عليه وعجِّل المتاب قبل الإيالة، وجعل عيوبك التي تُبَغِّضُ إليك نفسَك أعوانًا على حِفظ افتقارك إليه، وكروبك التي غالبُها عقوبات أوزارك أسبابًا لكرامة دخولك عليه، حتى إذا لقيته عابدًا إياه غيرَ مشركٍ به أحدًا سواه؛ أحاط ذنوبك بمغفرته لا يبالي كما يبالي كلُّ معبودٍ عداه.

يا أحظى الخلق بإيجاد الرب! لله ما أوفى سعادتك بعبادتك، وأولى عبادتك بسعادتك! ما هذه إلا تلك، وما تلك إلا هذه، فلو قال الله لك عابدًا: يا أسعد خلقي؛ كما لو قال لك سعيدًا: يا أعبدَهم، ما أنزل الله إليك القرآن لتشقى.

العبادة السعادة السمائية لا الأرضية، الحقَّة لا الباطلة، الحقيقية لا الصُّورية، الخالصة لا المكدَّرة، المطْلقة لا المقيدة، التامة لا الناقصة، الكلِّية لا الجزئية، العامة لا الخاصة، الواسعة لا الضيقة، السرمدية لا الزائلة. اعبدوا تسعدوا.

ومن عجبٍ خائنون قاسُون يحسبون

ومن عجبٍ خائنون قاسُون يحسبون أنفسهم أُمناء رُحماء!

يخالط أحدُهم النصارى ما يخالطهم، فلا يُعَرِّفهم بكفرهم وإشراكهم بِبِنْت شَفَةٍ، ولا يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد بكلمةٍ يحرِّك بها لسانه، وهو يعلم أنه لو مات الواحد منهم على كفره وإشراكه؛ خُلِّد في النار لا يخرج منها أبدًا بيقينٍ لا ريب فيه، وقد يزيدهم فتنةً بالكفر وإغراءً بالشرك بإحسان المعاشرة إليهم مجرَّدةً من الدعوة إلى الله؛ كما علَّمه الدجالون من الدعاة إلى الإسلام -زعموا- إذ يقولون لعامة المسلمين: حَسْبكم الإحسان إلى المسيحيين بأخلاقكم لتُحببوهم إلى دينكم، وهم بذلك مُحَادُّون للقرآن في طريقته مُشَاقُّون للرسول في سيرته، وهم يعلمون أنهم كذلك. ألا ما أشد خيانتهم للنصارى وأقسى قلوبهم عليهم!

يخالط أحدُهم مرتدًّا عن الإسلام بناقضٍ من نواقضه الصريحة؛ كموالاةٍ للكافرين مكفرةٍ، أو تركٍ للصلاة بالكلية، أو سبٍّ للدين لا لَبْس فيه، أو صرف عبادةٍ إلى مقبورٍ مما لا يُصرف إلا لله، أو تحاكمٍ اختياريٍّ إلى حُكمٍ من أحكام الجاهلية، أو إنكار معلومٍ من الدين بالضرورة قد استوى فيه عِلْم الخاصة والعامة، أو استهزاءٍ بشريعةٍ من شرائع الإسلام المعلومة للكافة، أو عمل سحرٍ مكفرٍ لا اختلاف فيه، ثم هو لا يُعَرِّفهم ما خرجوا به من الإسلام فصاروا كفارًا، ولا يردُّهم إلى دين الإسلام بفصل الخطاب، وقد يزيدهم فتنةً بالرِّدَّة بإحسان المعاشرة إليهم مجرَّدةً من الدعوة إلى الله. ألا ما أشد خيانتهم لهؤلاء وأقسى قلوبهم عليهم!

يخالط أحدُهم مبتدعًا بدعةً لا ارتياب فيها وقد يكون حاضًّا عليها، أو ظالمًا ظلمًا سافرًا لا ينزع عنه ولعله يتبجَّح به، أو فاسقًا مجاهرًا بفسوقه لا يبالي، يتعلل باضطراره إلى مخالطتهم فهُم من أهله أو أصحابه أو رؤسائه، يركب معهم الفتنة طبقًا عن طبقٍ؛ فيكون أول الشأن منكرًا عليهم معاصيهم بلسانه، ثم تبرد الغيرة على حدود الله في نفسه فيخالطهم ساكتًا عنهم زاعمًا الإنكار بقلبه، ولا يُتصور إنكار المنكر بالقلب مع مخالطة أهله مخالطةً اختياريةً؛ حتى يُتصور وُلُوجُ الجمل في سَمِّ الخِياط، وقد يزيدهم فتنةً بالمعاصي بإحسان المعاشرة إليهم مجرَّدةً من الدعوة إلى الله. ألا ما أشد خيانتهم لهؤلاء وأقسى قلوبهم عليهم!

يا بني الإسلام؛ إن لم تهدوا الناس إلى الله؛ فلا تضلوهم.

ضراعاتِكم أحبتي فيما بقي من

ضراعاتِكم أحبتي فيما بقي من خير أوقات الدنيا، وقت نزول ربكم إلى السماء الدنيا، يقول -تبارك فضله ووسعت رحمته-: هل من سائلٍ فأعطيه! لزوج الشيخ رفاعي سرور، ولأبي أنس السلطان، ولوالد محمد حشمت، ولمن مات اليوم من المسلمين جميعًا؛ أن يرحمهم الرحمن الرحيم ذو الرحمة الواسعة التي غلبت غضبَه خير الراحمين وأرحمهم، وأن يغفر لهم الغافر الغفور الغفار خير الغافرين، وأن يعفو عنهم العفو الذي يحب العفو، وأن ينوِّر قبورهم نور السماوات والأرض ومن فيهن الذي حجابه النور، وأن يُفرغ على قلوب أهليهم صبرًا جميلًا، وأن يجمعهم بموتاهم وإيانا في فردوسه الأعلى خالدين في رضوانه الأكبر أبدًا.

ذلك، واشف اللهم والدة عبدك الأسير أنس السلطان شفاءً لا يغادر سقمًا، ومرضى المسلمين أينما كانوا، وفرِّج عن عبدك أنس السلطان وثبِّته وأنجه من القوم الكافرين، واجعل بلاءه بركةً على الإسلام وعليه، وزده به للمؤمنين ولاءً ومن الكافرين براءً، واربط على قلبه إذا بلغه موت أبيه ليكون من المؤمنين.

شهيدٌ أنت يا مولاي حالي.

شهيدٌ أنت يا مولاي حالي.

عاجزٌ عن الكلام عجزي عن الصمت.

اليوم حطَّت رحالَها في أول منازل الآخرة أمُّنا.

أوَ مَن نُشِّئ في إجلالكِ يا خالة؛ كمن لم يُنَشَّأ! لا يستويان.

أمُّ الدعوة أمُّ يحيى، ما الخالة أمُّ يحيى! وما أدراكم ما الخالة أمُّ يحيى!

الشيخة الجليلة، البرَّة النادرة، السيدة الكاملة، العارفة العابدة، المحسنة الجوَّادة، ذات الفضائل والفواضل، الداعية إلى ربها، الصابرة على أنواع البلاء وألوان الشدائد وصنوف المِحَن، زوج شيخ الدعوة رفاعي سرور، أمُّ يحيى المفكر الأسير، وعمر المجاهد الشهيد، وياسر الداعية المطارَد، والأخوات النبيلات نفوسًا وأخلاقًا، حماة خالد حربي المناضل الأسير، جدة ولدنا عبد الله بن عمر الأسير، حماة زوج عمر المهاجرة المخطوفة وطفلَيها مهاجرةً في سبيل الله، صاحبة أمي.

فلو كل النساء كمثل هذي! كم سبق رجالًا إلى الله نسوةٌ! كم حقَّت بالصالحات القانتات الأُسوة! عسى الله أن يُنَعِّم روحكِ -يا خالة- بلُقيا أرواح آسية بنت مزاحمٍ، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلدٍ، وفاطمة بنت محمدٍ، وعائشة بنت أبي بكرٍ؛ فإن سبيلكن واحدةٌ وإن تفاوتت الدرجات، وإن الرب إذا أعطى أدهش، وإذا رضي فما لنَوَاله حدٌّ ولا لحُلْوَانه منتهًى، ووعدُه غرباءَ آخر الزمان أوفى.

كم حدثتني والدتي من أخبار أختها الكبيرة في سبعينيات القرن الماضي! وكم قصَّ لنا الشيخ من ذلك قصصًا! فابسُط اللهم لي في إسلامي وقوَّتي ووقتي؛ لأبسط لعبادك ما عساه يثبت قدمي وأقدامهم على صراطك السَّوي.

ذي ليلتُك الأولى في جَدَثك الشريف حبيبتنا؛ فاملأه اللهم غفرانًا ورضوانًا ومِن كل ما بين الغفران والرضوان من رحمةٍ وبركاتٍ، واجعل بطانته نورًا يضيء لها إلى يوم البعث غير مقطوعٍ، وآنسِها بإيناسك الحق فلا تستوحش فيه أبدًا، واترك عليها في الآخرين بلسان صدْقٍ في عبادك المؤمنين، واجزها عن روائع الصبر وبدائع البذل بأحسن إحسانك في أحسن عبادك أنت أحسن المحسنين.

ما على الأرض أن تميد الليلة وقد زالت عنها من الشامخات راسيةٌ، وإنما أولياء الله حُفَّاظ الأرض، وليس السائر على الماء أو الطائر في الهواء بأولى من الصابرين على اللأواء في سبيل دين ذي الكبرياء؛ فعوِّض الأرضَ ربَّها.

تحسبون هذا الحرف في المرأة ذا إفراطٍ وغُلَوَاء! فهو -وحقِّ من لا يعلم أقدار عباده على الحقيقة إلا هو- حرفٌ قاصرٌ لا شافٍ ولا كافٍ ولا وافٍ، وعلى أرائكَ مرجوَّةٍ في فردوس ربنا الأعلى حديثٌ تامٌّ ذو شجونٍ يليق بها وينبغي لها، وعن أمثالها من المصطفَين الأخيار؛ فاجعله اللهم ربنا كذلك وأزكى من ذلك.

ألَسَنا شهداءك اللهم في خلقك! فنحن شهودٌ لأَمَتك بما أشهدتناه من متين الديانة ومكين المكارم؛ فاجعل جزاء حسناتها وسيئاتها مغفرتَك غَفَّارًا وعفوَك عَفُوًّا؛ فإن ذلك منك أجملُ الثواب وأجزلُه، واجمع بين روحها وبين روح زوجها وولدها ومن سبقها إليك من أهلٍ وأحبابٍ؛ سبحانك يا أحَنَّ الجامعين.

يا آل رفاعي سرور؛ ما كان محبٌّ لكم اليوم أولى بالتنافس في كرامة حمل النعش المطيَّب مني. حرَم الله الطواغيت رحمته كلها جزاءَ ما يحولون بيننا وبين هذي المفاخر، وجمعني بشاهدكم وغائبكم على مباهج الإسلام غير خزايا ولا مفتونين، ثم في مقعد صدْقٍ عنده مليكًا مقتدرًا، وأفرَغ على أفئدتكم فارغاتٍ صبرًا جميلًا. أنتم للصبر أهلٌ بمددٍ من الله، إن لم تمت والدتكم قبلكم متم أنتم قبلها، وانْصَبُوا فيما بقي لكم من برِّها، واعملوا لجنةٍ ترجونها خيرٍ مستقرًّا وأحسنَ مقيلًا. ما أفقر الشيخة إلى صالحاتكم وأغناها عن أحزانكم! واحتسبوا.

الحمد لله الحي القيوم، إنا له وإنا إليه راجعون، منه الجَبر وعليه العِوض.

يقولون: أسلم الأسرى نفرٌ من

يقولون: أسلم الأسرى نفرٌ من المرتدين، فرُدُّوا إلى السجن.

قل: هو كربٌ عظيمٌ؛ لكنه -وقد وقع- قدرٌ من أقدار الرب الحكيم.

هو الله أولى بهم من أنفسهم ومن المؤمنين، وها نحن نستجلي حكمته.

“الدنيا سجن المؤمن”؛ قالها رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه؛ فهل أنتم لما قاله معتقدون! فهذه الدنيا وهؤلاء المؤمنون؛ فما بقي إلا ترقُّب ما بينهما. إن الذين يَحيون بالإيمان حياةً حقيقيةً هم الذين لا يرون الدنيا كلها إلا سجنًا كبيرًا، مهما بسط الله لهم فيها من ألوان السعة وأفسح لهم في مظاهر العافية، لا ينفكُّ وصف السجن عنها في قلوبهم إلا بقدْر نقصان الإيمان فيها، فإذا كان ذلك كذلك؛ فما زاد الله أسرانا إلا أن أُخرجوا من زنزانةٍ يقال لها “البيوت” إلى زنزانةٍ يقال لها “السجون” إلى زنزانةٍ يقال لها “الطُّرُق” ثم رُدُّوا إلى زنزانة “السجون”، وهو الأعلم أين يكونون في زنازين هذه الدار النَّكِدة بعد ذلك! سجنٌ هي للمؤمن إذا قِيسَت بجنة الآخرة؛ كما أنها جنة الكافر إذا قِيسَت بسجن الآخرة.

وأيضًا؛ فما خلق الله هؤلاء الأسرى إلا لعبادته، العبادة حكمة وجودهم في هذه الدار لا شريك لها من الحِكَم، وعبادتهم اللهَ ديمومة ذُلِّ قلوبهم واستمرار انقياد جوارحهم له ما بقوا، وقد مضت سنة الإله في العباد أنهم لا يعبدونه في العافية عبادتهم في البلاء، عبادتهم في البلاء أصدق وأخلص وأيسر وأشد وأكثر، وعبادتهم في العافية أكذب وأشرك وأعسر وأوهن وأقل، إلا قليلًا منهم، فإن عبدًا يعينه مولاه على ما خلقه لأجله بابتلاءٍ يحفظ على قلبه ذلَّه وعلى جوارحه انقيادَها؛ لعبدٌ مَحْظِيٌّ لا أحظى منه، ثم هو في البلاء أولى عباده بلطفه وقربه وإيناسه ورحمته، وعدًا من الله مأتيًّا، حتى رجا البلاءَ نفرٌ من أصحاب محمدٍ -صلى عليه ورضي عنهم- فنهاهم عن ذلك، وجعل سؤال الله العافية فرضًا.

وأيضًا؛ هل أتاكم أن الله في عليائه فوق عرشه وسمائه يفرح! عبارةٌ تتكبَّر عن العقول الصغيرة وتتسع عن ضِيقها؛ لكنها عبارة أولى الخلق بالحق صلى عليه وسلم، صح الحديث فلسنا بعده من الممترين، لا نعطِّل كالمعطلة ولا نجسِّم كالمجسمة. فإن نفرًا -أيها الناس- من أشباه الملائكة والمرسلين -ولا شبيه لهم- اصطفاهم سيدُهم الأعظم واجتباهم، فكانوا لذاته المقدَّسة ونفسه المسبَّحة من المُفَرِّحين؛ هم أولئك الأسرى، فرَّحوا الله بما فعلوه برحمته وقدرته وسائر ما تجلَّى به عليهم من صفات جماله ونعوت جلاله، ففرح بفرح الله رسولُه في قبره المكرَّم، ودينُه بين جراحاته الكثيرة، والملائكةُ في السماء، والمؤمنون في الأرض؛ فما عليهم أن يسجنهم أبناء الخنازير تارةً أخرى! والحُرُّ ممتحَنٌ بأولاد الزنا.

وأيضًا؛ فهاهي لذةٌ أخرى من لذَّات هذه الدنيا تتكدَّر علينا من بعد صفائها، ونصبح من بعد ليلٍ قصيرٍ بِتناه في ابتهاجٍ واغتباطٍ حزانى مكروبين؛ لِيُزَهِّدنا الله في هذه الدار الكاذبة الكاذبِ كل ما فيها، إلا الإيمان به وما والاه؛ فذاك الصدق وحده، ولِيُذَكِّرنا دار السلام عنده، تلك الدار التي سلمت بتسليم الله إياها فسلم كل ما فيها، لا أُفُول لسرورٍ ولا زوال لحُبورٍ، لا تعَكُّر لنعيمٍ ولا تكَدُّر للذة؛ بَيْدَ أنه إذا انْمَحَت فرحتنا بإنقاذ الله هؤلاء السادة؛ فإن ما كتبه الله لهم بنفسه في تاريخ دينه من موطئٍ وطؤوه أغاظ أكفر الكافرين؛ لا يُمحى أبدًا، ومن يمحو ما كتب الله! وإذا كان هؤلاء جواهرَ الناس؛ فما حقُّ الجواهر إلا أن تصان، والله يصون من شاء أين يشاء، وقد اختار لصَونهم هذا المحلَّ، فله الحمد حكيمًا وعليه الثناء.

وأيضًا؛ فإن الحرية حرية الأنفس والقلوب، ورُبَّ جسدٍ حرٍّ في صورته أسيرٌ في حقيقته، وكم إنسانٍ يراه الناس غاديًا في العافية ورائحًا فلا يشكُّون في حريته، وهو المتيقن وحده رَهْنَه وحبسَه! ومن نظر إلى المبتلين بالعشق قد ذلُّوا به وهانوا، وإلى القابعين في الفواحش عجزةً عن مفارقتها، وإلى الراكضين في الدنيا ركض الوحوش في البرِّية، وإلى عبيد الأغنياء ومَواليهم اللاهثين في مراضيهم؛ عرف ما الحرية وما السَّجن، ولم يزل أيسر شيءٍ على كل جبانٍ رِعديدٍ أن يستكين لعدوه إن هو عاداه؛ فأما هؤلاء السادة فأعز الله نفوسهم فلم تستكن، وجعل جنته في صدورهم فلم يبالوا بأغلالٍ وأنكالٍ. رَبِّ إني لأغار على عملهم أن يحبط بشيءٍ؛ فأسألك قبوله، وأن تثبتهم إلى لقائك فلا يُفتنون.

وأيضًا؛ فقد جلَّى الله لعباده بالقدَر حقيقةً كلَّفهم تبصُّرَها بالشرع فلم يفعلوا إلا قليلًا منهم؛ أن كفر الردة أغلظ من الكفر الأصلي من وجوهٍ بشريةٍ معقولةٍ وربانيةٍ منقولةٍ، وأن أشباه هؤلاء المرتدين الذين أسلموا أحبابنا شرٌّ نفوسًا وألعن طباعًا من الكفار الأصليين، ومن قايَس بين طواغيت العرب وبين طواغيت العجم في عداوة المسلمين؛ شهد الفروق. ألا فالعنهم الله لعنًا لا يغادرهم حتى يَقَرُّوا بقعر جهنم فتقرَّ عينُها بهم سُكَّانًا خُلِقت لهم وخُلِقوا لها، واضرب قلوبهم في الحياة الدنيا بصنوفٍ من الذل والخوف لقاءَ ما قصدوا بالخيانة من العزة والأمان، وسلِّط على أجسادهم أمراضًا لم تخلقها بعدُ لا يموت أحدهم بها ولا يحيا، ثم أضرِم لهم حُفَر قبورهم نارًا قبل حُلولهم فيها، ومن بات عنهم راضيًا.

هذه بعض حِكَم الله المستجلاة في عُجالةٍ، وإنها لأعظم من أن تُعدَّ أو تُحصى.

الكلام كلامان؛ كلامٌ بموجودٍ، وكلامٌ

الكلام كلامان؛ كلامٌ بموجودٍ، وكلامٌ بمهبودٍ. فأما الأول فهو الكلام -عياذًا بالله- بعلمٍ، وأما الآخر فهو الكلام برَزْعٍ، ويقال له: الهَرْي. وزعم ابن أبي هَلْكٍ في “قاموس اللتِّ والعَجْن” فروقًا بين الهَبْد والرَّزْع والهَرْي، ولا يَسلم خَبْطُه فيه من تكلُّفٍ، ولا مُشَاحَّة في الفَتْي؛ غير أن الشيء إذا كبُرت حقيقته كثُرت ألقابه، وليس هو بالمُطَّرِد؛ لكنَّ الأحكام أغلبيةٌ، والإطلاق لا يفيد الاستغراق. وقد عزَّ أن يخلو موجودٌ من مهبودٍ، ومهبودٌ من موجودٍ؛ فإن المتكلم بالموجود ليس بمعصومٍ؛ كيف هو في زمانٍ لا أيسر فيه من الهَبْد! لكنْ مُقِلٌّ من المهبود في الموجود ومستكثرٌ، ولولا حظُّ المهبود من الموجود ما راج رَوَاجَه؛ فإن المهبود المَحْض لا يكاد يروج في الخلق. وليس إنكار أولي العلم على أولي الهَبْد بأقلَّ من إنكار أولي الهَبْد عليهم؛ ذلك بأنه إذا قُسِمَت شجاعة الهبَّاد الواحد منهم على أمةٍ من عالمي الزمان لوَسِعَتهم؛ حتى تقهقر العالمون واقتحم الهابدون، ما استأسد الهَبْد إلا حين استنوق العلم، إلى الله أشكو عجز العالمين وثقة الهابدين.

أحبتي يا أنفَسَ النفوس معادنَ

أحبتي يا أنفَسَ النفوس معادنَ وشمائلَ؛ لم أقصد محو المنشورات وأنَّى!

إنما قصدت محو المحادثات في الخاصِّ كلها، ولم أفعل حتى الساعة لخللٍ في الوسيلة الماحية أستعين الله ربي عليه، محا الله ما تقدَّم من ذنوبكم وما تأخَّر أجمعين، وإليه -ودودًا شكورًا- يَكِلُ قلبي ذا مسغبةٍ مثوبة قلوبكم ذوات مرحمةٍ عن نبيل مودَّاتها. إيهًا يا حمزة المستور إيهًا! ما أرضى بختك بإخوانك! بَخٍ بَخٍ!

بالخبير أحلف ما أنا لبعض لطفكم وعطفكم ذَيْنِ بأهلٍ؛ كيف بهما جميعًا!

هو سترك اللهم وحده؛ ما أحلَاه وأجملَه! ما أعمَّه وأشملَه! ما أتمَّه وأكملَه! رباه ما كنا له ساعةً من نهارٍ مستحقين؛ لكنك السِّتِّير كثيرُ الستر عظيمُه، فبهذا سترتنا؛ رب فلا ترفع سترك فيما بقي من الدنيا وفي الآخرة عمن عودتهم حلاوته، وحَقِّ عدلك -لو عاملتنا به- إن الفضح بعد الستر مرٌّ مذاقتُه كطعم العلقمِ.

اللهم إني راجيك في أحبتي رجاءً عظيمًا، هو -لو تقبلته- أوفى مكافأتهم.

طهِّر بقُدُّوسيتك العليا قلوبهم، ونوِّر بنورك الأسنى دروبهم، واغفر بغفرانك الأرحم ذنوبهم، واستر بسترك الأجمل عيوبهم، واكشف برأفتك الكبرى كروبهم، فإن استجبت فيهم هذا فما عليهم في الدارين من بأسٍ ولا هم يحزنون، ولا أحظى منهم أحدٌ بشيءٍ ناله من نعيمٍ في العالمين؛ لا إله إلا أنت البر الكريم.

ما حيلتي وأنا امرؤٌ أهوى الهوى! أحبكم.. يحبكم.. محبكم.. حبيبكم.. أحبتي.

أمَّا أنا؛ فلا أزيد اللهم

أمَّا أنا؛ فلا أزيد اللهم قولًا -فيمن هرب من سجون اليهود- على التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد والتكبير والتهليل، بهذا ألوذ وأعتصم مقرًّا بالعجز عما سواه جميعًا ومعترفًا، لك الحمد بما علَّمتنا من الثناء عليك حمدًا كثيرًا.

هو الله ربنا وربهم، مولانا مولاهم، أولى بنا وبهم من أنفسنا ومن العالمين؛ علِم وحده، وخبَر وحده، وسمع وحده، وأبصر وحده، وشهد وحده، وأحاط وحده، وملَك وحده، وشاء وحده، وأذِن وحده، ودبَّر وحده، وصرَّف وحده، وقضى وحده، وقدَر وحده، وحكَم وحده، وفصَل وحده، وألْهَم وحده، وعلَّم وحده، وفصَّل وحده، وأحكم وحده، وشرَح وحده، وأعان وحده، واقتدر وحده، وأقدر وحده، وجبر وحده، وستر وحده، وقبض وحده، وبسط وحده، وقدَّم وحده، وأخَّر وحده، وأعزَّ وحده، وأذلَّ وحده، ويسَّر وحده، وعسَّر وحده، وخفض وحده، ورفع وحده، وفتَّح وحده، وغلَّق وحده، وقرَّب وحده، وباعد وحده، وأحيا وحده، وأمات وحده، وبصَّر وحده، وأعمى وحده، وأعطى وحده، ومنع وحده، ووصل وحده، وقطع وحده، ووسَّع وحده، وضيَّق وحده، وأظهر وحده، وأبطن وحده، وسكَّن وحده، وحرَّك وحده، وجمع وحده، وفرَّق وحده، وهدى وحده، وأضلَّ وحده، ونصر وحده، وخذل وحده، وضرَّ وحده، ونفع وحده، وبنى وحده، ونقض وحده، وآمن وحده، وخوَّف وحده، وأنجى وحده، وأهلك وحده، وقهر وحده، وذلَّل وحده، وغلب وحده، وسخَّر وحده، وشكر وحده، وبارك وحده، وكفى وحده، وهيَّأ وحده، ووهب وحده، وأكرم وحده، وجاد وحده، ولطف وحده، وبرَّ وحده، ورأف وحده، ورحم وحده، وتوكَّل وحده، وتكفَّل وحده، وقات وحده، وحفظ وحده، وصان وحده، وحمى وحده، وحسِب وحده، وأحصى وحده، وبدأ وحده، وأعاد وحده، ونوَّر وحده، ورزق وحده، وأغنى وحده، وبعث وحده، وعافى وحده، وتولَّى وحده، وأحسن وحده، وسلَّم وحده، وخلَّص وحده، وأنقذ وحده، وأحرز وحده، وأجار وحده، ووسِع وحده، وهيمن وحده، وعدَل وحده، وأجاب وحده، وكاد وحده، ومكر وحده، وسخِر وحده، واستهزأ وحده، وحاسب وحده، وعاقب وحده، وعذَّب وحده، وانتقم وحده، وأغفل وحده، وأخذ العيون والأبصار وحده، وورث وحده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، ما شاء الله كان، لا رادَّ لأمره ولا معقِّب لحكمه، أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، الواحد الأحد الصمد، الحي القيوم، ذو الجلال والإكرام، الأول الآخر الظاهر الباطن، بالغٌ أمرَه، غالبٌ عليه ولكن أكثر عبيده -واخجلاه- لا يعلمون. قل: الله، ثم ذرهم بمُلكهم يفرحون.

أمَّا أني أعقل اللهم -اليوم- مثقال ذرةٍ من الأسباب فيما أعجبتَ به وأدهشتَ؛ فأبرأ إلى وجهك الأكرم منها سببًا سببًا؛ ما عقل منها وما لم يعقل جميعًا، كافرًا بكل حولٍ منخلعًا من كل قوةٍ، لا أرى غيرك فعَّالًا في الوجود لما يريد، إن في قدرك لآيةً لكل ذي كُربةٍ يرى نفسه فيها محبوسًا لا مَخرج له منها، نستغفرك من سوء الظن بك؛ ما دقَّ منه وما جلَّ، ما ظهر منه وما بطن؛ لا إله إلا أنت.

من اغتاب عندك غيرك؛ اغتابك

من اغتاب عندك غيرك؛ اغتابك عند غيرك.

أهون ما تستحق إذا سكت عن مغتابٍ؛ أن يسلط الله لسانه عليك.

أَزِلِ المنكر أو زُلْ عنه، وإلا فأنت كصاحبه.

لا يُتصوَّر اجتماع المنكر ومنكِره طوعًا واختيارًا؛ إلا من جهلٍ أو عجزٍ.

اقطعوا ألسنة المغتابين؛ ذلك أرأف بهم.

ما لُطفك بالمغتاب تسكت عنه لئلا تحرجه؛ إلا إغراءٌ له بإحراج الله.

أرحم الرحمة بذي ذنبٍ عونُه على التَّوب.

غدًا يود العاصي إذا عاين النار؛ لو أنه مُنع من الخطايا منعًا غليظًا.

تبيع دينك لدنيا غيرك بخَرَسك عن باطله!

من أضلُّ من هذا في الدنيا وأغبنُ منه في الآخرة! عَوذًا بك اللهم.

تحذر إهانة المغتاب! فدينُك بالإكرام أولى.

قد أهان هو نفسه بالغيبة لا يبالي بها؛ فلا تزده أنت عند الله هوانًا.

أما الضاحكون للمغتابين رضًا؛ فشرٌّ وأخزى.

ليُحبسنَّ أقوامٌ على القنطرة في مظالم؛ فلا تكن لهم بالعجز قرينًا.

استغفروا الله مما سلف من ذلك، وتغافروا.

اللهم إني غافرٌ لكل مغتابٍ لي؛ عسى أن تثيبني مغفرة عبادك لي.