قالت: علِّمني دعاءً أدعو به

قالت: علِّمني دعاءً أدعو به لولدي الأسير؛ فلم يكُ له إلا صدري يحنو عليه.

رحم الله فؤادك أمَّ الأسير؛ قولي كلَّ لَسْعَة فؤادٍ: ربِّ إنك أسكنت ولدي سجنًا غير ذي أمٍّ، وإن حنانًا من لدنك خيرٌ له من حناني وأبقى، فاجعل أفئدةً من إخوانه تحنو عليه، لئن زال عني أُمًّا فقد بقيتَ له ربًّا، أنت به مني أولى، ما رحمتي له إلا أثرٌ من آثار رحمتك، هوِّن عليه وأمثالِه حتى تنجِّيهم؛ إنك أنت الرحيم الحكيم.

يا حبيبي؛ استغفارك من ذنبك

يا حبيبي؛ استغفارك من ذنبك مئة مرةٍ في دقائق -نادمًا عليه، عازمًا ألا تعود- خيرٌ لك من ساعاتٍ تشكو فيهن قسوة قلبك إلى من لا ينفعك إلا كلامًا، ولقد شكا جماعةٌ من الناس إلى المسيح ابن مريم -عليه صلاة الله- ذنوبهم يبكون منها، فقال لهم: “اتركوها؛ تُغفر لكم”. ذلك فِقه أنبياء الله كيف يُختصر الطريق.

ويح الحزن! لو كان رجلًا

ويح الحزن! لو كان رجلًا لقتلته؛ غلبتْ مغارمُه مغانمَه.

لا أعلم مَنفذًا للشيطان إلى المؤمن في صحوه ومنامه؛ كالحزن.

ينفذ إليه منه في صحوه فيُقْعده ويُرْقده، وفي منامه فيُفزعه ويُروِّعه.

يا حبيبي؛ إذا ناولك اللطيف سببًا يخفف حزنك؛ فتأدَّب مع الله وأكرِم نُزُلَه.

ما إسرافك في نومٍ ولهوٍ بدواءٍ لاغتمامك؛ بل يزيدان الداء عِلَّةً والطين بَلَّةً؛ فتنبَّه.

إذا لم تنشط مهمومًا للنوافل فالزم الفرائض، وتنعَّم بالمباحات حتى تستجِمَّ نفسُك، وأبشر.

قد ركَّبك الله من روحٍ وجسدٍ وعقلٍ وقلبٍ ونفسٍ؛ فراوِح بين قضاء حاجاتك جميعًا.

التحيُّز للآخرة والصبر والتوكل والدعاء وحُسن الظن بالله؛ أدويةٌ مهجورةٌ.

تنفع العزلة كل الناس بعض الوقت؛ لكنها تضر كل الناس كل الوقت.

السجود مَشْفًى، والقراءة سَفَرٌ، والبِرُّ بهجةٌ؛ تيقَّن هذا لا تجرِّب.

حتى أُولو الاكتئاب ينفعهم هذا، وطبيبٌ نفسيٌّ يَرهب الله.

“ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ

“ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ”.

“ثُمَّ بَدَا لَهُم”؛ البلطجة هي مُعتصَرُ مُختصَرِ قوانين الطغاة أجمعين.

“مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ”؛ إنه ليس دليلًا واحدًا على البراءة؛ بل وُفُورٌ وظُهُورٌ.

“لَيَسْجُنُنَّهُ”؛ العزل والتقييد والتحكُّم والتنكيل والقتل البطيء؛ إنها السجون مقابر الأحياء.

“حَتَّى حِينٍ”؛ جهالة الزمان في كل خطوةٍ من خطوات السجين؛ لكنَّ الله يعلم ويُحصي، وهذا كافينا.

بينما يحتار أحدنا ما يلبس

بينما يحتار أحدنا ما يلبس كلَّ خروجٍ من بيته؛ لا يحتار السادة الأسرى.

هم بين قابعٍ في محبسه لا يأذن له الكفار في تبديل ثوبٍ، وبين مأذونٍ له في التبديل مرةً كل حينٍ، فلو ترى ثيابهم لا تنفع في حَرِّ صيفٍ ولا تدفع قُرَّ شتاءٍ!

“عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ”؛ اللهم لأسرانا خالدين فيها أبدًا.

اسكت أو تكلم، اسكن أو

اسكت أو تكلم، اسكن أو تحرك؛ باقٍ عداؤهم لك ما بقيت لله وليًّا.

إنهم يحاربون الإسلام الذي في صدرك، يقاتلون العقيدة التي برأسك.

هذه الرَّصاصة التي يُسَدِّدها الكفر إلى صدرك؛ لِمَا رسخ فيه من الولاء.

تلك الشَّظايا التي أنفذها الطاغوت من رأسك؛ لِمَا ينفذ من رأسك من براءٍ.

ليس الشأن في لحيةٍ إذا حلقتها سكتوا عنك، ولا صوتٍ إذا خفضته قبلوا منك.

يا صديقي؛ سوى دهشاتك المُمِلَّة التي لا تنقضي؛ لا جديد بين ضجيج المَعْمَعَة.

إنه شَنَآن الحق مهما لَطُف في خفاءٍ معناه، ومنابذة الطُّهر مهما رَقَّ في جلاءٍ مبناه، حربٌ أولها: “لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا”، وآخرها: “حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ”.

لِمَحبةٍ وخشيةٍ وفرحٍ ومرحمةٍ فابكِ

لِمَحبةٍ وخشيةٍ وفرحٍ ومرحمةٍ فابكِ يا ولدي، ما لم يكن بكاؤك من عجزٍ فأرسِله إرسالًا.

يُلقِّنونك بالعامِّية صغيرًا: “العِياطْ مِشْ للرِّجَّالة”، ويُعلِّمونك بالفُصحى كبيرًا: “إنما يبكي على الحب النساء”، وأنت من قبل صِغرك إلى بعد كِبرك بين موجبات بكاءٍ جَوَّانِيَّةٍ وبَرَّانِيَّةٍ لا تنفد؛ فأنَّى لك!

لئن ذهبت المرأة بكَمِّ البكاء؛ فقد ذهب الرجل بكَيْفه، قد تغلب كتيبةً من أسباب بكاء المرأة -في بَسَالةٍ وتَجَلُّدٍ- مدةً من الزمان؛ ثم يغلبك جنديٌّ منها في لحظة هُزالٍ فلا يدَع عَبرةً في عينك إلا اعتصرها.

لون بكاء الرجال في الحزن أسود، وطعمه على الحب علقمٌ، ورائحته من القهر دُخَانٌ.

واعجبًا للقلب إذا أحب! المحبوب

واعجبًا للقلب إذا أحب!

المحبوب شاهدٌ عنده وإنْ غاب، دانٍ منه ولو قَصِي عنه، تَخْلُفُ أنفاسُه نفسَه فيُحِسُّه القلب على كل حالٍ، قليلُه كافٍ حين لا يكفي كثيرُ الآخرين، مبِينٌ وإن صمت بحضرة الثرثارين، سَبَقَ صِدْقُ فؤاده بالتي هي أفصح لسانًا، تبذل روحُه في المباهج رَهيفةً لطيفةً ما لا تبذل معشارَه الأجسادُ العديدة الكثيفة، وتقول عيناه في السُّلْوان والمواساة ما لا طاقة به للألسُن والأفواه، إنْ أبطأت في الشدائد أقدامُ المُدَّعين عَجِلَتْ جوارحُه شاديةً: أتينا طائعين، جُملته في وداده ووصاله فعليةٌ، لا يتأخر فيها ما حقُّه التقديم وجوبًا من غير إيجابٍ، قَفْرٌ مكانٌ ليس فيه جوارُه، وموحشٌ زمانٌ خلا من إيناسه، لو جُمعت الدنيا في لقمةٍ ثم حِيزَت بملء الأرض ذهبًا ثم وُضعت في فِيه لاستقلَّها القلب، خطؤه مهما جَلَّ سدادٌ وغَيُّه مهما جَمَّ رشادٌ، ما ساء من غيره حسُن منه، وهو في كل حينٍ جميلٌ.

يا محب الله؛ لا باب

يا محب الله؛ لا باب لمولاك يُدخلك عليه طيبًا مطيبًا؛ كباب الذل والافتقار.

قال ابن تيمية رحمه الله: الرب -سبحانه- أكرمُ ما تكون عليه؛ أحوجُ ما تكون إليه.

إذا أصبحت بهذا فقيهًا؛ أمسيت عن الله في بلاءٍ قدَّره ليُحوجك إليه راضيًا.